الاستعمار هو طريقة المبدأ الرأسمالي في الانتشار ،وإيجاده في واقع الحياة وهو يعني بسط الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية وكما هو طريقته في نشر المبدأ وإيجاده في
واقع الحياة فقد اتخذ كذلك وسيلة لنهب خيرات البلاد وسلب ثرواتها وامتصاص دماء أبنائها . هذه هي الطريقة الأساسية في نشر المبدأ الرأسمالي وهي نفس الطريقة التي سار عليها في نشر مبدئه
في العالم الإسلامي . فجيش الجيوش وعقد الأحلاف وسخر العملاء والطامعين من أبناء الأمة وأعلنها حرباً أسموها الحرب العالمية الأولى . ولما بسط هيمنته العسكرية على أقطار المسلمين
فمزقها أولاً حتى تفقد قواها قبل ان تدرك خطورة ما حصل وفظاعة ما أعانت عليه أو سكتت عنه ثم عمد إلى بسط هيمنته السياسية فأقام عملاءه وأعوانه حكاماً على رقاب المسلمين يأتمرون بأمره
وينفذون ما يشاء من سياسة .ووضع يده على مقدرات البلاد وخيراتها وفرض النظام الاقتصادي
الذي يريد ووقع هؤلاء العملاء معه الاتفاقيات الاقتصادية التي تمكنه من الحصول على الثروة مثل اتفاقيات النفط المزرية . وسار في بسط هيمنته الفكرية والثقافية وكلف نواطيره بتنفيذ ما يريد حتى
يتم له بناء المجتمع وترسيخ المبدأ فيه على عين بصيرة بالشكل الذي يريد والقدر الذي يريد . .
ولما كانت الثقافة هي صاحبة الأثر الأكبر على الفكر الإنساني ،والذي يؤثر على مجرى الحياة عمد إلى فرض ثقافته على الناس فوضع مناهج التعليم والثقافة على أساس فلسفته– فصل الدين عن الحياة والتي هي وجهة نظره في الحياة . وللإسراع في تركيزها أو سرعة انتشارها قام بإنشاء المدارس والمعاهد العلمية في كل مدينة أو قرية . ساعده في ذلك خلو معظم المدن والقرى من المدارس . نتيجة لسوء تصرف القائمين على رعاية شؤون المجتمع في العصر الهابط مما جعل الناس يرتاحون بعض الشيء لمثل هذا العمل وغاب عنهم ما يخفي وراءه .
وقد فرض على هذه المدارس والمعاهد مناهج أعدها هو ، وألزم المدارس والمعاهد بها ولم يسمح بجزئية واحدة أن تخرج عما وضع من مناهج وفرض من برامج .
وبنظرة بسيطة إلى ما وضع من مناهج ثقافية نرى مثلاً مادة الدين؛ فالاستعمار لم يمنع تدريس الدين الإسلامي بل على العكس جعله مادة أساسية في جميع المدارس ولكن بالكيفية التي يريد فالدين لا دخل له بالسياسة وشؤون الحياة وإنما هو شأن من شؤون الآخرة وعلاقة العباد بربهم . فالمنهج يقتصر على العقائد والعبادات والأخلاق . ولا يجوز أن يتدخل هذا المنهج في نظام الحكم أو النظام الاقتصادي أو الواقع السياسي ، فالدين مفصول عن السياسة مبعد عن الدولة(أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) وتدخله في الحكم والسياسة يثير الفتن والحروب! ويجلب المصائب والويلات! فأوروبا عانت من تدخل الدين بالسياسة وجرها إلى حروب دامت مئات السنين فلم تنهض ولم ترتق إلا بعد أن أبعدت الدين عن السياسة والدولة . هذا ما يجب أن يسير عليه منهج مادة الدين وعلى القائمين في وضع التفصيلات للمنهج أن يلتزموا هذه القاعدة .هذا ما فرضه على الناس .
أما مادة التاريخ ، فالقاعدة الأساسية فيها جعل تاريخ أوروبا هو المثل الذي يحتذى وشخصية الغرب هي المثل الأعلى الذي يجب أن تقلد ولكم في الغرب أسوة حسنةوتشير الإصبع إلى واقع تلك البلاد الراقية الناهضة . فالقاعدة الأساسية في مادة التاريخ نقطتان الأولى : الصورة المشرقة لأوروبا ونهضتها وتاريخها وشخصيات رجالها ومفكريها . وأما الثانية فتاريخ الأمة الإسلامية :
كما كتبه المستشرقين أمثال فيليب حتي أو غيره من المستشرقين فما تركوا فتنة حدثت أو خلافاً وقع أو صراعاً على حكم إلا أبرزوه في قالب جعل الشباب المسلم يخجل من تاريخه ويتصور معركة
الجمل ومعركة صفين ومعركة مرج دابق وغيرها وتنافس الخلفاء واغتيال عثمان و عمر و علي
وما إلى ذلك من أمور صورت بقالب جعل المسلم يأنف حتى من سماعها ، وأصبح لا يرى من تاريخه إلا تلك الصورة القاتمة التي وضعوها أمامه .
وأما مادة اللغة العربية فقد غلفوها بالقالب القومي بحيث يتأتى لهم نشر المشاعر القومية والاعتزاز بالعرب والعروبة والتغني بأمجادها وألفت الكتب ودبجت المقالات ونظمت الأشعار في هذا
المضمار حتى باتوا لجهلهم يرون أن للعرب والعروبة فضلاً على الإسلام فلولا ذلك ما انتشر الإسلام ولا وجد في الحياة .
هذه بعض المواد الأساسية في المنهاج الثقافي وهي المواد التي تؤثر في تكييف عقلية الفرد
وبناء شخصيته زد على ذلك من عينوهم لتنفيذ هذه المواد والإشراف عليها وتدريسها مما
جعل الطلاب يكرهون الدين لشخصية المدرس وتصرفاته ، وطلاب اللغة العربية خرجوا بل أنهوا مناهجهم فتخرجوا أعاجم فجمعوا بين الأمرين :فساد المنهج وفساد القائمين عليه .