كتبتْ لي صديقتي تسألني عني ؛ عن ذاك الذي كان شمساً دافئةً تتسلل أشِعَّتُها الفضية كل صباحٍ ؛ فتهامسُ القلوب ، وتراقصُ المَشاعِرَ ، وتسكبُ في النفوسِ رحيقَ البَهْجةِ والصفاء والجمال ... لمَ احتجبت اليوم خلف غيمات الوَجْدِ وضبابات الألم ، وكيف داهمتها حُلْكَةُ الحُزنِ واليأسِ في ساعاتِ الضحى .
تسألني صديقتي – والبراءة تنسابُ عبر حَفيفِ حروفها - عن ذاك الذي ينحدر من سلالة "الرومانسيين" ؛ ذاك الذي كان يسكن السحابةَ المجاورة للقمر ، ويتحدث لغةَ الفراشات ، ويتَنَسَّم عَبقَ الرَّيْحَانِ ، ويطْعَمُ أوراق الفُلِّ ، ويشربُ من بَحْرِ الشِّعْرِ ، ويسامرُ الكَنَارِيّ في المساءاتِ الممطرة ، وينام آخر الليلِ في الأحداقِ الخُضرِ ؛ وفي الأحداقِ السُود ؛ وفي الأحداق العسلية ... كيف الآن اجتاحته جحافلُ "الواقعيين" ، وكيف احتلت قصره البَلُّوري ، وسكنت شرفته المطلة على بحيرات النُور ، وكيف أقامت الحواجز ونقاط التفتيش بين أوراقه لمصادرة الحروف الملونة ، وكيف غطى عشبها اليابس بساتينه المُزهِرة .
لا تكف صديقتي الطيبة عن ملاحقتي بالأسئلة ؛ فهي تسألُ عن عصفورِ صغيرٍ اسمه "الحب" ؛ كان يصحبني كل مساءِ إلى المراعي القرمزية ، ويغني معي ذات الأغنيات الكلاسيكية ، ويعزفُ معي على ذات النايات الصَّنَوْبَريّة ، نغتسل سوياً في نهر الموسيقى ، ونَتَنشَّفُ بقصائد من حرير ، ونتسابقُ بين شجيراتِ الحُلمِ النائمة بأحضانِ مدينتنا العُذْريِّة ... فمن كسر اليوم للعصفورِ جناحه الرقيق ، ومن قطع رحلته الكونية وأسكت شدوه الصَدَّاح في زوايا الأفق ، ومن سرق ريشاته الزَّهْرية المخبأة بين دفاتري .
صديقتي تسألُ أيضاً عن حُقول البَنَفْسَج التي كنت أزرعها في جُزُر الشمس ، وأسقيها من ماء النهرِ الممتد ما بين نجمات الحب ومحيطات الأمل ، وأبيعُ زهراتها كل ربيعٍ للعشاقِ عند ناصية الكوكب الورديّ ... لمَ يبست الحقول وذَبَل البَنَفْسج وجفّ النهرُ المتدفقُ بفَتِيت الياسمين ؟
في كل سطرٍ من رسالتها ؛ ترسم صديقتي علامة تعجب ، والعديد من علاماتِ الاستفهام ، وتزعمُ أنني علًمتها أشياء وأشياء ؛ نقشتها في صفحات عمرها البيضاء ، وحفرتها كالوشمِ على جدران قلبها الأخضر، وزينتُ ضفائرها بورودها الناعمة .
تقول صديقتي – وهي محقةٌ - ؛ إنني الآن تغيرتُ ، ما عدتُ أنا ، وأنني أفتقدني ، مثلما هي تفتقدني ، وتنتظرُ عودتي إليّ ، مثلما ينتظر العشاقُ زهورَ البَنَفْسَج في فصل الربيع .
تختم صديقتي رسالتها بزفرة أسى لا تخلو من بعض العتاب وبعض الشجن والكثير من الحيرة والدهشة ، وتذيلها بتوقيعها : " تلميذتك في مدرسة الحبِ والحلم "
*****
صغيرتي ؛ صديقتي العزيزة ؛ أيتها التلميذة ..
فيمَ الدهشة إذا ما أخطأ المعلمُ ثم أثاب ؟ .. فيمَ الدهشة إذا ما اجتهد فأدرك الصواب ؟
بماذا أجيبك – صغيرتي – وليس لأسئلتك من إجابات ؟.. فياليتك لا تسألينها ..
لاتسألي عن قبيلة الرومانسيين ... فقد أفناها الزمانُ كما أفنى شعوبَ الهنود الحمر ، ومن تبقى منهم ؛ يختبئ هناك في كهوف العزلة شريداً مطروداً من عالمنا الجليدي .
لا تسألي عن العصفور الصغير القتيل برصاصات "الواقع" و "الظروف" و"الزيف" و "الخداع" ؛ فهو الآن يرقد ميتاً في "غرفة الإنعاش" ؛ تحيط به "أجهزة الإعاشة" ؛ لأن بعض الحمقى المكابرين من الأطباء يقفون ضد الحقيقة رافضين إعلان موته.
لاتسألي عن البساتين والحقول والورود والعطور والأمطار اللؤلؤية والنجمات الهامسة والأمنيات الحالمة ، فكلها ؛ كلها ؛ هلوسات شاعر ؛ رسمها على الأوراق وتغنى بها على الأوراق وبناها مدينةً من الأوراق .. متناسياً أن زماننا الصخري لا يعترفُ بشَّرْعيةِ الأوراق ولا لُّغَة الأوراق ولا مُدُنِ الأوراق .
فاحرقي – صغيرتي - كل أوراقي ؛ لا تقرأيني ؛ لا تسمعيني ؛ لا تفهميني ؛ لا تصدقيني ، لاتخاطبيني ثانيةً بصيغة "الأستاذ" ؛ فقد كنتُ معلماً فاشلاً ، وكاتباً فاشلاً ، وصديقاً فاشلاً ، وعاشقاً فاشلاً ... علمتك الدَّرْسَ الخطأ من المقررِ الخطأ في الحِصَّةِ الخطأ ، وتركتك وحدك في لّجْنةِ الامتحان .
صديقتي العزيزة ..
ها أنا الآن استجمعُ بعضاً من شجاعتي ، لأعترفَ بخطيئتي ؛ لأقرَّ بذنبي وأعلن توبتي ، وأقسم بالألمِ وبالحُزنِ وبالجُرحِ النازف في جنباتي ؛ ألا أعود ثانية لحماقاتي ، وأن أكف عن ترويج تلك الخرافاتِ ؛ عن الحُلمِ الممكن ، والأمل الأخضر ، وعن ترنيمةٍ لَذِيذةٍ تُتلى في الأساطير ؛ اسمها "الحب" .
ها أنا الآن أغتسلُ من أحلامي ؛ أتوضأ بغبارِ الزمنِ الحجري ، واتطَّهر من رِّجْس الورد ومن رِّجْس الشِّعْرِ ومن رِّجْس الحب المصلوب على أسوارِ الآلام .. أصلي في محراب "الواقعية" ؛ ميمماً وجهيّ شطرَ "الواقعِ" و "المفروضِ" وحَزْنِ الأيامِ .
صديقتي الصغيرة ..
ها أنا الآن أقدم إليكِ اعتذاري ... وللواقع القَسْري ؛ قدمتُ ولائي وطاعتي ، وأعلنتُ انكساري .