أحدث المشاركات
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 28

الموضوع: وداعا رمضان

  1. #11
    الصورة الرمزية أحلام أحمد قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    المشاركات : 2,289
    المواضيع : 41
    الردود : 2289
    المعدل اليومي : 0.52

    افتراضي

    رمضان قد أزف الرحيل فرفقا
    عبد الله بن محمد البصري
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها
    الخطبة الأولى:
    أَمَّا بَعدُ:
    فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-،
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ) [الحشر:18].
    أَيُّهَا المُسلِمُونَ: في اليَومِ السَّادِسِ وَالعِشرِينَ مِن رَمَضَانَ، وَفي آخِرِ جُمُعَةٍ في شَهرِ الرَّحمَةِ وَالغُفرَانِ، مَا الَّذِي يَجُولُ بِخَاطِرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنكُم؟ وَفِيمَ تُفَكِّرُونَ؟ هَا هِيَ أَيَّامُ الشَّهرِ الفَضِيلِ تُسَارِعُ بِالرَّحِيلِ، كَانَت كَمَا وَصَفَهَا اللهُ -تَعَالى- أَيَّامًا مَعدُودَاتٍ، مَضَت سَرِيعَةً وَكَأَنَّهَا سُوَيعَاتٌ! فَلِلَّهِ الحَمدُ عَلَى مَا بَلَّغَنَا مِنهَا، وَلَهُ الشُّكرُ عَلَى مَا وَفَّقَنَا إِلَيهِ مِن عَمَلٍ صَالِحٍ فِيهَا، وَنَسأَلُهُ -تَعَالى- قَبُولَ مَا فَاتَ وَانقَضَى، وَالتَّوفِيقَ لِلازدِيَادِ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِيمَا بَقِيَ.
    أَزِفَ الرَّحِيلُ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَاقتَرَبَ النَّفِيرُ، فَهَلاَّ وَقَفنَا مَعَ أَنفُسِنَا وَساءَلْنَاهَا:
    مَا الَّذِي خَرَجنَا بِهِ مِن رَمَضَانَ؟ وَكَيفَ غَدَا لَدَينَا مُستَوَى الإِيمَانِ؟ مَا الَّذِي كَسِبنَاهُ في رَصِيدِ حَسَنَاتِنَا؟ وَمَا الَّذِي أَضَفنَاهُ لِصَحَائِفِ أَعمَالِنَا؟ مَاذَا تَغَيَّرَ في دَوَاخِلِنَا؟ وَمَاذَا عَدَّلْنَا في أَنفُسِنَا؟ مَن مِنَّا نَالَ الرَّحمَةَ؟ وَمَن ذَاكَ المَغفُورُ لَهُ؟ وَمَن هُوَ عَتِيقُ رَبِّهِ مِنَ النَّارِ بِفَضلِهِ؟ مَن ذَلِكَ المُوَفَّقُ الَّذِي أَفلَحَ إِذْ أَعطَى وَاتَّقَى، وَتَزَكَّى وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلَّى؟ وَمَن ذَاكَ الخَائِبُ الَّذِي بَخِلَ وَاستَغنى، وَتَدَسَّى وَتَرَدَّى، وَانسَاقَ وَرَاءَ النَّفسِ وَالهَوَى؟ مَن مِنَّا شَمَّرَ، وَشَدَّ المِئزَرَ، وَصَامَ وَقَامَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا؟.
    وَمَن مِنَّا شَغَلَهُ النَّومُ عَن شُهُودِ لَيلَةٍ هِيَ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ؟ مَن هُوَ صَاحِبُ الذِّكرِ وَتَالي الآيَاتِ؟ وَمَن هُوَ مُرتَادُ الأَسوَاقِ وَالمُتَسَمِّرُ أَمَامَ القَنَوَاتِ؟ مَنِ الَّذِي أَطَالَ الدُّعَاءَ وَبَالَغَ في الرَّجَاءِ؟ مَنِ الَّذِي أَحسَنَ؟ وَمَن ذَاكَ الَّذِي أَسَاءَ؟ هَا هِيَ الرِّحلَةُ الرَّمَضَانِيَّةُ قَد أَوشَكَت عَلَى الانتِهَاءِ، فَاسأَلْ نَفسَكَ وأَجِبْهَا بِصِدقٍ: هَل كُنتُ مِنَ المُسَدِّدِينَ المُقَارِبِينَ، أَم أَنَّي مَا زِلتُ مِنَ المُطَفِّفِينَ المُخسِرِينَ؟!.
    أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
    لَقَد كَانَ فِينَا مَن أَقبَلَ وَمِنَّا مَن أَقصَرَ، وَوُجِدَ بَينَنَا مَن أَتَمَّ وَمَن قَصَّرَ، وَكَانَ هُنَاكَ مُقِلٌّ وَمُكثِرٌ ومُتَعثِّرٌ وَمُستَغفِرٌ، مِنَّا مَن أَذهَبَت حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ، وَفِينَا مَن لم يَزَلْ يَحمِلُ عَلَى جَسَدِهِ جِبَالاً مِنَ الذُّنُوبِ تُثقِلُ كَاهِلَهُ، وَمَعَ هَذَا فَقَد بَقِيَت في الشَّهرِ بَقِيَّةٌ مُبَارَكَةٌ، وَالأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ، وَمَن أَحسَنَ فِيمَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى، وَمَن أَسَاءَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذَ بما مَضَى وَمَا بَقِيَ.
    سَلامٌ مِنَ الرَّحمَنِ كُلَّ أَوَانِ *** عَلَى خَيرِ شَهرٍ قَد مَضَى وَزَمَانِ
    سَلامٌ عَلَى شَهرِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ *** أَمَانٌ مِنَ الرَّحمَنِ كُلَّ أَمَانِ
    لَئِن فَنِيَت أَيَّامُكَ الغُرُّ بَغتَةً *** فَمَا الحُزنُ مِن قَلبي عَلَيكَ بِفَانِ

    عِبَادَ اللهِ:
    مَا أَسرَعَ أَيَّامَ السُّرُورِ وَأَعجَلَ انقِضَاءَهَا!
    وَمَا أَشَدَّ فَوَاتَ لَحَظَاتِ الفَرَحِ وَأَقسَى زَوَالَهَا!
    وَاللهِ لَكَأَنَّنَا نَتَذَكَّرُ يَومَ هَلَّ بِالأَمسِ هِلالُهُ، وَتَبَاشَرَ النَّاسُ بِنَسِيمِهِ وَظِلالِهِ، وَهَا هِيَ سَفِينَتُهُ اليَومَ تَسِيرُ سَرِيعًا، وَسَاعَاتُهُ تَمضِي جَمِيعًا، هَا هُوَ قَدِ اقتَرَبَ رَحِيلُهُ، وَأَزِفَ تَحوِيلُهُ، فَيَا لَيتَ شِعرِي! مَنِ المَقبُولُ مِنَّا فَيُهَنَّا؟ وَمَنِ المَردُودُ فَيُعَزَّى؟!.
    يَاقَومِ، أَلا بَاكٍ عَلَى مَا ظَهَرَ مِن عُيُوبِهِ!
    أَلا رَاغِبٌ إِلى اللهِ في غُفرَانِ ذُنُوبِهِ!
    أَمَا هَذَا شَهرُ التَّوبَةِ وَالغُفرَانِ؟!
    أَمَا هَذَا مَعدِنُ العَفوِ وَالرِّضوَانِ؟!
    أَمَا فِيهِ فُتِحَت أَبوَابُ الجِنَانِ، وَأُغلِقَت أَبوَابُ النِّيرَانِ؟!
    أَمَا فِيهِ صُفِّدَ كُلُّ مَارِدٍ وَشَيطَانٍ؟!
    أَمَا فِيهِ تُفَرَّقُ هِبَاتُ الإِحسَانِ، وَتَكثُرُ عَطَايَا المَلِكِ المَنَّانِ؟!
    أَمَا للهِ في كُلِّ لَيلَةٍ مِنهُ عُتَقَاءُ يَنَالُونَ الرِّضوَانَ؟!
    فَمَا لَكُم عَن ثَوَابِهِ غَافِلُونَ؟! وَفي ثِيَابِ المُخَالَفَةِ رَافِلُونَ؟!
    أَفَسِحرٌ هَذَا أَم أَنتُم لا تُبصِرُونَ؟ أَلا فَانتَبِهُوا أَيُّهَا السَّادِرُونَ!
    (وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ) [النور:31].
    أَيُّهَا الصَّائِمُونَ القَائِمُونَ:
    لَقَد وَجَدْنَا في رَمَضَانَ مَا لم نَجِدْ في غَيرِهِ، فَيَا لَيتَهُ يَبقَى فِينَا طَوِيلاً ولا يَرحَلُ عَنَّا سَرِيعًا، لَقَد طَهَّرَنَا وَغَيَّرَنَا، وَجَعَلَنَا عِندَ بُلُوغِنَا إِيَّاهُ عَلَى غَيرِ مَا كُنَّا، لَقَد تَعَلَّمنَا مِنهُ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ، وَحَصَّلْنَا مِن جُودِهِ العَطَاءَ الجَزِيلَ، عَلَّمَنَا أَن نَتَغَلَّبَ عَلَى شَهَوَاتِ بُطُونِنَا وَفُرُوجِنَا، وَأَن نُجَاهِدَ أَنفُسَنَا وَنَنتَصِرَ عَلَى أَلَدِّ أَعدَائِنَا، عَلَّمَنَا الصَّبرَ وَالحِلمَ وَالأَنَاةَ، وَأَن نُحسِنَ إِلى مَن أَسَاءَ إِلَينَا، وَلا نَجهَلَ عَلَى مَن جَهِلَ عَلَينَا.
    عَلَّمَنَا أَن نُنفِقَ في وُجُوهِ البِرِّ، وَنَتَغَلَّبَ عَلَى دَوَاعِي الشُّحِّ، وَأَن نَثِقَ بِرِزقِ اللهِ العَاجِلِ وَإِخلافِهِ عَلَينَا، عَلَّمَنَا أَن نَشعُرَ بِجُوعِ الفُقَرَاءِ وَنُحِسَّ بِمُعَانَاةِ المَسَاكِينِ وَآلامِ المَحرُومِينَ، فَنَمُدَّ لَهُم أَيدِيَنَا بِكُلِّ مَا نَستَطِيعُ مِن مُسَاعَدَةٍ، زَكَاةً كَانَت أَو صَدَقَةً أَو عَطِيَّةً أَو هِبَةً، عَلَّمَنَا أَن نَقتَرِبَ إِلى أَقَارِبِنَا وَنَصِلَ أَرحَامَنَا، وَأَن نَبدَأَ صَفحَةً جَدِيدَةً مِنَ العِلاقَةِ الطَّيِّبَةِ مَعَ جِيرَانِنَا، وَأَن نَنسَى رَوَاسِبَ الأَيَّامِ المَاضِيَةِ، وَنُقبِلَ عَلَى بَعضِنَا بِقُلُوبٍ صَافِيَةٍ.
    عَلَّمَنَا أَن نَتَلَذَّذَ بِكَلامِ رَبِّنَا، وَأَن نُدِيمَ تِلاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيلِ وَأَطرَافَ النَّهَارِ، عَلَّمَنَا أَن نُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ جَمَاعَةً وَنَحرصَ عَلَى إِدرَاكِ التَّكبِيرَةِ الأُولى مَعَ الإِمَامِ، أَوقَفَنَا بَينَ يَدَي خَالِقِنَا في التَّرَاوِيحِ وَالتَّهَجُّدِ، نُنَاجِيهِ وَنُنَادِيهِ وَنَدعُوهُ وَنَرجُوهُ، وَنَشكُو لَهُ ضَعفَنَا وَعَجزَنَا وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا، وَنَستَغفِرُهُ مِن ذُنُوبِنَا وَخَطَايَانَا.
    عُمِرَتِ المَسَاجِدُ بِأَصوَاتِ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللهِ، وَاصطَفَّتِ الصُّفُوفُ في الأَسحَارِ بَينَ يَدَيِ اللهِ، رَأَينَا دُمُوعَ المُصَلِّينَ القَانِتِينَ، وَسَمِعنَا بُكَاءَ الخَاشِعِينَ المُخبِتِينَ، وَحَرَّكَت قُلُوبَنَا ابتِهَالاتُ الدَّاعِينَ، وَهَيَّجَت أَفئِدَتَنَا تَضَرُّعَاتُ الطَّالِبِينَ، شَعَرنَا فِيهِ بِالأَمَانِ وَالطُّمَأنِينَةِ، وَذُقنَا الرَّاحَةَ النَّفسِيَّةَ وَالسَّكِينَةَ، وَبِقَدرِ مَا تَعِبَت أَجسَامُنَا بِالصِّيَامِ وَالقِيَامِ والطَّاعَةِ، بِقَدرِ مَا تَنَعَّمَت قُلُوبُنَا وَأَروَاحُنَا وَذَاقَتِ الرَّاحَةَ.
    فَيَا أُمَّةَ الإِسلامِ:
    يَا مَن كُنتُم في رَمَضَانَ خَلقًا آخَرَ، حَاسِبُوا أَنفُسَكُم فِيمَا أَنتُم عَلَيهِ قَادِمُونَ، وَاستَمِرُّوا عَلَى طَهَارِةِ القُلُوبِ، وَتَمَسَّكُوا بِصَفَاءِ النُّفُوسِ، وَلْيَكُنْ رَمَضَانُ مُنطَلَقًا لَكُم لِحَيَاةٍ إِيمَانِيَّةٍ مُستَمِرَّةٍ، حَيَاةٍ تُودِّعُونَ فِيهَا ذَنُوبًا طَالَمَا اقتَرَفتُمُوهَا، وَتُبَادِرُونَ فِيهَا صَالِحَاتٍ طَالَمَا هَجَرتُمُوهَا.
    المَسَاجِدُ الَّتي عُمِرَت بِالصَّلاةِ مَعَ الجَمَاعَةِ، النُّفُوسُ الَّتي خَفَّت لِرَبِّهَا بِالطَّاعَةِ، المَصَاحِفُ الَّتي قُلِّبَت صَفَحَاتُهَا وَخُتِمَت مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ , السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ الَّتي حُوفِظَ عَلَيهَا وَأُكمِلَت, الأَيدِي الَّتي بُسِطَت بِالإِنفَاقِ وَالعَطَاءِ، الجَوَارِحُ الَّتي حُفِظَت مِنَ اللَّغوِ وَالهُرَاءِ، الهِمَمُ الَّتي زَادَت وَالفُرَصُ الَّتي اغتُنِمَت، الحَسَنَاتُ الَّتي جُمِعَت، وَالسَّيِّئَاتُ الَّتي مُحِيَت, إِنَّ هَذِهِ لَهِيَ الحَالُ الَّتي يَجِبُ أَن يَكُونَ عَلَيهَا المُؤمِنُ في دُنيَاهُ كُلِّهَا، إِنَّهَا الخِطَّةُ الَّتي يَجِبُ أَن يَمضِيَ عَلَيهَا في أَيَّامِ عُمُرِهِ المُبَارَكِ، إِنَّهَا الطَريِقَةُ الَّتي يَجِبُ أَن تَتَسَابَقَ عَلَيهَا سُوَيعَاتُ حَيَاتِهِ العَطِرَةِ.
    وَكَمَا انقَضَى رَمَضَانُ سَرِيعًا، فَمَا أَسرَعَ وَاللهِ مَا سَيَنقَضِي العُمُرُ كُلُّهُ!
    أَلا فَلا يَرْكَنَنْ قَلبٌ إِلى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، بَعدَ أَن ذَاقَ لَذَّةَ النَّشَاطِ وَوَجَدَ فِيهَا السَّعَةَ!
    أَلا لا يَهجُرَنَّ أَحَدٌ كِتَابَ رَبِّهِ أَو يَتَرَاجَعَ عَن صَفِّ مَسجِدِهِ، بَعدَ أَنِ اقتَرَبَ مِن رَبِّهِ في سُجُودِهِ مَعَ السَّاجِدِينَ، وَبَعدَ أَنِ استَطَعَمَ عُذُوبَةَ كَلامِ الخَالِقِ في تِلاوَتِهِ مَعَ التَّالِينَ، مَن رَاقَبَ لِسَانَهُ وَحَفِظَ جَوَارِحَهُ , وَحَرِصَ عَلَى الحَلالِ وَاجتَنَبَ الحَرَامَ، فَذَاقَ بِذَلِكَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، وَوَجَدَ طُمَأنِينَةَ قَلبِهِ في رِضَا الرَّحمَنِ، فَكَيفَ يَعُودُ إِلى سَبَبِ مَوتِ قَلبِهِ وَقَتلِهِ، أَو يَنقُضُ الغَزلَ بَعدَ إِحكَامِ فَتلِهِ؟!.
    عَبدَ اللهِ: يَا مَن قَصَّرتَ فِيمَا مَضَى أَو تَكَاسَلتَ، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ! نَعَم، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ، فَوَاللهِ مَا فَاتَ، وَلَقَد بَقِيَ مِن هَذَا الشَّهرِ أَيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ، وَلَيَالٍ فَاضِلاتٌ، وَسَاعَاتٌ غَالِيَاتٌ، بَقِيَت مِنَحٌ إِلَهِيَّةٌ، وَهِبَاتٌ وَأُعطِيَاتٌ، وَأَنتَ تَتَعَامَلُ مَعَ رَبٍّ رَحِيمٍ، جَوَادٍ كَرِيمٍ، وَلَو لم يَبقَ في هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ إِلاَّ دَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ, فَمَا الَّذِي يَصرِفُكَ عَنِ اغتِنَامِهِا؟ كَيفَ وَقَد بَقِيَت بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِن خَيرِ الأَيَّامِ وَأَشرَفِ اللَّيَالي؟ وَمَا يُدرِيكَ؟ فَلَعَلَّ لَيلَةَ القَدرِ لم تَأتِ بَعدُ، وَقَد قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:
    "مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
    أَلا فَلا تُضَيِّعِ الوَقتَ -رَحِمَكَ اللهُ- وَإِنْ كُنتَ قَد قَصَّرتَ في بِدَايَةِ الشَّهرِ وَفَرَّطتَ، أَو أَسَأتَ في أَوَّلِهِ وَتَعَدَّيتَ، فَأَحسِنِ العَمَلَ في آخِرِهِ، وَاصدُقِ الطَّلَبَ، وَاجعَلْ مِن هَذِهِ اللَّيَالي القَلِيلَةِ مَطِيَّتَكَ إِلى الجِنَانِ، وَسَابِقْ إِخوَانَكَ بِهِمَّةٍ، وَنَافِسْهُم بِعَزِيمَةٍ، فَعَسَى أَن تَكُونَ مِمَّن قِيلَ فِيهِم:
    (وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
    تَذَكَّرْ قَولَ الحَبِيبِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:
    "إِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِن أَهلِ الجَنَّةِ، وَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِن أَهلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
    فَاختِمْ شَهرَكَ بِخَيرٍ، عَسَى اللهُ أَن يَشمَلَكَ بِالخَيرِ، وَيُوَفِّقَكَ لِلخَيرِ، وَيَجعَلَكَ مِن أَهلِ الخَيرِ.
    أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ:
    (شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ) [البقرة:185-186].
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها
    الخطبة الثانية:
    أَمَّا بَعدُ:
    فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، اِستَدرِكُوا بَقِيَّةَ شَهرِكُم بِكَثرَةِ الطَّاعَاتِ، وَاعمُرُوا سَاعَاتِهِ بِالذِّكرِ وَتِلاوَةِ الآيَاتِ، وَأَخرِجُوا الزَّكَاةَ وَأَكثِرُوا الصَّدَقَاتِ، وَتُوبُوا إِلى اللهِ مِمَّا سَلَفَ مِنَ الزَّلاتِ؛ وَاعلَمُوا أَنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ عَمَلَ المُؤمِنِ لا يَنقَضِي بِانقِضَاءِ رَمَضَانَ، بَل هُوَ مُستَمِرٌّ في كُلِّ وَقتٍ وَأَوَانٍ، قَالَ -تَعَالى-:
    (وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ) [الحجر:99].
    وَقَالَ عَن عِيسَى -عَلَيهِ السَّلامُ-:
    (وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا) [مريم:31].
    أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
    إِنَّ لَكُم في خِتَامِ شَهرِكُم عِبَادَاتٍ جَلِيلَةً، تَعمَلُونَ بهَا شُكرًا لِرَبِّكُم، فَتَزدَادُونَ مِنهُ قُربًا، وَيَمنَحُكُم وُدًّا وَحُبًّا؛ مِن ذَلِكَ التَّكبِيرُ لَيلَةَ العِيدِ إِلى صَلاةِ العِيدِ.
    قَالَ -تَعَالى-:
    (وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) [البقرة:185].
    وَالتَّكبِيرُ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَسُنَّةٌ كَرِيمَةٌ، يَنبَغِي إِعلانُهُ إِذَا ثَبَتَ العِيدُ، وَرَفعُهُ في المَسَاجِدِ وَالأَسوَاقِ وَالبُيُوتِ، يَجهَرُ بِهِ الرِّجَالُ، وَتُسِرُّ بِهِ النِّسَاءُ؛ إِعلانًا لِلشَّعِيرَة،ِ وَشُكرًا لِلنِّعمَةِ، وَإِغَاظَةً لِلكَفَرَةِ وَالمُنَافِقِينَ.
    وَمِمَّا شُرِعَ لَكُم في خِتَامِ الشَّهرِ زَكَاةُ الفِطرِ، وَهِيَ صَاعٌ مِن قُوتِكُم، عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ وَالذِّكرِ وَالأُنثَى وَالغَنيِّ وَالفَقِيرِ، شَرَعَهَا اللهُ -تَعَالى- تَكمِيلاً لِلصِّيَامِ، وَشُكرًا لَهُ عَلَى إِكمَالِ العِدَّةِ، وَطُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، وَمُوَاسَاةً لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ، وَإِغنَاءً لَهُم عَن ذُلِّ الحَاجَةِ وَالسُّؤَالِ يَومَ العِيدِ، وَوَقتُ إِخرَاجِهَا مِن ثُبُوتِ خَبَرِ العِيدِ إِلى صَلاةِ العِيدِ، وَيَجُوزُ إِخرَاجُهَا قَبلَ العِيدِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ، فَأَخرِجُوهَا مِن طَيِّبِ قُوتِكُم، وابذُلُوهَا طَيِّبَةً بها نُفُوسُكُم، فَإِنَّكُم (لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
    وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا يُجزِئُ إِخرَاجُ القِيمَةِ بَدَلاً عَنِ الطَّعَامِ، كَيفَ وَقَد أَخرَجَهَا النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَأَصحَابُهُ طَعَامًا مَعَ وُجُودِ القِيمَةِ في عَهدِهِم؟ وَقَد قَالَ -تَعَالى-:
    (لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
    وَمِمَّا شُرِعَ لَكُم في خِتَامِ شَهرِكُم صَلاةُ العِيدِ، أَمَرَ بها رَسُولُ اللهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، بَلْ حَتَّى العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ وَالحُيَّضُ، أُمِرنَ بِشُهُودِهَا لِيَشهَدْنَ الخَيرَ وَدَعوَةَ المُسلِمِينَ.
    فَهَنِيئًا لِمَنِ احتَسَبَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ، وَعَمَّرَ بِالطَّاعَاتِ لَيَالِيَهُ وَأَيَّامَهُ، وَتَابَ تَوبَةً نَصُوحًا يُكَفِّرُ اللهُ بها ذُنُوبَهُ وَآثَامَهُ، ذَاكَ -وَاللهِ!- هُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الفَرَحُ بِالعِيدِ، وَالسُّرُورُ بِلِبسِ الجَدِيدِ، فَاللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقتَ إِلَيهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #12
  3. #13
  4. #14
    الصورة الرمزية أحلام أحمد قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    المشاركات : 2,289
    المواضيع : 41
    الردود : 2289
    المعدل اليومي : 0.52

    افتراضي

    في وداع رمضان
    أمين بن نور الدين بتقة
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    أما بعد:
    أيها المؤمنون:
    هذا هو رمضان ولّى وانصرم، كأنما هو طيف عابر، مر ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالي والأيام.
    هكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر، يكون بعضنا غارقًا في شهواته حتى يغزو الشيب مفرقيه، نذير أجل محتوم قد يحل بساحته، قد يحل الأجل والغافل لم يستعدَّ بعد للرحيل، فإذا حانت ساعة الميعاد، فلات حين مناص، يحمل الغافل على الأعواد، ويُدَس بين الألحاد، والذنب كثير، والعمل قليل، وحينئذ لا ينفعه أن يعض على أصبع الندم، ولا أن يهتف وينادي: يا ليتني أردّ فأعمل غير الذي كنت أعمل، فالعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود.
    وبقيت مظان ليلة القدر، وأصح الأقوال أنها في العشر الأواخر، بل في الوتر من العشر الأواخر، كما صح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"، وأصح أقوال أهل العلم والإيمان أنها تتنقل في الوتر من العشر، فسنة تكون ليلة إحدى وعشرين، وسنة تكون في غيرها من ليالي الوتر، كما صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
    "أريت ليلة القدر فنسيتها، وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين"، يقول الصحابي راوي الحديث: "فمطرنا ليلة إحدى وعشرين فخرّ المسجد، فصلّى بنا النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الصبح فسجد في ماء وطين".
    وصحّ عنه -صلّى الله عليه وسلّم- أنه قال:
    "تحرّوا ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين".
    وصحّ عنه -صلى الله عليه وسلم-:
    "التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين".
    وقوله: "تحروا ليلة القدر، فمن كان متحريها فليتحرَّها في ليلة سبع وعشرين".
    وقد قال أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه-:
    "والله الذي لا إله غيره إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي جمع فيها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أهله والناس أجمعين فصلّى بهم حتى الصبح، ليلة سبع وعشرين"، ففي تلك السنة كانت ليلة القدر ليلة سبع وعشرين.
    وصحّ عنه -صلّى الله عليه وسلّم-:
    "التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من ليالي رمضان"، أي ليلة تسع وعشرين.
    فكل تلك الروايات الثابتة عنه -صلّى الله عليه وسلّم- تدل بوضوح أنها لا تلزم ليلة السبع والعشرين في كل السنين، بل ربما كانت في سنة في ليلة إحدى وعشرين، وفي سنة أخرى في ليلة ثلاث وعشرين، وهكذا إلى تسع وعشرين.
    ولما كان دخول شهر رمضان يختلف فيه الناس، فرب ليالٍ نعدها أوتارًا هي في واقع الأمر شفع ليست بوتر، وإذا كان الأمر كذلك فإن العبد المسدد لا يقصّر نشاطه على الأوتار من العشر، بل يجتهد في العشر كلها مقتديًا في ذلك برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، قال تعالى:
    (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَلْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].
    وليلة القدر سميت بذلك لشرفها وعلو قدرها، فعبادة فيها تعدل عبادة في ثلاثة وثمانين سنة، وسُمّيت بذلك أيضًا لأنها تقدَّر فيها مقادير العام الذي يليها، فيفصل من اللوح المحفوظ إلى كل ملك ما وكِّل إليه القيام به في كل عام، فملك الموت يعلم الأرواح التي يقبضها في كل عام، وهكذا يفرق في هذه الليلة من اللوح المحفوظ كل أمر محكم، فيعلم به من سينفذه من العباد المكرمين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، قال الله سبحانه:
    (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:4].
    وسماها الله -جل وعلا- مباركة كما قال سبحانه:
    (إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) [الدخان:3].
    ومن بركاتها أن الملائكة تتنزل فيها من السماء، كما قال سبحانه:
    (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر:4].
    والروح هو جبريل -عليه السلام-، وقد صحّ عنه -صلّى الله عليه وسلّم- أنه قال:
    "إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى".
    ومن بركاتها ما صحّ عنه -صلّى الله عليه وسلّم-:
    "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
    فيا من فرط: استدرك.
    ماذا نصنع حتى نتدارك ما فات؟! ورمضان قد تهيّأ للرحيل فلم يبق منه إلا ليال.
    علينا -يا عباد الله- أن نعترف بذنوبنا، وأن نتوب التوبة الصادقة النصوح، وأن نتوجه إلى الله تعالى بالدعاء بالمغفرة والعتق من النار.
    فاغفر لنا يا ربّنا وأعتقنا من النار، ألم تقل يا ربّنا:
    (قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]؟! ألم تقل يا ربنا: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) [الرعد:6]؟!
    وأما من استغفر بلسانه وقلبهُ على المعصية معقود، وهو عازم بعد الشهر إلى المعاصي أن يعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود.
    كيف لا؟! وقد قابل نداء الله: (قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بالإعراض والصدود.
    أيها المسلمون:
    إن الاستغفار هو ختام الأعمال كلّها، فيُختم به في الصلاة كما في صحيح مسلم أن رسول الله كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثًا.
    ويُختم به في الحج، قال الله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:199].
    بعد هذه الشعيرة العظيمة وهي الوقوف بعرفة والحج عرفة، ينطلق الحاج إلى مزدلفة وهو يستغفر الله تعالى، ويُختم به قيام الليل، يمدح الله تعالى عباده المتقين ويصفهم فيقول: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّـابِرِينَ وَلصَّـادِقِينَ وَلْقَـانِتِينَ وَلْمُنفِقِينَ وَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) [آل عمران:16، 17]، وقال تعالى كذلك في وصفهم: (وَبِالأَسْحَـارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:18]، قال الحسن -رحمه الله-:
    "قاموا الليل إلى وقت السحر، ثم جلسوا يستغفرون"، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يُصلّي من الليل ثم يقول:
    "يا نافع: هل جاء السحر؟!"، فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.
    ويختم به كذلك في المجالس، فإن كانت ذكرًا كان كالطابع لها، وإن كانت لغوًا كان كفّارة لها.
    وكذلك ينبغي أن يُختم صيام رمضان بالاستغفار، فمن أحبّ منكم أن يحطّ الله عنه الأوزار، ويعتقه من النار، فليكثر من الاستغفار، بالليل والنهار، لا سيما في وقت الأسحار.
    ومما يُستحسن ختم هذا الشهر به أيضًا عتق الرقاب، فقد كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار.
    وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما دل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي بن الحسن قال: قال أبو هريرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
    "أيما رجل أعتق امرأً مسلمًا استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار"، قال سعيد من مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن الحسين، فعمد علي بن الحسين -رضي الله عنهما- إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه.
    ومن فاته عتق الرقاق لانعدامها فليكثر من شهادة التوحيد، فإنها تقوم مقام عتق الرقاب، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل". أخرجه البخاري.
    وقال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل ممّا جاء به إلا أحدٌ عمِل أكثر من ذلك". متفق عليه من حديث أبي هريرة.
    واعلموا -عباد الله- أن الجمع بين شهادة التوحيد والاستغفار من أعظم أسباب المغفرة والنجاة من النار، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات.
    لهذا جمع الله تعالى بينهما في قوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِك) [محمد:19]، وفي قوله: (لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِين) [الأنبياء:87].
    فأكثر -أخي المسلم- من طاعة الله لا سيما من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
    وأكثر من الاستغفار وغيرها من الأذكار والأعمال الصالحة قبل فوات هذه الفرصة العظيمة، فإنه إن لم يُغفر لك في هذا الشهر فمتى سيغفر لك؟!
    قال قتادة -رحمه الله-:
    "كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما بقي".
    فيا من جد، واصل ولا تغتر، حذار من الاغترار بما صنعت، وكن كمن قال الله -جلّ وعلا- فيهم:
    (كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّليْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَـارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17، 18]
    ما استغفروا إلا لاستشعارهم تقصيرَهم في جنب الله، رغم قيامهم أكثر الليل، وكن كمن قال الله -جلّ وعلا- فيهم:
    (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون:60].
    وتذكر أن ما أنت فيه إنما هو بفضل الله وتوفيقه لك، فالذي أعطاك ووفقك هو الذي حرم غيرك ومنعه، فقل كما قال الصالحون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف:43].
    واعتبر بما قاله الله لعبده ونبيه محمد -صلّى الله عليه وسلّم-:
    (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) [الأنبياء:86، 87]، حتى عدّها بعض السلف أعظم تهديد في كتاب الله.
    فكن خافض الجناح، مجتهدًا في الطاعة، خائفًا من عدم القبول، (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ) [الأعراف:99]، (وإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27]. ولا تدري أتكون منهم أم لا؟!
    ثم اعلموا -يا عباد الله- أن عائشة زوج النبي -صلّى الله عليه وسلّم- سألته إن هي أدركت ليلة القدر ما تقول فيها؟! قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
    اعلموا -أيها المسلمون- أن رسول الله فرض زكاة الفطر على المسلمين، على الذكر والأنثى والصغير والكبير، صاعًا من طعام، أي صاعًا من قمح، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، فهذه الزكاة مفروضة على كل قادر على إخراجها، كل مسلم فضَل عنه شيء من قوت يومه وقوت عياله عليه أن يخرج هذه الزكاة عن نفسه وعمَّن يعولهم، والصاع يساوي هذا اليوم كيلوين ومائتي جرام تقريبًا.
    واعلموا أن وقت خروجها يبدأ من غروب شمس ليلة العيد، وينتهي بانتهاء صلاة العيد، فمن أخّرها إلى ما بعد ذلك فهي صدقة من الصدقات كما قال المصطفى –صلّى الله عليه وسلّم-، ولكنها لا تسقط عنه، ويلزمه إخراجها، ويجوز تعجيل هذه الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين، ولكن لا يجوز تعجيلها أكثر من ذلك؛ لأن المقصود بها كما أخبرنا إغناء الفقراء عن المسألة يوم العيد، هذا هو المقصود من هذه الصدقة، أو من أهم مقاصد هذه الصدقة.
    قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-:
    "فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".



  5. #15
  6. #16
  7. #17
    الصورة الرمزية أحلام أحمد قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    المشاركات : 2,289
    المواضيع : 41
    الردود : 2289
    المعدل اليومي : 0.52

    افتراضي

    معانٍ في نهاية رمضان
    عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    الخطبة الأولى:
    أما بعد:
    إخوة الإيمان:
    ها هو رمضان قد تصرمت أيامه وانتهت لياليه وانفضّ سوقه، فربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
    ولَّى رمضان وكأنه لم يكن شهرًا بأيامه ولياليه، بل كأنه بضع أيام أو ساعات سرعان ما مرّت.
    فعجبًا لمن لم يقاوم هواه ونفسه ويُرضِ ربه في هذه الساعات القليلة!
    عجبًا لمن يضيّع هذه الساعات القليلة التي تأتي في العام مرة دون أن يعتق بها نفسه من النار!
    هذه الساعات التي قد ينجيه العمل فيها من أهوال وكرب يوم الدين، يوم يقف بين يدي ربّ العالمين خائفًا وجلاً، قلبه لدى حنجرته، يتمنى لو لم يخلق ويتطلع إلى شفيع أو متفضّل يتفضل عليه بحسنة، في هذا الظرف العصيب يكرم الصائمون بكرامة عظيمة، فبينما يكون المسلم في وجل وخوف يأتيه صومه الذي صامه امتثالاً لأمر الله وخوفًا من الله، صامه إيمانًا واحتسابًا، صامه كما يريد الله سبحانه ورسوله -صلّى الله عليه وسلّم-، لا كما يريد هو، كفّ فيه جوارحه جميعًا وأمسك عمّا حرمه الله عليه.
    يأتي هذا الصوم ويطلب من الله أن يشفعه في هذا العبد، فيشفعه الله فيه فيغفر له، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال:
    "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب: إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان". أخرجه أحمد.
    يمضي رمضان وتلفظ أيامه أنفاسها؛ لنتعلّم من ذهابه أن البقاء لله وحده، وأن لكل مخلوق ولكل شيء مهما طال ومهما عظم نهاية، وأن الزمان والمكان ينتهيان ويفنيان ولا بقاء في هذه الحياة لشيء:
    (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)،
    (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88].
    فإذا ما استحضرت هذا المعنى علمت -يا عبد الله- أنك ستمضي أيضًا في يوم من الأيام، وستنتهي أيامك كما انتهت أيام هذا الشهر الكريم، وإذا علمت هذا وأيقنته تواضعت ولم تطغَ وأعددت العدة لملاقاة الله -عزّ وجلّ-.
    يمضي رمضان -أيها الناس- مسجّلاً في سجل المحسنين حسنات وفضائل تستوجب الثواب والإكرام، وفي سجل المسيئين خطايا وآثام تستوجب الحساب والجزاء.
    فتدبّروا واعلموا أن ما نقدمه في هذا الشهر وفي غيره هو ما سنلقاه بين يدي الله سبحانه، وهذا مقتضى العدل الإلهي.
    فليس واردًا أن نقدّم خيرًا وبرًا راعَينا الله فيه واتبعنا سنة نبيه -صلّى الله عليه وسلّم- ثم نلقى يوم القيامة شرًّا وعنتًا، كما أنه ليس معقولاً أن نقدم شرًا وغفلة وتقصيرًا، ثم نمني أنفسنا بالمغفرة أو بالمنازل العالية من الجنة، إن الذي نقدمه هو الذي سنلقاه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، قال تعالى:
    (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا).
    بل إن الربّ -جلّ وعلا- بكرمه وفضله يضاعف لنا الحسنات ويكثِّرها، أما السيئات فتسجّل كما هي، يقول سبحانه:
    (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]،
    ويقول سبحانه:
    (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) [البقرة: 110].
    فرمضان إذًا صفحات بيضاء وأرض للحرث والبذر، إن شئت -أيها المسلم- جعلتها جنة وارفة، وإن شئت جعلتها يبابًا وصحراء قاحلة، إذًا فلا تتعجب إذا وجدت غير ما تحبّ وتشتهي، فهل تجازى إلا بما عملت وقدمت؟!
    يقول تعالى:
    (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
    ويقول -عزّ وجلّ-:
    (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
    وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم يقول المولى -عزّ وجل-:
    "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
    انقضى شهر رمضان وانقضاؤه لا يعني الراحة والدعة، ولا يعني الرضا عما قدمنا، بل انقضاؤه يتطلب إتباعه بالاستغفار حتى يقبله الله سبحانه، وحتى نتدارك ما وقع في صيامنا من نقص أو خلل أو تقصير، والاستغفار بعد الطاعات دأب الأنبياء والصالحين.
    فمن هديهم أنهم يستغفرون الله سبحانه بعد أدائهم للطاعات، أما نحن فإننا نظنّ أن العبد أبعد ما يكون عن الاستغفار وهو يقدّم طاعة، إنما يستغفر المذنب، هذا هو فهمنا، أما فهم من صفَت سرائرهم وقوي إيمانهم واستنارت بصائرهم فغير ذلك؛ لأنهم يحسون بالنقص والتقصير مهما قدموا، أولئك الذين قال الله عنهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ).
    أي: يؤدّون الطاعات والقربات وهم خائفون أن لا تقبل منهم.
    إذًا فعلينا بعد أن أدّينا فريضة الصوم أن نستغفر الله، وهذا الاستغفار مطلوب بعد كل فريضة، يقول تعالى في سياق ذكره لآخر فريضة الحج:
    (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 199].
    ويعلّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاستغفار بعد الصلاة، ففي صحيح مسلم أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثًا، ويخبرنا الله تعالى أيضًا عن المتهجدين بين يديه أنهم إذا جاء وقت السحر وهو وقت ما قبل الفجر استغفروا الله، يقول تعالى: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 18].
    يستغفرون الله وهم قد قضوا ليلهم قائمين لله. فعلينا -عباد الله- أن ننهي شهرنا الكريم هذا بالاستغفار عما يمكن أن يكون صاحبه من أخطاء أو زلل أو عُجب أو رياء، وعلينا التضرع إلى الله أن يقبله منا وأن يعيده علينا ونحن أحسن حالاً وأصلح قلوبًا وأزكى نفوسًا.
    ذهاب رمضان -أيها الناس- رسالة إلى كلّ مسلم أن الوقت رأس مالك الأول، والخسارة فيه من أعظم الخسائر، فقد تعوَّض خسارة الأموال ويعود ما ضاع منها، أما خسارة الوقت فإنها لا تعوض ولن نستطيع بأموال الدنيا كلها أن نعيد دقيقة مضت من عمرنا، كما أن ما ضاع من أوقاتنا في غير طاعة الله سوف يكون حسرة علينا يوم القيامة ولن يزيدنا من الله إلا بعدًا، عن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-:
    "ما من قوم اجتمعوا في مجلس فتفرّقوا ولم يذكروا الله إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة". أخرجه الطبراني.
    فنحن مسؤولون عن أعمارنا كما نسأل عن أموالنا وأعمالنا، وفي الحديث الذي رواه الترمذي أن مما يسأل عنه العبد يوم القيامة: "وعن عمره: فيم أفناه؟!".
    كما أن من أعظم المعاني التي ينبغي أن نستحضرها في نهاية هذا الشهر الكريم، أن من فاز بالتوبة في هذا الشهر، وفاز بالتعرف على مولاه، وذاق حلاوة الإيمان والعمل الصالح، لا ينبغي له أن يترك هذا النعيم عند انقضاء الشهر بترك التوبة والاستقامة، بل ينبغي له أن يبقي على هذه المعاني وهذه المشاعر حية في قلبه، وذلك بثباته على التوبة وعلى العمل الصالح، وهذا من علامات صحة الإيمان ومن علامات حلاوة الإيمان التي من ذاقها ثبت على الاستقامة ولم يعد إلى الكفر والفجور، وهذه العلامة ذكرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه حيث يقول -صلّى الله عليه وسلّم-:
    "ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".
    إذًا فعلامة صحة التوبة وصحة الإيمان عدم الرجوع إلى ساحة المعاصي والآثام.
    وينبغي أن نعلم أيضًا أن الصوم مدرسة وممارسة نتعلم فيها الإيمان بالغيب والامتثال لأمر الله والصبر على المشاق والمتاعب والشهوات ومشاركة المحتاجين والفقراء مشاعرهم ومعاناتهم، وكل ذلك مما يرضي الله ويحقق الفوز في الآخرة، لهذا حثنا ديننا الحنيف على أن نكون من الصائمين في مختلف أوقات السنة لما للصيام من أثر في تزكية أرواحنا وتهذيب نفوسنا، يقول -صلّى الله عليه وسلّم- كما في صحيح الجامع:
    "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفًا".
    بل ويحثنا -صلّى الله عليه وسلّم- على الصوم فور انتهائنا من صيام شهر رمضان، فيقول -صلّى الله عليه وسلّم-:
    "من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصوم الدهر". أخرجه مسلم.
    كل هذا لنعتاد على الصوم، هذه العبادة التي ترفع من قدر الإنسان وتسمو بأخلاقه وعقيدته.
    فاحرصوا -عباد الله- على صوم هذه الأيام الست وغيرها من الأيام حتى يكون الصوم شافعًا لكم يوم القيامة، وحتى تدخلوا جنة ربكم من باب الريّان باب الصائمين، أسأل الله أن لا يحرمني وإياكم دخول جنته من باب الريان، يقول تعالى:
    (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].
    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها
    الخطبة الثانية:
    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    إخوة الإيمان:
    نحن على مشارف العيد الذي شرّعه المولى لعباده بعد هذه العبادة التي امتنعوا في نهارها عن المتع والملذات وأحيوا ليلها بصلاة القيام في المساجد، فصفت نفوسهم وزكت أرواحهم، يأتي العيد ليكون فرصة للاستجمام والترفيه عن النفس وتجديد النشاط لمواصلة العمل في هذه الحياة بما يرضي الخالق -عزّ وجلّ-، والعيد كما أنه فرصة للراحة والتوسعة فإنه عبادة يُتقرب بها إلى الله سبحانه؛ لهذا كانت له أعمال وآداب وسنن مستحبة، نذكّر في هذه الخطبة بهذه الآداب التي ينبغي أن يحاول كل منا أن يأتي بها عملاً بسنة خير المرسلين -صلّى الله عليه وسلّم-.
    من هذه الآداب:
    الاغتسال والتطيّب قبل صلاة العيد، ولبس أحسن الثياب، كما يستحب أكل تمرات وترًا قبل الخروج إلى الصلاة، وأن يخرج ماشيًا، والعودة من غير الطريق التي أتى منها، ومن هذه الآداب الإكثار من التكبير، والتكبير يبدأ من خروج المسلم إلى صلاة العيد حتى مجيء الإمام.
    وقال بعض أهل العلم:
    يبدأ التكبير من ثبوت رؤية هلال العيد، فيكبّر المسلم بين الحين والآخر في بيته وفي الطريق وفي أي مكان، ويكبّر عند خروجه إلى المسجد، ويجهر بالتكبير تعظيمًا لله، أما النساء فيكبرن سرًّا، ويستمر التكبير حتى مجيء الإمام عندها ينتهي التكبير ولا يكبر المأموم أثناء الخطبة، بل عليه الاستماع والإنصات، ويستحب حضور النساء لصلاة العيد، فقد أمر بها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الرجال والنساء، حتى العواتق وذوات الخدور اللاتي لا يخرجن عادة، وذلك ليشهدن الخير ودعاء المسلمين في هذا اليوم العظي.
    يقول تعالى:
    (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
    فاتقوا الله -عباد الله-، وليكن العيد فرصة للتحابب والتسامح والتقارب والتعاون على البر والتقوى، عملاً بالوصية الخالدة التي أوصانا بها نبي الرحمة -صلّى الله عليه وسلّم- فهو القائل:
    "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". أخرجه البخاري.
    اللهم تقبّل صيامنا وقيامنا وزكاتنا وسائر أعمالنا الصالحة، واجعلها خالصة لوجهك الكريم.
    اللهم اجعل شهر رمضان شاهدًا لنا لا علينا، وأعده علينا مرات عديدة وأزمنة مديدة، واجعلنا ممن يصومونه إيمانًا واحتسابًا.
    اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاه.
    اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحّدين برحمتك يا أرحم الراحمين.


  8. #18
  9. #19
    الصورة الرمزية أحلام أحمد قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    المشاركات : 2,289
    المواضيع : 41
    الردود : 2289
    المعدل اليومي : 0.52

    افتراضي

    في وداع رمضان
    عبدالغفار الدلاش

    بِالأَمْسِ أَقْبَلَ مُشْرِقَ المِيلادِ *** شَهْــرُ التُّقَاةِ وَقِبْلَةُ العُبَّـادِ
    فِي مَوْكِبِ الأَفْرَاحِ حَطَّ رِحَالَهُ *** وَأَقَامَ فِي بِشْرٍ وَفِي إِسْعَادِ
    حُلْــمٌ يَمُرُّ وَفُرْصَةٌ مَرْغُوبَةٌ *** كَالطَّيْفِ لا كَبَقِيَّةِ الآمَـادِ
    وَاليَوْمَ شَدَّ إِلَى الرَّحِيـلِ مَتَاعَهُ *** قَدْ زَوَّدَ الدُّنْيَا بِخَيْـرِالزَّادِ
    لا أَوْحَشَ الرَّحْمَنُ مِنْكَ مَنَازِلاً *** خَيْرَاللَّيَالِي بَيْنَ كُلِّ مَعَادِ
    رَمَضَانُ تَأْتِي وَالوُجُودُ مُعَرِّسٌ *** وَتَجِيءُ إِثْرَكَ بَهْجَةُ الأَعْيَادِ
    وَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى الرَّحِيلِ فَإِنَّمَا *** حُزْنُ الفِرَاقِ يَحِزُّ فِي الأَكْبَادِ


  10. #20
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. وداعا وداعا أيا جدتي
    بواسطة عيسى سلامي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 11-11-2015, 08:57 AM
  2. وداعا رمضان.
    بواسطة ملاد الجزائري في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16-07-2015, 02:17 PM
  3. وداعا رياض الطيور وداعا
    بواسطة شاهر حيدر الحربي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 24-04-2015, 07:18 PM
  4. وداعا داعا وداعا/ لتخليد ذكرى استشهاد الشهيد عدنان.
    بواسطة نادية بوغرارة في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 28-12-2012, 07:19 PM
  5. وداعا ً يا ضيا عيني وداعا
    بواسطة عبد المجيد أبومأمون في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 12-02-2006, 08:21 PM