الجمعة...
مزقت كل الكتب .. أحرقت كل ما قرأت ، لا أدرى كيف سيكون شكلُ النهاية ..
مئات المقالات والقصص كتبت ، ضحكت من سذاجتي عندما عثرتُ على أول مقال لى فى صحيفة مغمورة ..
ما قيمة الكتابة ؟
ما معنى اللذة ؟
لماذا لا يتوقف قطار الوقت ؟ مواعيد وأصدقاء وأقارب وقراء.. لا فرق فى الملامح والمشاعر .. لا أحد يعطيني معنى لحياتي .. لا شيء قادر على إبقائي حية .
قابلني بعد انقطاع ، ذكرني بأول لقاء .. وبالأماكن.. حدثني عن لون الفراق وشكل الوداع.. ظللتُ صامتة أتأمل عينين خادعتين .. سألته : هل تستطيع أن تدلني على معنى وجودنا .. أريد أن أفهم كيف كانت البداية ؟
الاثنين ...
أستريح تحت ظل شجرة خريفية ، منهكة الأوراق والغصون..
رغم ما فى قلبي من ألم إلا أننى أشعر بالحنين ..
أعزم على المواصلة .. أقاوم ضجري .. أعاند وهني
للمرة الأولى أنظر بصدق إلى السماء .. السماء يا للروعة الغائبة فوق رؤوسنا
مرت الأحداث أمام عيني سريعة ، دمعت عيناي ، هذه هي المرة الأولى ، لم أعرف يوما سببا للبكاء .
جربت رفع يداي إلى أعلى .. إلى فوق .. قبضت بعزم على الفراغ ، وجذبت جسدي ونجحت فى النهوض .. مع تكبيرات المؤذن .
الله أكبر
الخميس ...
سنوات من الجفاف والجمود والضياع ...
تعرفتُ عليه ، كما تعرفت على الألم وعلى الأوجاع وعلى الأسئلة والغموض ..
خرجت ، تركته وحيداً وأغلقت عليه باب مكتبي ..
خرجت أبحث عن فضاء.. عن حياة.. عن وجود..
أشعر بانتعاشة عندما يلامس وجهي الهواء..
طفل صغير فى الميدان بجوار نافورة ، جالس تحت شلال المياه ..
أريد ماء.. أرغب فى الارتواء.. التطهر .. أريد أن أغسل أدراني وأن أطهر جسدي وروحى ..
بعد خطوتين بقدمي المثقلتين، أسقطُ مغشياً على ..
الثلاثاء ...
غيبوبة ، إلى متى أظل فاقدة الوعي ؟
ينتهي الشيخ من قراءته ، وبعد تمتمات وهمهمات يعم السكون ..
غيبوبة ، غشاوة على عيني ، محجوبة عن قلبي الحقيقة..
صرخات أمي تعانق سحبَ الصمت .... .... لا فائدة .. لا فائدة
محمولة على الأكتاف تبكيني العيون ..
الأربعاء...
أنا لا أحتاج لطبيب .. لست مريضة ، ولا بى جنون ..
كأنني أسيرُ فى ظلمة ، كأنني أسيرة زنزانة جدرانها الشكوك والهواجس والظنون ..
أسكبوا فوق رأسي معرفة .. أغرقوني فى اليقين ... لا أحتاج لطبيب ، ولا رغبة لى فى دواء ..
أحتاج لمن يدلني على الحقيقة .. لمن يجيبني ، من أنا ، ما هدفى ، من أكون ؟... من وراء تلك الأشياء وما سر هذه السماء ؟
أريد أن أنسى الأرض ساعة، وأتعرف على من فى فوق .. على من فوق
الخميس ...
عينان ذابلتان ..
حجرة واسعة ، وسقف مظلم ، ويد مرتعشة ..
وقلب مسكون بالألم .. يا للألم ..
السبت ...
سلم عال .. مرضى منتظرون
ينادَى على اسمي ..
كأنني أخطو فوق عظام وجماجم .. أقرأ فى عيونهم الوجع .. مسميات تنتظر أن يُنادى على أسمائها فى طابور الخلاص .. انطلقت صرخة مُدوية .. آه ممتدة ، ممزوجة بالألم ، مسكونة بالفزع ..
فى حجرة الطبيب ، مكتب صغير .. جهاز قياس الضغط وسماعة ..
وصوت الآذان يعلو مع نبضات قلبي ..
الأحد ...
لا ألتقى بأبي كثيرا .. ، سألني بعد أن ودع الضيوف :
ما رأيك فى العريس ؟
قلت له : يا أبى ، لماذا تصلى ؟
ضحك وقال : لأنني ضعيف.... اقتربت منه ، وقلت: أنا فى حاجة إليك ، أريدك إلى جواري ... لا ترسلني إلى أطباء .. لا أريد شيوخ ولا مقرئين ..
اقرأ على يا أبى بصوتك سورة ياسين ..
رتل أبى بصوت حزين ، ثم ضمني إلى صدره باكياً .. قال : هكذا كان يفعل بي أبى ...
الجمعة ...
سألتُ الشيخ ، كيف أتوب ؟.. قال : تمتنعين ..
قلت : فما بال ذنوبي؟ .. قال: تُمحى بمجرد أن تتوبي ...
قلت : فما بال الشوق ؟... هل يحلُ لى أن أشتاقَ لربى ؟...
قال : هذا هو الطريق .
الأحد ...
مالتْ على أمي وهى تنازع ، قلتُ : بماذا تشعرين ؟
قالت : بالرضا..
قلت : ماذا ترين ؟
قالت: أرى فستان عُرسي
قلت : ماذا تسمعين ؟
قالت: أسمعُ صرخاتك يوم ولادتك .
الاثنين ...
أمام القبر ، رفع أبى يديه الى السماء..
عدتُ الى البيت .. .. وقفت أمام المرآة ، شعرت بضآلتي ..
لم تعد لدى رغبة فى الحياة ، إما أن ألحق بأمي .. أو يدلني أحد على ضالتي .
الثلاثاء ...
سألته : هل لديك فكرة عما يحدث بعدَ الموت ؟
أغلق الخط فى وجهي ..
وعندما عاودتُ الاتصال ، قال: لن أحدثك إلا بعد الأربعين ..
الأربعاء ...
أجلسُ فى شرفتي مع فنجان شاي ..
ألمحُ من بعيد طائراً هارباً من قفصه ، يلاحقه صاحبه .. يكاد من فرْط حرصه عليه يطير فى الفضاء .. والطائر يسقط ويعلو ... يسقط ويعلو.. إلى أن يستقيم بجناحيه فى السماء .. آه .. يا للسماء
الخميس...
أبى .. أريدك أن تعلمني الصلاة...
أعرف الحركات ، وعدد الركعات..
أعرف كيف أقف فى اتجاه القبلة..
وكيف أرفع يداي بالتكبير..
أريدك يا أبى أن تعلمني الوصول .. أن تلهمنى المناجاة..
الجمعة...
أخيراً اتصل بعد الأربعين..
قال: هل أستطيع أن أحدثكِ الآن .. هل نسيتِ الموتَ وما بعد الموت.. هل زال عنك الحزن ؟
قلت : وهل خلقنا فقط للمرح ؟
أغلقت بوجهه الخط، وقلت لنفسي وأنا يغمرني الفرح :
لئن زال عنى الحزن، فقد رُزقت اليقين .
- تمت -