هاتفٌ في الفَجْر!
على غيرِ موعد، رنَّ جرسُ الهاتفِ في السَّاعة الرَّابعةِ فجراً ، وحقيقةُ الأمرِ إنني لا أُحبُّ هذا الرّنينَ في هذا الوقتِ من اليوم، ولا أُحبُّ هذا الرنينَ من الساعةِ الحاديةِ عشرةَ قبيلَ منتصفِ الليلِ حتى ساعةَ النُّهوضِ من النومِ في الصَّباحِ،حيثُ إنني أَفترضُ سوءَ الطَّالعِ في مالا تحمدُ عقباهُ في حصولِ أمرٍ جلل، كأنْ حدثَ ذاتَ مرَّة أنْ رنَّ جرسُ الهاتفِ في الثالثةِ صباحاً فكان نعيَ والدتي !
رفعتُ السماعةَ..تحدَّثَ رجلٌ في الطَّرفِ الآخرَ من َالهاتفِ بصوتٍ غليظٍ فيه حشرجة، مما يعتري الصوتَ من الغلظةِ عند الاستيقاظِ من النَّوم، صوتٌ أجشُّ كأنه قادمٌ من بئرٍ عميق،عرفتُ الصوتَ..قال الرجلُ:ماتَ أنيس..
ـ:ماذا قلت؟ ..من مات ؟!
ـ:مات أنيس..!
ـ:ماذا تقولُ يا رجل ؟!
رأيتُه أمسِ باسماً ضاحكاً في صحةٍ جيدة..يلبسُ بذلةً أنيقة!!
قال:بينا هو جالسٌ في الباص، في الطريقِ ليدعوَ أختهِ لتناولِ طعامِ الغذاءِ معه ُ يومَ الجمعةِ في بيته...دهمتهُ الجلطة.ُ.فحدث هرجٌ ومرجٌ في الباصِ بين الركابِ..فاحتمله السائقُ على عجلٍ إلى مستشفى الجامعةِ، فأُعطيَ الإسعافَ الفوريَّ، وأُدخلَ غرفةَ العنايةِ المركَّزة، ولم يفلح كلُّ ذلك،وعجز الأطباءُ ،ولم يلبثْ أنيسُ أن قضى..
لم يكنْ أنيسُ ممنْ يعنونَ بلبسِ البذلِ وربطاتِ العنقِ.. لكنهُ كان يكفيهِ أن يلبسَ القميص و البنطال مُشمراً عن ساعديهِ كُمَّيْ القميص. كان أنيسُ رياضياً في شبابه كلاعبِ كرةٍ في أحدِ الأندية. ولما اعتزلَ واظبَ على سيرِ المسافاتِ الطويلةِ يوماً بعد يومٍ، ساعتينِ كلَّ رحلةٍ. وربما استمرَّ في ممارستِها ليسَ للحفاظِ على لياقته وحسبُ، وإنما ليتجنبَ ما أصابَ أخاهُ قبل سنينَ مضينَ، منْ تلكَ الجلطةِ التي أودتْ بحياتهِ، فيما قد يكونُ سبباً وراثيا!
وكنّا في رحلةِ العودةِ من العملِ إلى البيتِ، يرافقني في سيارتي صديقانِ مقربانِ:أنيسٌ ومنذرٌ. وكان أنيس يجلسُ جانبي، أما الآخر فيختلف إلى المقعد الخلفي. كنانتجاذب أطرافَ الحديث في شؤونِ السياسةِ والكرة وغيرها .. نحط بذلك عن كواهلنا مسافات الطريق!
قال منذر الذي كان يجلسُ في الكرسي الخلفي، وأنيسُ في المقعدِ جانبي، يغفو حينا ويصحو حيناً آخر، بما يسمح به الفراغُ من حديثٍ واللحظاتُ والدقائقُ الصامتةِ، أوحرارة ُالشمس التي يزيدُها زجاجُ السيارةِ دفئاً وخدَرا.
ـ:رأيتكَ في حلميَ الليلةَ ..تلاقتْ عينانا للحظةٍ عبر المرآةِ..فقلت: أخيرأ ما رأيت؟..قال: خيرا..وسكت،ولم أعقب!
تابعتُ السَّيرَ أرقبُ الطريقَ ناشداً سلامةَ الرِّحلةِ...
مرتْ أيامٌ عديدةٌ، وأنيسُ يأتي إلى الدَّوامِ كلَّ يومٍ ببذلةٍ جديدةٍ أنيقةٍ على غيرِ عادة، وليسَ لنا في كلٍّ منها في لُبسهِ الجديد هذا سابقُ عهدٍ ،حتى إنِّي قلتُ له مداعبًا:
وي!..كأنك تقبلُ على حبلِ الغسيلِ كلَّ يوم!
قال مُفترًّا عن أسنانٍ ناصعةٍ: قلت لزوجي.. أما آنَ لهذه البذلاتُ أن تترجلَّ عن علاّقاتها! أعدِّي ليَ الجديدَ منها كلَّ يومٍ!
مرَّ أسبوعٌ على حديثِ الحُلمُِ ذاكَ... وذاتَ يومٍ عندما نزلَ أنيسُ من السيّارةِ ،فسلَّم وآذنَ وانصرفَ ميمماً بابَ منزلهِ..وانطلقتْ السيارةُ في مسارِها المعهودِ..وفي غمرةِ من الصَّمتِ قالَ منذرُ: لم تسأَلْني عن حلمٍ تلكَ اللَّيلةِ قبلَ أسبوعٍ. ..قلتُ:سألتك..فقلت خيرا فسكتَ و سكتُّ ،ثمَّ قال :رأيتكَ مقبلا في طريق يكتنفُ جانبيهِ الشجرُ ..فابتدرتَني قائلا: أنيسٌ ماتَ.. هيا أسرعْ لندفنهُ.
وسكتْ!
وكانَ حدَّثني منذرُ قبلَ سنينَ خلونَ عن صديقٍ له لا أعرفُهُ، ممن تآخاهُ في سنواتِ الدراسة الجامعية، واستمرَّ هذا التآخي سنيناً أُخَرَ من حياةِ العملِ، وكانا لا يفترقانِ إلا لمُاما مما تفرضهُ الخصوصيةُ الشخصيةُ في الانفصالِ بين التوائم ِوالإخوانِ والخلانِ..
وذاتَ يومٍ بينما كانا يجلسانِ في مطعم يتنادمانِ ويتناجيانِ..مرَّ رجلٌ عليهما، عليه ثياب الغرابةِ والوسامةِ، فحدج الصديق بعينين ذاهبتينِ ذاهلتينِ وابتسامةٍ مُريبةٍ، ثم أدار كتفيهِ ومضى...
في تلكَ الليلةِ من ذلكَ اليومِ رأى منذرٌ صديقَه في حُلمهِ مَيْتا..وبعدَ يومينِ
ماتَ الصّديقُ.
وجرى على الألسنةِ بينَ الناسِ حديثٌ.
في جلسةٍ جمعتنا بين حضور بين الناس في ديوانٍ، توجّهَ بالحديثِ إلى رجلٍ آخرَ، ليسَ لنا به معرفة، قال:رأيتك في حلمي الليلة..!فاكفهرّ وجهُ الرَّجلِ وتلفّفَ في ملابسهِ وخرجَ مُسرعاً..
وبعد أسبوع....