أوراق خريف العمر (الورقة الرابعة)
طرق ابوخالد الباب على استحياء، قد هاله ما حدث بين أبيه وزوجته التى غادرت المنزل غاضبة، تتحسس موضع اللطمة القوية التى سددها الجَدّ على وجهها، وتزرف الدمع مدرار، تاركة زوجها فى الخيار الصعب، بينه وبين أبيه الذى يكدر صفو حياتهما، مشيرة له أن دار المسنيين أولى به، ليعيشوا حياة سعيدة قد كان مطيعا لها حين أرسل أمه لتعيش فى بلدتها وجعل أبيه يعانى فراقها.
فَتح الباب، رمقه الجدّ بنظرة أيقظت الطفل الصغير فى دواخله، تتدفق الخوف القديم من صرامته، نظرأبو خالد إلى الأرض، لم يستطع النظر إلى عينيى أبيه التى تقدح الشرر. هل هذا أبى المسن حقا؟ من أين له هذه النظرة المخيفة، لابد أن زوجتى قد أجرمت جرما كبيرا هكذا حدث نفسه، بحث عن صوته ليتحدث فلم تساعده حباله الصوتيه فصار يتمتم..أبى..أ بى...أنا..
ــ ماذا تريد؟
ــ أريد الاعتذار لك عما حدث..
قاطعه بنبرة حادةـ لا اريد اعتذارك.. إلا مشروطا و..
قال بانكسار فاق تصور الأب ـ اشترط كما تشاء تجدنى مطيعا انفذ لك ماتريد لقد أخطأت بحقك..
ــ أنا صاحب هذا المنزل بنيته بعرق جبينى.. اريد إغلاق هذا السجن الإنفرادى وأعود إلى حجرتى.. لقد صبرت على جحودك.. وطردك لأمك ابتغاء مرضاة زوجتك، وجعلتنى وحيدا بعيدا عن التى شاركتنى حياتى لتعيش أنت وزوجتك على حطام حياتنا، لا لا وألف لا ... لابد أن تأتى أمك لتكمل رحلة الحياة معى.
أومأ الأبن مؤيدا مايقوله ، ثم رفع الأب يده عاليا متوعدا ــ هذه اللعينة... لا أريدها هنا... اذهب وعش معها حيث تريد. فقط لاتحرمنى من حفيدى ..هذه شروطى لن اتنازل عنها.
خرج الابن مشدوها كماأتى لايصدق مايجرى حوله.
استعاد الجَدّ حجرته داخل المنزل حين عادت زوجته، وصارا يجترا نهارات الذكريات و ذاب جليد الشيخوخة. عادت الحياة للمنزل وجاء الأصدقاء القدامى لزيارته، وصار يخرج معهم وتحرر من سجن العمر الإختيارى بذهابه إلى النهر وممارسة الصيد كما كان قديما. وجد الحاج عبد القادر الذى يكبره بعشرات السنيين مازال يبحر بقاربه شمالا وجنوبا، قوى العضلات سليم البنية، لم يخرج من الحياة ليتركها لأبنائه، عادت بينهما علاقة الصداقة القديمة.
كان القارب يشق عباب النهر، الأشجار تمر متسارعة على الشاطئ المكسوة بخضرة ممتدة على مدى البصر، والنسائم تداعب ماتبقى من شعيرات بيضاء على جانبى رأسه. وطيور الماء تداعب باجنحتها الخفاقة السطح فتتطاير ذرات المياه وتسقط على جسده، فتسرى قشعريرة لذيذة تذكره بأنه مازال على قيدالحياة. انتشى متسائلا لما ذا أدرت ظهرى للحياة؟ لدى هذا الإحساس بها واستسلمت لسجن العمر.. لكزه الحاج عبد القادر مداعباــ فيما تفكر أيها العجوز؟
صمت الجدّ ثم قال: فى تلك السنين التى عشتها خلف القضبان...
دهش الحاج : هل كنت مسجونا.. حقيقة لم أرك منذ سنيين خلت...
ضحك الجد : لقد ادخلنى ابنى سجن العمر لينعم بما خلفته له من النعم...
هزّ الحاج رأسه مستنكرا وتمتم ــ من ابنائكم عدوا لكم فاحذروهم ـ... الحمد لله لم اترك لهم حياتى فقد جعلتهم يكدحون كما أنا ليعرفوا قيمة العمل لم اخلع جلدى طوال عمرى ولم أسلم أمرى لغيرى سأعيش حياتى ما دمت على قيد الحياة...
قال الجَدّ:إن الحياة لا تتركنا بفعل العمر.. والشيخوخة لا تأتى بالموت... نحن الذين نتركها ويلفنا النسيان أحياء كالأموات..
الحاج عبد القادر استمع موافقا على ما قال الجد وردد مداعبا: تجربتك جعلتك فيلسوفا كما عهدناك...
قال الجَدّ مسترسلا: فى حياتنا دائما يوم غد آخر حتى نموت... لكن لماذا نجعله يقطعنا ونحن رقود فى حجرات سجن العمر...آه.. لقد اضعت سنوات غالية من عمرى.. لن تعود
قال حاج عبد القادر مواسيا: انسى ما مضى.. ولنعش اليوم... وننتظر الغد بمايأتى لنا....
ران صمت بينهما، تخلله صعود وهبوط القارب مدفوعا بفعل الموج التى تكسرت على سطحه اشعة الشمس الغاربة فلونتها بلون الذهب. ترجل الرجلان من على القارب. كان الحاج عبد القادر يشد الحبل لربط القارب بساعديه القويين. حينها نظر إليه الجَدّ بإعجاب رجل يكبره ويمتلك كل هذه القوة وحب الحياة.
إنحنى الجد وغرف بيديه ماءا من النهر غسل وجهه، ثم شهق مستنشقا عبير االشاطئ، متحررا من سجن العمر، ونثر الماء بعيدا فتطايرت ذرات الماء كالبلور تلألأت وتلونت بألوان قوس قزح همس الجَدّ سراـ ما أحلاها الحياة. ومضيا على أمل اللقاء.