لقاء
كان في السوق يستكملُ حاجاته ، وأمامَ واجهة أحد المحالّ كادَ يصطدمُ بها تُمسكُ بيد طفلة صغيرة .. تَصافحا بشرود وبابتسامتين أليمتين ! احمرّت وجنتاها المُطلّتان عبرَ حجابها الأسود المحتشم ، ولكنها بدتْ طافحةَ السرور . أمّا هو فتسارعت دقّاتُ قلبه ، واصطكتْ ركبتاه قليلاً ولفّه الصمتُ حتى خُيّل إليه أنّ محالّ السوق الكبيرة كلّها قد أغلقتْ أبوابَها من أجلهما ، وأنّ الناسَ تواروا تعظيماً لهذا اللقاء ! وعبقَ بأنفه عبير وردٍ جوريّ يعشقه ..
سحبتْ كفّها من كفّه بلطف .. كفّها الذي طالما سَرحَ في دنياه !
- قال : يا لها من مُصادفة !
- أربع سنوات !
- كنتُ أرجو ولو مُصادفةً واحدة .. خلال هذه السنين ..
- كنتُ مُسافرة .
- حقاً ؟ !
- أجل ، كنتُ في فرنسا مع عادل . كان في بعثة علميّة .
- زوجك .
- نعم . وأبو هذه الطفلة الأميرة ... هبة .
- ما شاء الله .. ربّنا يخلي ويحفظ . الشَعرُ نفسُه !
ازدادت حُمرة وجنتيها وهي تهزّ رأسها موافقة .
- وأنتَ ، ما أخبارُك ؟
- الحمد لله ، أنهيتُ خدمة الجيش ، وعدتُ إلى وظيفتي القديمة .
- في الشركة ؟
- نعم . بانتظار فرصة للسفر ..
- طالما تمنيتَ أن تُسافر .
أجابَ مبتسماً يُخاطبُ عينيها :
- أن نُسافر ..
هربتْ من نظرته إلى كفّه ، وافترّ فمها عن ابتسامة عتاب .
- وأنتَ تزوجتَ أيضاً !
- لا لم أتزوج ..عقدتُ قراني .. منذ سنة تقريباً .
- والزواج ؟
- لعلك تعجبين ... غداً مساءً ... تصوّري !
- غداً غداً ؟!
قالتها باضطراب ظاهر ّ ..
- نعمْ غداً غداً ، وأنا الآن في السوق لأستكملَ بعضَ الحاجات للحفل .
- مُبارك . أتمنى لك السعادة .. من كلّ قلبي .
- شُكراً .
ثم نظر إليها نظرة تحمل التوسّل والرجاء .. التقتْ عيونهما برهة.. شعر بمرارة لئيمة تجتاحه اعتصرتْ قلبه ، وهيّجت قرحته التي يُعاني منها منذ افترقا !
- مَيّ ، أتمنى أن تحضري حفلَ الزفاف غداً . أتأتين ؟
- لا أدري .
- أرجوكِ ..
سكتتْ قليلاً ، ثم سألته :
- أين ؟
- في بيت أهلي ، تعرفينه .
- طبعاً ... ولكنْ ..
- ستأتين ، من أجل خاطري ..
- لا أدري يا مُختار ، سأحاول ... ولكن ، عادل .. ماذا سأقول له ؟!
- قولي له إنه حفلُ زفاف صديقتك .
- لا يُمكن ، هو يعرفهنّ كلّهن ..
- إذاً صديقة صديقتك ...
وضحكا معاً
قطعت ضحكتَها وسألته :
- بالمناسبة ، من تكون ؟ أكانت معنا في الجامعة ؟
رفعَ رأسَه بالنفي وقال :
- لا .. لا .. أنتِ لا تعرفينها . سيّدة بيت .. بنت حلال .
قالت باسمة وهي تهزّ رأسها عدّة مرّات :
- طبعاً طبعاً .. سيدة بيت ، بنت حلال .. توقّعتُ ردّكَ هذا ... أنت لا تتغيّر يا مختار .
هزّ رأسه موافقاً وهو يتأمّل في عينيها :
- هو المبدأ يا ميّ ، مبدأ دفعتُ ثمنه وأدفع ... لو تعرفين الثمن يا ميّ !
- الندم ؟
- لا .. لا ، لم أندم قطّ ، تألّمتُ كثيراً لكنني لم أندمْ ..
- ماذا إذن ؟
- أجابها وهو ينظر إلى موقع قدميه يُحاول إخفاء انفعاله :
- لاشيء .. فقط ... كنتُ أتمنى أن أعيش مع مَنْ أحببْتُها ..
- ..........
- رفع نظره إلى وجهها ليرى وقعَ جوابه عليها .. كانت تعضّ على شفتها السفلى ! ثم رسمتْ ابتسامة سريعة ، وقالت :
- كنتَ عنيداً !
- أنا ؟! وأنتِ ، ماذا كنتِ ؟!
- ما ذا كنتُ أنا ؟
- أنتِ ... كنتِ بلا هُويّة يا ميْ .. ضائعة .. مع كل عفافك وطيب منبتك كنتِ تائهة !
تغيّرتْ ملامحُها قليلاً ، وبدت كمن هاجه جرحٌ قديم ! ثم أجابت بتلك البسمة المصطنعة ذاتها :
- وكنتُ متمرّدة على من كان يُحبّني ، ويرشدني .. وكنتُ أظنه متخلّفاً يعيش في عصر آخر أكل الدهرُ عليه وشرب ... أليسَ كذلك ؟
- بل كان يتمنى أن يحفظك بين جفنه وعينه ، ويمنحك شبابه ومستقبله .
- لعلّي تغيّرتُ قليلاً .. أقول قليلاً . ثم ضحكتْ بغنجها الذي يسحره .
دسّ كفّه في جيب سترته .. خاف أن تنقضّ على كفّها !
- إنّه القـِسْمُ والنصيبُ يا مختار ..
ثم نظرت في ساعة معصمها .. وقالت له باسمة :
- ألا ترى أنّ الحديثَ طالَ ، والوقتَ سرقنا .. وأين ؟! على الرصيف ؟!
فنظر هو الآخر في ساعته :
- لكننا لم نشعر بالوقت !
- إي والله !
تصافَحا للوداع ، وقبلَ أن يُطلق كفّها سألَها مرةً أخرى :
- ألن تأتي يا ميّ ؟ عِديني أن تأتي ..
أجابته باسمة وهي تتأهّبُ للمسير :
- حسناً . أعدك ، سأحضر ، بعدَ أنْ أراجع الجزء من القرآن الذي وصلت عنده .. وإن سمحَ لي عادل ، ولم تؤخرني أعمال البيت .
وألقت نظرة إلى طفلتها وتابعت :
- وإذا أطاعتني هبة ونامت مع جدتها .. المقيمة معنا .
كانَ يًُصغي إليها باستغراب .. وألم ! .. أكملت تغادره وهي تضحك :
- ألم أقل لكَ : لعلّي تغيّرت ؟!