ظلمــــــــــــــــــة
النهار يمتزج في الليل .. فيذوب النور ويتلاشى .. وتصير الأوقات كلها مكحلة بالســـواد .. !
ويبقى القمر المغشي عليه طريحا في السماء كحمامة طعنها نصل غادر .. أما النجــــوم تخلت
عن زينتها ، وبدت كنسوة بجلابيب سود تندب لرحيل ميتها .. حتى النسيم العليل صار عكــرا
ملوثا ، ولم يعد ملاعبا للأغصان .. بل أمسى كئيبا ، متسكعا بين الأشجار المبتورة ، نائحـــــا
على الزيتون المتهالك الملطخ بالوحل ؛ حتى أعمدة النور مبطوحة على الأرض كقتلى أرداهــا
الرصاص ، وغيرها محنية كشيوخ حناها الدهر ولاذ بالفرار ؛ بينما الفضاء خلا من أطيــــاره
وغراده ، ليس فيه سوى بقايا دخان ابتلعها الظلام فزادت من صبغته ، حتى الأرض عــــريت
من الدواب ومن الخطى ، ليس فيها الا دواب الموت ، موغلة في سراديب الحطــــام ، وخطى
قدمان متعبتان تنحدران في عتمة النفس .. تتزحزحان مابين أطلال المدينة . لعــــل الشوارع
والأزقة تحفظان ولو ببواق من فلذات الأكباد ، وبواق من العشيرة ، ولعل المخابئ تجـــــــود
بالأبطال .. ؛ أو لاهذا ولا ذاك : لعل الفضاء يحتشد بأطيار أبابيل .
كادت القدمان المتعبتان تفقدان حراكهمـا .. وبدا الإنهاك يطارد الشهيق والزفير .. ؛ تسمرت
قدميهـا .. ثم هبطت متقوقعة على صخرة من بيتها المكوم .. لاتشغلها ضـــــتـربات المخيض ،
بمثل ما تشغلها ضربات الهزيمة .. وانطفاء الشموس .. وتلطيخ الجواهر .. ويشغلها أيضـــا
الإنصات ــ من فينة لأخرى ــ بين الجدران المتناثرة ، لعلها تسمع أنينا يذيب بعضا من الثلـج
المتراكم على صدرها ، كتراكم الجليد في الأقطاب البعيدة .
أغمضت عينيها ، ودموعها الجارية مازالت تفكك الدم المتخثر على وجنتيهـــــــــا . تزايدت
ضربات المخيض بقـوة .. تتلــوى .. تساندها الأحجار الصلدة .. تأويهـا الأطلال المتزاحمة ..
يسترهـا الصمت المصلوب على الظلمـة ؛ رفعت عينيهـا عوضــــــــــا عن كفيها المنهكتين ؛
تتضرعت بتمتمات عجـزت عن توضيحها بلغــــة اللسان ... ، ولكنها واضحة مسترسلة إلى
السماء بلغة الفؤاد .. ثم صرخت صرخة ختمت بحياتها ، تبعها على الفور صراخ مولـــــود
فتحت عيناه على جند يتوافدون من فوهــــات المخابئ ، عازميـن على أسقاط الظلمة
عبدالله عيسى