أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: الحب الكبير..الجزء الرابع:الزلزال

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالرحمان بن محمد قاص
    تاريخ التسجيل : Aug 2008
    العمر : 47
    المشاركات : 253
    المواضيع : 23
    الردود : 253
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي الحب الكبير..الجزء الرابع:الزلزال

    الحب الكبير.. قصة من أجزاء
    الحب الكبير..الجزء الثالث

    الجزء الرابع :الزلزال

    نفس التقليد الصيفي السنوي، وبذات التفاصيل الدقيقة المتكررة.. هنا التاريخ يعيد نفسه بامتياز.. كلام الله المنزل يعلو فوق كل كلام.. يخرج من أفواه الفقهاء والطلبة بترتيل جماعي مهيب.. وفي فناء المسجد الواسع الجميل قدور على نار ملتهبة.. نساء ما هرات يفتلن الكسكس.. رائحة الشاي الممزوجة بطعم النعناع تمتزج بالهواء النقي فتتسرب لداخل الأجسام، فتشحذ حواسها وتغرقها في لذة روحية عجيبة.. وكالعادة ، لا أحد من سكان القرية يتأخر عن هذه السنة السنوية.. حتى العاجز أو المريض يحضر.. ففي الجمع بركة، وشفاء، واستجابة من الخالق للدعوات.. وسعيد كان من بين الحاضرين.. هو لم يحضر جمعا منذ أن تلقى تلك الصدمة..كان دأبه الوحيد، صباحا ومساء المكوث في مكانه المعهود، ونحت الأرض بعوده المكسر..واليوم كباقي الناس حضر..وقد أكثر الدخول والخروج، فما إن يكاد المقام يستقر به داخل المسجد ويصدع بالتهليل والصلاة على النبي المختار، حتى يكر راجعا، شاقا بهو المسجد، ومختلسا النظر جهة النسوة لعله يراها..وكان ككل مرة ينكص على عقبيه في حيرة، ولما استيأس ، غادر كليا إلى الخارج دون أن ينتبه لمليكة وأخته الشقيقة وهما تتبعان أثره، فتهتف فيه الثانية:

    - لا تقلق سعيد.. هي بالذات لا يمكنها أن تتخلف عن هذه الوليمة.. وما تأخرها عن المجيء إلا لأنها نسيت حاجة لها وهي في طريقها إلى هنا مع العائلة، فكرت راجعة كما أخبرتني مليكة..

    بقي سعيد صامتا للحظات وهو يحاول جاهدا السيطرة على مشاعره المتصارعة، قبل أن يلتفت لمليكة وكأنه يراها لأول مرة ويقول لها معتذرا:

    - مليكة..أرجوا أن تسامحيني على ردة فعلي في ذلك اليوم..

    تألقت عينا مليكة، وهمت بالحديث، لكن بدل ذلك أطلقت صيحة عفوية قوية، لتتبعها صرخات باقي النسوة، ويصدع كل الرجال بالتكبير والتهليل، فتميل مليكة يمينا ويسارا، شأنها شأن كل الواقفين، ثم تسقط أرضا، وتتبعها بعد ذلك شقيقة سعيد، وقد غابت هي الأخرى عن الوجود دون حتى أن تتمكن من رؤية ذلك المشهد المخيف..

    مشهد صومعة المسجد وهي تتصدع، وتميل بجزئها العلوي نحو مقبرة القرية، فتتحطم فوق شواهد الأموات في دوي هائل، فاق دوي الهزة الأرضية العنيفة التي حدثت قبل قليل..

    ألقى سعيد نظرة خاطفة على الجسمين الممدودين أمامه في سلام، ثم انطلق عدوا وهو يصيح باسم واحد..

    اسم سعيدة..

    **********

    لو صح لنا التشبيه، لقلنا أنه كان ينبش التراب على طريقة قط أضاع فريسته بعد أن ضفر بها.. كان ينبش ويزيل الأحجار مناديا في لوعة:

    - أجيبيني حبيبتي.. أي جزء من الجدار تمكن منك؟! وأي ذرات تراب وأدتك؟!

    لا أصدق أن فتاة في مثل سنك هزمتني بدماثة أخلاقها، وقوة إيمانها، وكمال طهرها وعفافها، تكون قد سقطت الآن ضحية لجدار من طين؟!

    بربك تكلمي.. قولي أنك حية.. قولي أن قلبك لا يزال فيه حياة، وبقية حب لي..

    وأعدك سعيدة أني لن أتسبب لك بعد اليوم في ما تكرهين.. ولن أقدم على فعل إلا بعد إذنك.. سأستأذنك حتى في حبي لك.. سأستأذنك قبل أن أقول لك أني أحبك..

    سأستأذنك قبل أن أنادي الأحياء والأموات ليشهدوا على حبي الطاهر لك...

    بالكاد تنبهت حواسه لصوت يناديه من الخلف، ودون أن يميزه، أو يستدير ناحيته، قال وعيناه مغرورقتان بالدموع:

    - أرجوك مليكة.. دعيني أندب حضي وحدي، وأبكي فقدانها، وأطلب عفوها وصفحها..

    تكرر النداء من الخلف فاستدار هذه المرة، وكان ما وقعت عليه عيناه مفاجئا له إلى أقصى الحدود..

    فما رآه ارتد على أحاسيسه كزلزال عنيف ، وأحدث فيه ما لم تحدثه الهزة الأرضية من قبل..

    فما إن وعي صاحب النداء حتى سقط أرضا..

    وفاقدا وعيه..

    **********

    انتهى الجزء الرابع بإذن الله

    ويليه الجزء الخامس والأخير من الفصل الأول: حياة أو موت

  2. #2
    الصورة الرمزية عبدالرحمان بن محمد قاص
    تاريخ التسجيل : Aug 2008
    العمر : 47
    المشاركات : 253
    المواضيع : 23
    الردود : 253
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي الحب الكبير..الجزء الرابع:الزلزال

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحب الكبير.. قصة من أجزاء

    ج01: الخطأ العظيم



    توقف للحظة عن التشريط* بعوده اليابس، ليختلس نظرة شغوفة، محتشمة، ناحية الجالسة يساره، قبل أن يشيح عنها، ويعاود التشريط على التراب الأحمر،محدثا خطوطا شبه دائرية حول نبات الشوك البري، وعقله يستعيد صورة واضحة لها، بملامحها البدوية الجميلة، بعينيها الواسعتين السوداوين كليل بلا نجوم،وفمها الصغير الذي ينتهي بشفتين ممتلئتين، شقت إحداهما بقساوة الطبيعة، وبأنفها الدقيق، ووجنتيها الحمراوين كفاكهة رمان طازجة، وقد زادتا احمرارا بسبب خجلها المستمر و...

    توقف ذهنه عن استعادة تفاصيل ملامحها ،وجاهد نفسه ليبقيها على وقارها، وهو يسمعها تهمس له في صوت حنون لا يكاد يسمع:

    - بعد إذنك .. سأنصرف ..سيدي سعيد..

    انفطر قلبه ، وكاد غاز الكربون الذي تخرجه رئتاه ينحبس في صدره، وجاهد ليخرج صوته ناهيا إياها عن المناداة له بالسيد، لكن ما إن التقت عيناه بعينيها حتى بح صوته، وتلعثم ،ليقول لها في الأخير مترجيا:

    - ابقي معي للحظات لو تفضلت، ففراقك لا أكاد أطيقه..

    ذابت بنظرتها في عينيه على غير عادتها، وهي تقول:

    - ولا أنا .. لكن هي سنة الحياة كما تعلم.. فدوام الحال من المحال.. لكن كما سنفترق الآن سيكون اللقاء غدا إن شاء الله..

    حاول أن يجادلها ليثنيها عن الذهاب ، لكنه تنبه إلى أنه قد تجاوز ما هو مسموح به، فاكتفى برفع كفيه علامة الموافقة، وهو يحاول السيطرة على مشاعره، وغض البصر عنها، لكنه ورغما عنه رفع نظره ناحيتها وهي تقف مبتعدة، نافضة التراب عن ملابسها، ففغر فاه وهو ينظر قدها الفارع، ومشيتها القاتلة، وهي في لباس من قطعتين، ينتهي حد الركبة، وسروال زهري اللون يسترها حتى كعبيها، ولم يتمالك نفسه فصاح فيها قائلا:

    - سعيدة.. لحظة من فضلك..

    توقفت مستديرة إليه في دهشة خجلة، وهي تراه يقترب ويقترب و..

    وفي رمشة عين مال بوجهه كله عليها، وأتى بحركة غريبة مفاجئة، جعل أحاسيسها تتخدر، كأنها في إحدى طقوس التنويم المغناطيسي على لوح خشبي تميل به أمواج هادئة، وصوت موسيقى ينبعث من اللا شيء، قبل أن تندفع موجة عاتية أخرجتها من حالة اللا وعي تلك، فتنبهت لهول ما حدث، فأشاحت بوجهها عنه هاربة، وهي تجهش في بكاء حار..

    بكاء سيفقدها بريق عينيها، ويغرقها في ظلام دامس..

    ظلام لا يعلم إلا الله متى ينجلي..

    *********



    تم بحمد الله ويليه الجزء الثاني :الطعنة المميتة..



    المصدر: ملتقى رابطة الواحة الثقافية - القسم: القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    =======


    الجزء الثاني: الطعنة المميتة..



    في مساء ذلك اليوم بدا سعيد على غير مسماه ،كئيبا، واجما، غائبا بذهنه عن الحسيات، حتى أنه لم ينتبه لصوت أمه وهي تكرر النداء:

    - بني.. إنك لم تأكل شيئا منذ الصباح الباكر، وقد وضعت لك الطعام وكل مرة أعيد تسخينه لأجده على حاله لم يمس.. فما الذي أصابك بني؟

    انتبه من جموده منتفضا في عنف، فصاح في أمه سائلا:

    - أمي ..كيف التقيت بأبي أول مرة؟

    أربكها السؤال فقالت متلعثمة:

    - ماذا؟ ما لذي ترمي إليه بسؤالك؟

    سألها في اهتمام:

    - أعني كيف جاء زواج أبي بك؟

    تملكتها الدهشة، والحرج ،وقد استغربت اندفاعه غير المسبوق، وهي تقول:

    - بني.. هذا موضوع أكبر منك.. ووحدها السنون من ستجيبك عليه.. اهتم الآن لصحتك، فالشحوب باد على وجهك..

    تذكر أنك هنا في عطلة الصيف لتستمتع بمناظر القرية الخلابة، بمائها العذب، وهوائها النقي ،وطعامها الصحي، بعيدا عن ضجيج وصخب المدينة..

    فأسعد نفسك بما هو أمامك، ولا تحاول أبدا الخوض في تفاصيل أكبر منك..

    لم يبد أنه اقتنع بمنطق والدته فهم بمجادلتها، لو لا أن سمع نحنحة الأب مقبلا، فانسحب تاركا أمه تشرك حيرتها تلك أباه..

    ************

    جلس كعادته في ذات الموقع منتظرا إياها.. بعوده اليابس راح يشكل خطوطا غير منتظمة على التراب الأحمر..

    انتظر.. طال انتظاره..

    ولأول مرة بدأ اليأس يتسرب إليه. فهي لم تتأخر سابقا عن الموعد ولو لثانية واحدة، والآن نصف ساعة مضت وهي لم تظهر بعد..

    لعل الموضوع متعلق بما حدث صباح اليوم الفائت.. أيكون هو السبب فعلا رغم عفوية وبراءة فعلته؟!!لا يعتقد هذا.. بل يكاد يجزم أن حبها له أكبر من تلك الأفعال، وهو حتى هذه اللحظة لا يعتقد أنه أتى حراما .. ففعله ذاك طبيعي الحدوث بين حبين كبيرين طاهرين. فأين العيب في أن يتماس جزءان من جسميهما، وقد انصهر قلباهما في جوف واحد يتغذى بأحاسيسهما الجياشة النبيلة ..

    أيعقل بعد هذا أن تكون قد جافته بسبب فعله ذاك!! إن كانت خلاصته الأخيرة صحيحة فالويل له إذا..

    توقف فجأة عن التفكير، وقد تهللت أساريره، وصعد إليها الدم من جديد، وهو يلمحها من بعيد مقبلة فاستبشر خيرا، وإن لم يتمكن ذهنه من استنتاج تفاصيل ما تعيشه الآن، وهي تقدم خطوة وتؤخر خطوة، وهي في صراع مرير مع مشاعرها المتناقضة..أتسمع لنداء قلبها، وتسرع الخطى ناحية سيدها ،وحبيبها، وترتمي على يده طالبة الصفح!!.. أم تسمع لنداء عقلها وكرامتها الذين يهولان، بل ويجرمان فعلته تلك!!..

    عاد قلبها يستعيد تلك اللحظات بأحاسيس بلغت حد الكمال، وشخصه يدنو منها برفق، وحنو، ويطبع على جبينها قبلة لطيفة، أججت نارها الهادئة، وغمرت كامل جسدها في نشوة لم تسبق أن عرفت لها مثيلا، وهي تكاد تفقد وعيها بين يديه، وتذوب في أحضانه، لو لا أن تردد صدى نداء عقلي أزلي، أفاقها من لحظتها تلك، ونبهها لخطورة ذلك المنزلق الخطير الذي تهوي إليه، فيسقط الجدار الذي بنته ليوقف دموعها فتتدفق أنهارا ،وتغشى ما تبقى من بريق عينيها من جديد، وهي تعود أدراجها تاركة حبيبها، يتلقى طعنة قاتلة..

    ومميتة..

    *************

    الجزء الثالث: الصدمة


    - "أماه ..يناديك أخي سعيد خارجا "..

    ألقت العبارة شابة متحجبة صبوحة المحيا، كاشفة عن ابتسامة ذات مغزى وهي تراقب أمها تهرع ناحية سعيد، وتراها تسأله في حنان لم يمح القلق البادي عليها:

    -ما بك بني؟

    بقي مترددا للحظات ثم لم يلبث أن حسم أمره بطلب مباشر:

    - أماه.. أريد منك أن تبادري بطلب يد سعيدة..

    تفاجأت الأم رافعة حاجبيها في دهشة قائلة له:

    -أنت بالتأكيد تمزح..

    بدا عليه الحزم والإصرار واضحين وهو يهتف:

    - ما كنت لأمزح معك في أمر سرمدي وكوني هو أساس استمرار الحياة على وجه الأرض.. أنا جاد في طلبي.. أريد أن يزداد سعدي بالارتباط بسعيدة..

    خففت الأم دهشتها مبدية الجدية كأنما تستعد لجدال طويل قائلة:
    -بني.. أنت في سن لا تسمح بالزواج. أو بالأحرى لن تكون قادرا فيها على مسؤولياته الصعبة، وعقباته الكبيرة، وبخاصة أنك لا زلت...

    قاطعها في حدة لم تعهدها فيه يوما:

    -لا تكرري حججك الواهية أماه، فالزواج سكن ومودة ورحمة، وأما عن صغر سني،فأنت أكيد تحفظين تاريخ زواج أبي بك..

    ودون حتى أن يتركها تعقب على كلامه، أكمل في حدة وهو يهم بالمغادرة:

    - أريدها اليوم أمي.. أريدها اليوم، وليس غدا..

    اعترضته في لين قائلة له:
    - إن كان ولا بد، فسأخطب لك مليكة.. هي تناسبك أكثر.. متعلمة، مثقفة، ومتحضرة..

    بدا لوهلة أنه سينفجر فيها صارخا، ثم لم يلبث أن خفض لها جناح الذل من الرحمة قائلا في جدية:

    - أمي.. ليس دائما ما تُقدر قيمة الشخص بمستواه التعليمي، فمن الناس من يعجبك قوله وشخصه وهو شر الخلق، ومنهم من كانت الدنيا معلمته، ففهم حقيقتها، ووقف على مضارها ومنافعها، فكان أعلم الناس، وإن جهل الفرق بين الألف والياء، وسعيدة من الصنف الأخير، خبرت الدنيا وأحوالها رغم صغر سنها،ومحدودية تعليمها..
    ولعل التاريخ خير شاهد على ما أقول، فكثيرا ما تعلم الأنبياء من أناس بسطاء.. وكثيرا ما حير الصغار الكبار.. وكثيرا ما أعجز الأمي المتعلم..

    لم تنبس الأم ببنت شفة وهي ترى عزم سعيد الصريح والملح في طلبه، فتركته يغادرها بابتسامة لا تتناسب مع الموقف، قائلا في خضوع:

    - ومع ذلك أمي.. فالأمر يعود إليك أولا وأخيرا.. فلك الأمر من قبل ومن بعد..

    **************

    هي نفس الجلسة.. نفس الرسم.. وبذات العود اليابس..

    الجديد هذه المرة أنه كان ينتظر بترقب وأمل.. أمل في مستقبل جميل.. وترقب يملؤه التفاؤل في الظفر بمن أحب وعشق.. كان بوده لو يسمع منها شخصيا قبولها ورضاها عليه.. وهو لا يستبعد الآن أن تغادر مجلس خطوبتها، الذي تحضره أمه وشقيقته وخالته، وتهرع إليه لتسعده ببشرى الموافقة، فيزداد فرحة فوق الفرحة التي لزمته منذ أن سمع بشرى موافقة أبيه وتكليف الوالدة بالتحضير ليوم الخطوبة.. حينها تمنى لو يسبق أمه، ليطلبها هو شخصيا ..

    ألقى نظرة على المنزل البعيد الذي يتوسط أشجار اللوز، فتنهد مسترسلا في أفكاره .. أخيرا ستكون له، ولن يضطر لمواعدتها سرا، ولن يجد حرجا في تقبيل جبينها..
    أخيرا سيتحرر من قيود صارمة كبلت جوارحه، رغم أنه لا يملك من أمرها شيئا.. كيف كان سيمنع قلبه من حبها، وعشقها، وهو لا يستطيع أن يتحكم في عدد دقاته، ولا كمية الدم المتدفقة عبر شرايينه واهبة له حياته؟!! هو أمر غريب بحق.. والأغرب من ذلك ما تنبه إليه الآن..

    ففجأة ظهرت أمامه فتاة في مقتبل العمر، مصطنعة حزنا فاضحا، وجلست على يساره، دون استئذان فبادرته قائلة:

    - أعلم جيدا مقدار الكراهية التي تكنها لي عزيزي سعيد، لكن صدقني هذه المرة، فقد جئتك ناصحة، وحسبي أنك ستقف على حقيقة ما جرى من طرف شقيقتك حينما تعود للمنزل، لتعلم صدق نيتي وعظيم وفائي.. فصراحة لا أجد لشاب مثلك العذر في التعلق بفتاة تصدمه كل مرة بكبريائها الزائف.. وحتى لا تفسر كلامي على غير حقيقته فإني أخبرك أني لست هنا بغرض التقرب إليك، فقد فقدت كثيرا من الأمل في وصالك منذ أن عرفت بالعلاقة التي تجمعك بأختي غير الشقيقة..وقد فقدت الأمل كليا حينما علمت قبل قليل ،مباركة والديً لطلب التناسب الذي تقدمت به عائلتك.

    تألقت عينا سعيد للحظة ،ثم خبا بريقهما سريعا، ومليكة تكمل:

    - لو لا أن...

    قاطعها في حدة:

    - لو لا ماذا؟

    انكمشت على جسمها ،خائفة من ردة فعله لنصف دقيقة كاملة، قبل أن تحسم أمرها قائلة :

    - لو لا أن أفسدت سعيدة فرحة العائلتين في لحظة..

    بقي سعيد مسمرا لا يلوي على شيء، ومليكة تكمل:

    - فقد اقتحمت سعيدة المجلس في رعونة،صائحة بأنها لا تريدك، ولا ترغب فيك..

    ومن لحظتها لم يعد سعيد يعرف كيف استطاع كسر العود اليابس بأنامله الثلاثة فقط، ولا كيف كانت ردة فعل مليكة، وهي تتلقى صفعته القوية..

    فالصدمة التي تلقاها هذه المرة، كانت أكبر من الطعنة الأولى..

    أكبر بكثير..


    ************



    الجزء الرابع :الزلزال

    نفس التقليد الصيفي السنوي، وبذات التفاصيل الدقيقة المتكررة.. هنا التاريخ يعيد نفسه بامتياز.. كلام الله المنزل يعلو فوق كل كلام.. يخرج من أفواه الفقهاء والطلبة بترتيل جماعي مهيب.. وفي فناء المسجد الواسع الجميل قدور على نار ملتهبة.. نساء ما هرات يفتلن الكسكس.. رائحة الشاي الممزوجة بطعم النعناع تمتزج بالهواء النقي فتتسرب لداخل الأجسام، فتشحذ حواسها وتغرقها في لذة روحية عجيبة.. وكالعادة ، لا أحد من سكان القرية يتأخر عن هذه السنة السنوية.. حتى العاجز أو المريض يحضر.. ففي الجمع بركة، وشفاء، واستجابة من الخالق للدعوات.. وسعيد كان من بين الحاضرين.. هو لم يحضر جمعا منذ أن تلقى تلك الصدمة..كان دأبه الوحيد، صباحا ومساء المكوث في مكانه المعهود، ونحت الأرض بعوده المكسر..واليوم كباقي الناس حضر..وقد أكثر الدخول والخروج، فما إن يكاد المقام يستقر به داخل المسجد ويصدع بالتهليل والصلاة على النبي المختار، حتى يكر راجعا، شاقا بهو المسجد، ومختلسا النظر جهة النسوة لعله يراها..وكان ككل مرة ينكص على عقبيه في حيرة، ولما استيأس ، غادر كليا إلى الخارج دون أن ينتبه لمليكة وأخته الشقيقة وهما تتبعان أثره، فتهتف فيه الثانية:

    - لا تقلق سعيد.. هي بالذات لا يمكنها أن تتخلف عن هذه الوليمة.. وما تأخرها عن المجيء إلا لأنها نسيت حاجة لها وهي في طريقها إلى هنا مع العائلة، فكرت راجعة كما أخبرتني مليكة..

    بقي سعيد صامتا للحظات وهو يحاول جاهدا السيطرة على مشاعره المتصارعة، قبل أن يلتفت لمليكة وكأنه يراها لأول مرة ويقول لها معتذرا:

    - مليكة..أرجوا أن تسامحيني على ردة فعلي في ذلك اليوم..

    تألقت عينا مليكة، وهمت بالحديث، لكن بدل ذلك أطلقت صيحة عفوية قوية، لتتبعها صرخات باقي النسوة، ويصدع كل الرجال بالتكبير والتهليل، فتميل مليكة يمينا ويسارا، شأنها شأن كل الواقفين، ثم تسقط أرضا، وتتبعها بعد ذلك شقيقة سعيد، وقد غابت هي الأخرى عن الوجود دون حتى أن تتمكن من رؤية ذلك المشهد المخيف..

    مشهد صومعة المسجد وهي تتصدع، وتميل بجزئها العلوي نحو مقبرة القرية، فتتحطم فوق شواهد الأموات في دوي هائل، فاق دوي الهزة الأرضية العنيفة التي حدثت قبل قليل..

    ألقى سعيد نظرة خاطفة على الجسمين الممدودين أمامه في سلام، ثم انطلق عدوا وهو يصيح باسم واحد..

    اسم سعيدة..

    **********

    لو صح لنا التشبيه، لقلنا أنه كان ينبش التراب على طريقة قط أضاع فريسته بعد أن ضفر بها.. كان ينبش ويزيل الأحجار مناديا في لوعة:

    - أجيبيني حبيبتي.. أي جزء من الجدار تمكن منك؟! وأي ذرات تراب وأدتك؟!

    لا أصدق أن فتاة في مثل سنك هزمتني بدماثة أخلاقها، وقوة إيمانها، وكمال طهرها وعفافها، تكون قد سقطت الآن ضحية لجدار من طين؟!

    بربك تكلمي.. قولي أنك حية.. قولي أن قلبك لا يزال فيه حياة، وبقية حب لي..

    وأعدك سعيدة أني لن أتسبب لك بعد اليوم في ما تكرهين.. ولن أقدم على فعل إلا بعد إذنك.. سأستأذنك حتى في حبي لك.. سأستأذنك قبل أن أقول لك أني أحبك..

    سأستأذنك قبل أن أنادي الأحياء والأموات ليشهدوا على حبي الطاهر لك...

    بالكاد تنبهت حواسه لصوت يناديه من الخلف، ودون أن يميزه، أو يستدير ناحيته، قال وعيناه مغرورقتان بالدموع:

    - أرجوك مليكة.. دعيني أندب حضي وحدي، وأبكي فقدانها، وأطلب عفوها وصفحها..

    تكرر النداء من الخلف فاستدار هذه المرة، وكان ما وقعت عليه عيناه مفاجئا له إلى أقصى الحدود..

    فما رآه ارتد على أحاسيسه كزلزال عنيف ، وأحدث فيه ما لم تحدثه الهزة الأرضية من قبل..

    فما إن وعي صاحب النداء حتى سقط أرضا..

    وفاقدا وعيه..

    **********

    انتهى الجزء الرابع بإذن الله

    ويليه الجزء الخامس والأخير من الفصل الأول: حياة أو موت

  3. #3
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 391
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.14

    افتراضي

    هي الأقدار وماتحمل لنا حيث لا ندري ما تأتينا به وما تأخذ منا .. وما تنقض وما تمزق لنا ما تعبنا في نسجه من خيوط الأماني
    مازلت متابعة لرائعتك بسردها الشائق ودائما تتركنا على شوق لقادم يحمل الأجمل
    في انتظار التتمة أديبنا الفاضل
    هناك خلل كيبوردي في حرف " ظ " رجاء إصلاحه " ظفر - حظي "
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    لازالت المفاجآت تتوالى كاشفة عن قلب عاشق ولِه
    تمنّيت الاستغناء عن هذه الجملة:
    لو صح لنا التشبيه، لقلنا أنه
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.72

    افتراضي

    تم نسخ الأجزاء الأربعة في مشاركة واحدة تالية للمشاركة الأولى لتمكين القراء من العثور عليها مجتمعة

    قص شائق جميل الأسلوب
    ما زلنا نتابعك فيه باهتمام ومتعة تلق

    دمت بخير

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  6. #6

  7. #7
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 2.00

    افتراضي

    عنصر التشويق زاد القصة روعة
    كلي ثقة ان القادم أجمل
    مودتي و تقديري

  8. #8

المواضيع المتشابهه

  1. هابيل وقابيل - الجزء الرابع
    بواسطة راتب عبد العزيز القرشي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25-06-2012, 09:00 PM
  2. الجزء الرابع من معارضة منازل
    بواسطة مازن عبد الجبار في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 29-07-2009, 03:25 PM
  3. الجزء الرابع من.... ابيات في الحكمة
    بواسطة مازن عبد الجبار في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 27-04-2007, 10:49 PM