قالت لزوجها : ها أنت قضيت ثلث عمرك وأنت بعيد عنا ، تحارب ولا أعرف من تقاتل . عدت وأنت معطوب الأعضاء ، منزوع الطاقة .. سئمنا سكون الجدران ، كفى صبراً هادئين على الجوع الضاغط على بطوننا ..
أحس بزلزال يهز قـلبه ، رسم على جبينه خطوط يأس وإحباط . نظر إليها الزوج مبتسماً ، وهو يستجمع لعابه المنفلت بمنديل أحمر من شفتيه ..
في ليل يتدثر بالسواد ، خرجت متسللة بدون أحلام ، والبرد القارس يعتصرها ،همها أن تصل إلى مدينة الإسمنت في وقت وجيز ..
مضى زمن وبن حمو يترقب وينتظر رنة عتاب السماء . كبر أحمد ونضج ، صورة أبيه لا زالت محفورة في ذاكرته .. سأل أمه ، طارت من هول السؤال ، عضت على شفتها السفلى ، صفعت خدها ، تمنت لو خسفت الأرض بها .. سبت ولعنت الجيران ، كان عليها أن ترحل إلى حي آخر.. ضغط وألح ، بعصبية حادة قالت : إنه هناك ..؟
عاد أحمد ولد فاطمة إلى القرية يوزع للريح أدمـعاً ، يهب قـبلات للفراغ . نبش ، ود أن يلمس سقف الحقيقة بأذنيه ، أن يحد من إشاعات أفواه الجيران ..
أبصر خرائب ملها الزمان . بحث بعينيه بين الأنقاض ، سأل والحسرة تقف على لسانه ..
وجد أباه على فراش الموت وقد أكل الزمن من جسمه ، لاك لعاباً يابساً ، تلعثم وقال :
ــ من أنا يا أبي ..؟
خرقه بن حمو بنظرة حادة ، لمس يد أحمد مدة ، شد عليها بقوة .. أشـاح بوجهه متمتماً ، هم أن يقول شيئاً ، لكنه مضغ كلمات مبهمة من تحت لسانه .. اغرورقت عيناه بالدموع ، شهق شهقة خسر فيها روحه ، فاختبأ الجواب مع أنفاسه إلى الأبد ...