كتب في الذاكرة ـ [ الاعتبار ] : أسامة بن منقذ

ليس في كتب «أسامة بن منقذ» على كثرتها، وتعدد فنونها، ما يعدل «كتاب الاعتبار» فهو أروعها وأكثرها اثارة، فقد كتبه في المرحلة التي يكتمل فيها لمثله، من سعة التجربة، وعمق الادراك، وطول المعاناة، ووفرة الذكريات.


ويخيل للقاريء وهو يقرأ كتاب «الاعتبار» ان «أسامة بن منقذ» المتوفى عام 584 هجرية كان يسترجع فيه حياته، ويقلب النظر فيها، ويستخلص عبرها، على نحو ما يتفق لمن يكون في مثل سنه في بعض مجالس السحر، فكأنه كان يحدث به سماره، فيكتبه بعضهم عنه.


وفيه من تداخل الذكريات وغلبة بعضها على بعض، ومن حرارة التصوير، مالا يكون مثله إلا في مجالس السحر والحديث، حتى ليبدو ان تسمية الكتاب بذلك قد جاءت نتيجة الاحاديث التي كانت في هذه المجالس، والغاية منها استخلاص العبرة، والانتهاء بها الى «ان ركوب اخطار الحروب، لا ينقص الأجل المكتوب والعمر مؤقت مقدر لا يتقدم اجله ولا يتأخر، والنصر في الحرب من الله» على ان قيمة الكتاب، تبدو في حسن تصويره لمجتمعه، الذي كان يضطرب اضطرابا عنيفا بما يلقى من كثرة الفتن، وتفرق الاهواء، وغلبة الاطماع، واختلال الامن وظهور بعض التيارات الفكرية المتطرفة، وما كان عليه حال الناس في ظل غزو الافرنج خلال الحروب الصليبية.


وبذلك يبدو الكتاب وثيقة حية من وثائق الحروب الصليبية، لا نعرف له شبيها، فإن اسامة بن منقذ لم يكن يعبأ بأخبار المعارك والتأريخ لها على نحو ما نعرف في الكتب التي أرخت، ولكنه كان يصور حياة الناس التي تجري تحت سطح هذه الاحداث الدامية، ويقف عند الصور العميقة المؤثرة منها، وما كان يقع لهم داخل بيوتهم، وفي مواطن جدهم ولهوهم، وما كانوا يقولونه لأنفسهم وهم يواجهون الموت، أو وهم يعاملون هذا العدو الغريب الذي يتكلم لغة لا يفهمونها، ويبدو فظا غليظاً لم تصقله الحضارة.


كما ان الكتاب يحتوي على صور العادات في الافراح والاحزان، وصور الطبيعة في بعض مناطقها، مما يجعله وثيقة اجتماعية نادرة، ولهذا السبب ترجمه الغربيون الى الفرنسية والألمانية منذ وقت طويل، ثم ترجم الى الروسية كما يعد هذا الكتاب من كتب السيرة الذاتية النادرة.


واسامة بن منقذ احد افراد اسرة أقطعها «صالح بن مرداس» الذي كان يحكم «حلب» اقطاعا في جوار قلعة «شيزر» الاثرية شمالي «حماه» على ضفة العاصي، في موقع خطير حصين، وقد كان عمه يعده للامارة من بعده، فكان يدفعه في المضايق الصعبة ويندبه للمهام القوية، على انه فضل الذهاب الى دمشق مصاحبا فيها «عماد الدين زنكي» وابنه «نور الدين» وشهد معهما معارك كثيرة مع الافرنج.


يقع كتاب «الاعتبار» في ثلاثة اقسام: القسم الأول: الذي يحفل بأخبار الحروب، وهو أغناها وأكثرها قيمة، وعلى هذا القسم تقوم شهرة الكتاب وقيمته الحقيقية، وفيه من روح المقاومة وبث الثقة، والاعتبار بما تم تحقيقه تلك الايام والشيء الكثير الكثير، كما انه مفتاح لاستخلاص الدروس والعبر.


أما القسم الثاني، فإنه يتعلق بأخبار الصيد والقنص والجوارح، وهو قسم حافل مثير ايضا، حكى فيه «اسامة» حكايات مشاهد الصيد التي حضرها في «شيزر» مع ابيه واهله وغلمانه، وحكايات الصبر مع «عماد الدين زنكي» في «الموصل» وكذلك في «دمشق» و«مصر» و«ديار بكر» وغيرها، ومع كبار رجال عصره.


اما القسم الثالث، فهو ملحق بالكتاب فيه طرف من أخبار الصالحين، الحقت بالكتاب الحاقا، فليس لها صلة به ولا بموضوعه.


ويبدو لنا من الكتاب، كيف ان الامور اقتضت ان يرحل «اسامة بن منقذ» الى «مصر» وذلك سنة 540ه، ليشهد الاحداث الدامية الاخيرة في عمر الدولة الفاطمية، وكيف انه اتصل بأسرارها ورجالها، وكيف انه عاد بعد تسع سنوات، فأغار الافرنج على مركبهم، ونهبوا ما فيه، لكنه لم يأسف على شيء قدر اسفه على كتبه التي بلغت اربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة حتى قال «فإن ذهابها حزازة في قلبي ما عشت» وكان من قدر «شيزر» بعد ذلك، ان دهمها زلزال مخيف سنة 559هـ هد اركانها، ودمرها تدميرا كاملا، وقضى على اهلها، فلم يبق من «بني منقذ» احد ممن كانوا فيها،


فكأن ما وقع لأهله من الابادة، وما جرى له في مصر والشام، وما شهده من النكبات العظام، دفع به الى الاعتكاف في حصن «كيف» على نهر «دجلة» فعكف فيها على الكتابة والتأليف استدعاه السلطان «صلاح الدين الايوبي سنة 570 ه، واقطعه ضيعة في اطراف «المعرة» وأخذ يستشيره في امره، ويكتب اليه احيانا اخباره حين كان يخرج الى قتال الافرنج

أشكرك شكرا جزيلا على هذا التقديم المتميز
استمعت كثيرا جدا بهذا النظرة الموجزة لمضمون الكتاب ، إذ يبدو كتاب شيق بالفعل وجدير بالقراءة... لك كل الشكر والتقدير.