كانت لعبتي المفضلة، مثلثٌ خشبيٌّ فوقَ الطاولة، كراتٌ من الخشبِ مرقومةً تُرصُّ، مضاربُ بنهاياتٍ مدببةٍ، تتربصُّ بالكراتِ رفعَ الطوقِ؛ لتنقضّ فتقنصَ بعضًا وتتركَ بعضًا يموجُ في بعض!
لكنْ وديعةً كنتُ رفيقةً، يوشكُ مضربي ألا يمسَّ الكرةَ؛ فتمضيَ وئيدةً، ليطولَ على القُساةِ الأمدُ، وينفرون، وأؤثرُ اللعبَ وحيدة!
مشكلةٌ أنَّ القسوةَ لم تُصِبْ قلوبَ اللاعبين – رجالاً بخاصةٍ – فحسب، بل امتدت عواملُ التقسيةِ للكراتِ ذواتِها؛ لتغدوَ أصلبَ و.. وأكبرَ حجمًا!.. وتنشأَ عقدةُ الحشرِ!
يا إلهي!.. كم هو عسيرٌ حشرُ آخرِ الكراتِ داخلَ النطاقِ – وقد زحفتْ على حصتِها الأخرياتُ – وكم أبذلُ من جهدٍ.. وأبكي مشدودةَ الأعصابِ أوقاتا!
يتابعُ أبي المشهدَ من طرفٍ خفيٍّ، مكتّمًا ضحكاتِه؛ لئلا أشعرَ بوجودِه، فتنتابَني حالةٌ من الارتباكِ والرعبِ الشديدين!.. لطالما أثارت دهشتَه واستهجانَه:
- ماذا بها؟
- خائفة
- مني أنا!
- من كلِّ الرجال
- ولكني أبوها!
- غدا تكبرُ وتعي هذا
- ولكن...
- "ولكن.. ولكني.. ولكنها.."! ألا تكفَّ عن هذا!.. دعها وشأنَها.. ما زالت طفلة.. لماذا تشغلُ نفسَكَ بالتفاهات؟!
- ماذا؟.. تفاهات!
يحتدمُ الصراعُ بينَهما.. يفقدُ أبي صوابَه.. تصرخُ أمي في وجهِه.. ينهالُ عليها ضربًا وشتمًا.. أتشبّثُ بالفراشِ.. أدفنُ رأسي تحتَ الوسادةِ.. أنتحبُ.. ثم ألوذُ من رمضاءِ عراكِهم بنارِ الكوابيس!
هؤلاءِ المتوحشون – الرجالَ – يحاولون عبثًا إثباتَ صلتِهم بالرقةِ واللينِ! ودائما يثبتُ العكسُ؛ لا صلةَ لهم بغيرِ الوحشيةِ، القسوةِ، الدمويةِ، والجنونِ!..
عندما كنتُ عصرَ يومٍ أحاولُ حشرَ كُرتي الأخيرةَ كالعادةِ؛ تقدّمَ مني أبي – أحدُهم! – ورفع يديَ الممسكةَ بالكرةِ، ووضعَ محلَّها كرةً أخرى، جديدةً.. صغيرةً.. وجميلةً، استقّرت في قلبي قبلَ أن تستقرَّ في موضعِها! غيرَ أنَّ حالةَ الرعبِ المعتادةِ حالت دونَ أن أكملَ اللعبَ؛ فرفعَ أبي الطوقَ الخشبيَّ، وأمسكَ مضربًا.. ليسددَ به ضربةً – كما توقعتُ! – رجوليةً/ قاسيةً/ متوحشةً/ دمويةً/ مجنونة! ولم تحتملْ كرتي المسكينةُ ضربةً كهذه من أمامٍ، ومن خلفٍ ردةُ فعلٍ أعنفَ لكُراتٍ عتيقةٍ قاسيةٍ!.. و.. يا إلهي!.. انفلقتْ!
طالعني لحظةَ انفرجَ بتثاقلٍ جفناي وجهُ أمي الحنونِ باسمةً:
- حمدًا للهِ على سلامتِكِ يا ابنتي..
مسحَت بكفِّها شَعري:
- ماذا أصابَكِ؟.. انهيارٌ عصبيٌّ.. وغيبوبةٌ ليومين.. من أجلِ كرةٍ انفلقت!
أغمضتُ عينيَّ وأنا أستذكرُ الموقفَ، وأمي تستطردُ:
- سامحَ اللهُ أباكِ!.. الكرةُ الجديدةُ أضعفُ من أن تتصدرَ المجموعةَ.. لولا وضَعَها في الخلفِ.. أو حتى وسطَ الكُراتِ فتحميَها..لا عليكِ.. سأشتري لك كرةً أجملَ منها...
- لا!..
صحتُ أقاطعُها.. وعيناي تجحظان.. فانتابها الذعرُ، وهبّتْ من مجلسِها هاتفةً:
- كما تشائين.. كما تشائين..
جاهدتُ لأرسمَ على شفتيَّ ابتسامةً مطمئنةً.. قبلَ أن أعتدلَ جالسةً؛ لأقرّرَ بصوتٍ قويٍّ:
- أريدُ مجموعةً كاملة.. من الكراتِ الجديدة!