إنه سمير بك .. ألا تعرفه ؟ إنه مسئول كبير فى إحدى الهيئات ، وصاحب شركة استثمارية كبيرة ، وهو أيضا يمتلك قناة فضائية .
كيف لا تعرفه ؟ إلى متى ستظل مغيباً عن هذا العالم ؟ ألم يحن الوقت الذي تخرج فيه من قمقمك ؟ الدنيا تتغير كل يوم ، بل كل لحظة وأنت لازلتَ مكانك منذ عشرين عاما ً ونحن معك !
هكذا أجابني زميلي ونائبي العزيز "محمود " عندما سألته عن هوية ذلك الرجل البادي الثراء الذي خرج لتوه من مكتب المدير ... ، ومحمود دائما ً هكذا موجوع ومغتاظ لأنني أسير دائما ً عكس التيار ، وأقف بالمرصاد لكل محاولة للسير معه ، ومحمود يضعني دائما ً على قائمة الأسباب التى أدت إلى تدهور حالته الاقتصادية ، وتردى حالته النفسية ، وانهيار حالته الاجتماعية .. وكثيرا ما تمنى زوالي .. وكثيرا ً ما دعا على فى حضوري وغيابي وسره وعلانيته ، أن يبتليني الله بشئ دون الموت يلزمني الفراش ، أو على الأقل " أسوى المعاش " أو يتم نقلى إلى قسم آخر ، حتى يهنأ هو بالهدايا والهبات والعطايا التى يتوقف مجيئها على توقيعي أو على سكوتي .
* لم أهتم كثيرا بسمير بك الذي يوزع الأموال والشيكات كما يوزع الابتسامات ، ودفنتُ رأسي فى الأوراق المُكومة على مكتبي ، إلا أنه هذه المرة أثار دهشتي وشكوكي ، عندما تقدم إلى مكتبي بخطى ثابتة واثقة ، وبدخان سيجاره الغليظ ، وبنظارته السوداء التى تخفى من وجهه أكثر مما تظهر .
* تساءلت فى نفسي .. ماذا يريد منى هذا الرجل ؟
ربما أثاره هدوئي وعدم اكتراثي به مثل الباقين ، أو لأنني لا أنهض من مكاني لألاحقه بالتبريكات والسلامات والدعوات وهو فى طريقه إلى مكتب المدير ، ثم وهو فى طريقه إلى خارج الشركة .
* وقف أمام المكتب ببذلته الزاهية وجسده الضخم ، حتى أنني لم أستطع رؤية الواقفين خلفه من الموظفين والعمال ... ، نظرت مندهشاً إلى زميلي ونائبي " محمود " فوجدته واقفا ً مبتسما ً ، يستحثني ويشير إلى بيده لكي أنهض من مكاني ، إلا أنني ظللت صامتا ً ثابتاً .
* تساءلت للمرة الثانية وسمير بك واقف أمام المكتب بأبهته ودخان سيجاره .. ماذا يريد منى هذا المسئول الكبير الذي يضرب به المثل فى الثراء والبذخ ؟
وماذا بيدي أنا لأقدمه له ، وهو صاحب العلاقات والصداقات ، إنه ليس بحاجة إلى رشوتي حتى أمرر رغباته أو أنفذ طلباته ، فهو بكلمة واحدة لمدير الشركة يستطيع فعل أي شئ .
* خلع سمير بك نظارته السوداء فالتقت نظراتنا ، استفزني عندما انفجر فى الضحك وظننته يهزأ بى ، فسألته فى غضب : ماذا تريد ؟
من أنت ؟
قال : أخيرا ً سمعت صوتك .. لماذا أنت صامت هكذا ؟
ألستُ ضيفا ً عندكم ، لماذا لا ترحب بى مثل الباقين ؟ إننى أستغرب ذلك منك وأنت أولى الناس بالترحيب بى ، أنا لم أستدل عليك إلا الآن عندما تردد اسمك أثناء وجودي فى مكتب المدير .
* قلتُ : وما صلتي بك يا سيدي ؟ دعني وشأنى ، فأنا لدى ابنة أريد تربيتها ، أنا مجرد موظف على قد حالي .
تعللتُ بالأوراق أمامي ، فوجدته يستند بيديه على المكتب ، ويقترب بوجهه حتى كادت جبهته تلاصق جبهتي ، وقال .. ألا تذكرني أيها الرجل الطيب ؟
قلت : من أنت ؟
اعتدل واقفا ً وأخرج من جيب جاكتته الكارت الخاص به وألقى به على المكتب ، وقال: ألا يُذكرك هذا الاسم بشئ ؟
قرأت .. سمير عيد عبد المنعم !
* نهضتُ من مكاني غيرَ مصدق ، واندفعت نحوه ممسكا ً بخناقه ، وقبل أن أتفوه بكلمة جذبني من يدي وركض بى فى خفة وسط ذهول الزملاء .. دفعني بشدة داخل مكتب المدير وأغلق علينا الباب .
* بدا سمير أمامي كما كان فى الماضي نحيلا ً هزيلا ً ، لا يكاد يجد ما يسد به رمقه ، ساخطا ً على كل شئ ، راغبا ً فى فعل أي شئ ليغير واقعه ، ناقما ً على الأغنياء ، لاعناً الفقر والفقراء .
* قلت : يا سيادة المدير ، هذا الرجل مدين لي بمائة جنيه !
* انفجر سمير فى الضحك ، قائلا ً ودخان سيجاره يكاد يخنقني : هذه المائة جنيه أعطيها اليوم لسائقي بقشيشاً .
* قلت : هل تذكر كيف استوليت على مالي وهربت ، هذه المائة جنيه كانت هي كل ما أملك ، وأنت تعلم أنني ادخرتها لأتزوج بها ، إنها تساوى الآن أكثر من مائة ألف .
قال : سأعطيها لك مليونا ً بشرط أن تخفض صوتك .. ألا تعرف من أنا ؟
نظر إلى صديقه كأنه يطلب منه المساعدة ، ثم نظر إلى نظرة حنين مصطنع وهو يقول : أبعدَ كل هذه السنوات تنسى كل شئ ، وتتذكر فقط هذا المبلغ التافه ؟ هل أنت راض عما أنت فيه الآن .. هل هذا هو كل طموحك فى الحياة ؟ تعال معي وأنا أعاهدك أنني سأغيرك وسأجعل منك شخصا ً آخر وسوف أجعلك تعيش حياة غير الحياة .
* قلت : لا ، إنني لا أريد سوى المائة جنيه التى سرقتها .. أريد حقي فقط .
* قال : ولا تتفوه بكلمة ، ولا تخرج لتعلن على الملأ أنني كنت مدينا ً لك بمائة جنيه ؟
* قلت : نعم
* ألقى سمير بك المسئول الكبير والمستثمر العظيم وصاحب الفضائيات بورقة من فئة المائة جنيه على الأرض ، فانحنيتُ والتقطها .. وخرجت من مكتب المدير لأجد زملائي مجتمعين أمام الباب فى انتظار الخبر .. قلت لهم : كل عام وأنتم بخير ..لقد طلبتُ سلفة و حصلت على مائة جنيه لأقدمها عيدية لابنتي .