زيارة سلطانية
مسرحيةٌ ذاتُ فصل ٍواحدٍ
بهجت الرشيد
المشهدُ :
الوقتُ أصيلٌ .. أرضٌ ترابيةٌ مرتفعةٌ .. الشمسُ تسحبُ خيوطَها منَ الأفقِ تدريجيًّا .. أصواتُ رياحٍ تحملُ معها بعضَ الدخانِ ...
تدخلً خيّالةٌ إلى المسرحِ .. يقفون متأملين المَدى .. يحفزّ فارس فرسَه ليتقدمَ بضعَ خطوات إلى الأمام ..
يشير بيده ..
الفارس : ألهذا فتحنا البلادَ !
عبد الرحيم : ( منبهًا ) مولاي !
السلطان : نعم يا عبدَ الرحيم .. نعم .. فلا يجوزُ أن نُبطلَ أجورنَا بأقوالنا ..
( ملتفتاً إلى من حوله .. مخاطباً .. ) ولكن أترون أيها السادةُ ؟ أترون ؟ هل سيذهب جهاد سنينَ مترعةٍ بالدماء والأشلاء والأرواح ؟ هكذا في لحظاتٍ ! لحظاتٍ تنتصر فيها الجاذبية الأرضية على سموِّ النداء !
الحضور : ( يحدق بعضهم في بعض بتثاقل ، ثم ينشط عبدالرحيم للكلام )
عبد الرحيم : مولاي ! .. أتظن أن تلك الدماء ذهبت سُدى ، أم أنها كامنةٌ في الضمائر تغلي ، تنتظر ساعةَ الانطلاقِ .. ساعةَ الانبعاثِ من الرماد من جديد ؟
السلطان : ( بحيرة ) لا أدري .. حقاً بات كلُّ شيء هنا مختلفًا .. مخيفًا ! أتذكرون حينما تركناهم وراياتُ الحق تعلو وتخفقُ فوق المعمورةِ ؟ أتذكرون يومَ كانت عبادةُ الجهاد صنوَ عبادة السجود .. أن تقوم الليل أو تعبِّئ المقاتلين لا فرقَ .. ( بحزن وحسرة ) وهنا لا تسمع إلا قراءةً دونَ إيمانٍ .. وفلسفةً تبررُ الضعفَ والهزيمةَ !
أحدُ الفرسانِ : ( مؤكداً بفخر ) وكذلك كنّا .. ثم استيقظنا على نداءاتِ الإيمان ، فتحركت جموعنا صوبَ أهدافِها المنشودةِ ، تُحرق السدودَ ، وتجتاز العراقيلَ ، لا يُفلتُ فارسٌ عنانَ فرسه بعد فتح ، إلا وكان آخرٌ يدكّ سورًا آخرَ وسْط قذائفِ النار ، يستقبل وابلَ القِيرِ المغلي برأسه ..
السلطان : ( مؤكدا على قوله ) صدقتَ .. كنّا كذلك .. وأذكرُ تلك الأيام الخوالي جيدًا ، إنها محفورةٌ في تلافيف الدماغ ، جزءٌ من ذاكرتي .. كم ذاقت أمتُنا الويلاتِ ، من السلطة وألاعيب السياسة !
عبدالرحيم : ( بأسى واضح ) نعم هي السياسة ودهاليزها المظلمة ، مرةً أخرى تسحبنا نحو السقوط والانهزام ، نحو التشتت وفقدانِ جاذبية المركز .. تحولنا إلى غثاءٍ يطفو على السطح يلعب به السيل كيفما شاء !
السلطان : ( يهزّ رأسه موافقًا )
عبدالرحيم : ( متحمسًا ) ولكنّ شعوبَنا لم تعرفِ الموتَ في تاريخها .. إنها كالصحراء ، تبدو من الوهلة الأولى رمالًا لا تحمل إلا الموتَ والفناءَ والجفافَ ، ( مستدركاً ) لكنّ هذا الجفافَ الذي يعلو سطحَها الممتدَّ ، والموتَ الذي يبسط يديه في آفاقها اللانهائية .. لا يعني النهايةَ بالضرورة .. بل يكون أقربَ ما يكون إلى الاعتزال الصوفيِّ ، سرعانَ ما يتفجَّر عن طاقاتِها المكنونةِ في أحشائِها .. يتفجّرُ عن حياة متدفقة ، ملؤُها الإبداعُ والألق ..
السلطان : ( في سكون لا يخلو من عَجَب ) .. كلامٌ مطمْئِنٌ ..
صوت إنفجارٍ مدوٍّ ..
صوت رجل من خارج المسرح :
الرجل : ( بفرح بالغ ) إذن فعلها !؟
صوت : ( يجيبه بنفس الحماس ) أجل .. وفي الهدف ..
صوت جماعي : الله أكبر .. الله أكبر ..
يدخل المسرحَ شيخٌ جليل مهيبٌ .. وقد علت الدماءُ لحيتَه البيضاءَ .. على كرسيٍّ متحرك ..
الشيخ المهيب : ( بصوت جهوري حماسي ) أيها السلطانُ العظيم .. يا من سقطت على أقدامه الدولُ .. ووقفت على أعتابه الملوكُ .. ودانت له الرقابُ .. فملأ أسمُه الآفاقَ .. وكان في عهده الوئامُ والوفاق .. أتُراكَ قدِمتَ راثيًا حالنا أم أتيتنا بالتاريخ لتنيرَ أمامَ أجيالنا دروسَه وعِبَرَه ؟
السلطان : ( مخاطباً باستغراب وتلهف ) من أنت ؟ آه .. بحق الله من أنت ؟ فإني لا أخطئُ هذه الرائحةَ أبدًا .. إنها عبقٌ ملأ كياني كلَّه ..( يغمض عينيه و يأخذ نفساً عميقاً ) المسجد الأقصى وعبيره ..( يعود لمخاطبة الشيخ المهيب ) هل أنت من هناك ؟ فوالله إني لألمح في قسماتك سماحة أهل الزيتون .. وهذه الدماءُ القانيةُ أعرفُها جيدًا .. أمِنْ تلك الديار أنت !؟
الشيخ الجليل : ( والدموع تبلّل لحيته ) نعم أيّها السلطانُ المعظَّمُ .. أنا من هناك .. من بلد الزّيتونِ الأحمر ..
ينزل السلطان من فرسه .. يتعانقان ..
السلطان : ( باستغراب ) أصحيح ما تناهى إلى أسماعنا من أخبار ؟ ( بأسى ) الحقيقةَ إن ما رأيناه كئيبٌ حزينٌ ..
الشيخ المهيب : ( والعَبرة تخنقه ( واخجَلاه ! كيف أنقل إليك الخبر أيها السلطان المعظم ؟..
كيف سأقولُ إنّ ما بنيتَه قد تهدَّمَ ، تفرّقَ ما وحَّدْتَ .. تنجَّسَ ما طهَّرْتَ .. فرَّطوا فيما ضحّيتَ من أجله .. يا سيدي لقد بُعِثَ العجلُ السامريُّ من جديدٍ !
السلطان : ( بألم ) هناك في عمق الزمن نحطم الأصنام بكل أشكالها ومعانيها ، وهنا في حاضرة القدس ( ضاغطاً على أضراسه ) تُنسَج الأساطيرُ ثانيةً على ترانيمِ الأحبارِ ! ( مخاطبا عبد الرحيم بصوت يكتمه الغضب و الألم ) أتسمع أيها القاضي الفاضل ؟ لقد عاد العجل السامريّ ( يضرب بكفيه على جانبيه ( .. ها .. لم يرضَوا يومًا بالمنّ والسلوى .. ( يشد على كلماته ) دائماً يغريهمُ الشرابُ في جماجم البشرِ على أطلال الخراب !
عبد الرحيم : ( مؤكدًا ) هكذا نطق كتابهم المقدس !
السلطان : ( بغضب ) أما من رجلٍ أطلّ برأسه ينظرُ فعلَ هؤلاء الغوغاءِ فيوقفُهمْ عندَ حدّهم ؟ ( بتوعُّد ) آهٍ لو كنتُ هناك لدفنتهم في سابع أرض .. ولجرَّعتهم العلقم .. ( بانزعاج ) أين كان الرجال ؟
الشيخ المهيب : ( بشيء من الحسرة ) الرجال !! ( مستدركاً ) ولكنّي لا أريدُ أن أغالطك يا سيدي وأقول إنهم لم يفعلوا شيئًا ، بل فعلوا لا شك في ذلك .. لكنّ الأمر حينها تعدى مسألة أشخاص .. إن أمةً بأسرها كانت تعيش لحظاتِ إنكسار تاريخيٍّ عميقٍ .. عميقٍ بقدر ذلك الفارقِ بين أمسنا ويومنا ..
السلطان : ( باستغراب ) هكذا .. وبهذه البساطة ضاع كل شيء !
الشيخ المهيب : ( بألم يعتصر قلبه ) ضاع .. نعم ضاع .. ولكن ليس إلى الأبد .. لا يا مولاي .. لا .. إن شعوبَنا تنامُ ولا تموتُ ، ( مذكّرًا ) ألسنا أمةَ الخير ؟ أمة المطر لا يعلمُ أأوله خير أم آخره ؟ ( معلنا بشكل واثق ) إن أبناء الجارية ـ كما يسموننا ـ أصبحت أمةً .. والحجرُ الذي رفضه البناؤون صار رأسَ الزاويةِ ..
السلطان : (حاثًّا ) العملَ أيها الشيخُ العملَ .. فذاك وايمُ الله هو المحكُّ .. والفيصلُ .. فليس ثمة شيءٌ عانيناه أكثر من خطبةٍ رنّانة ، وخطابٍ مرسل ، وتقعُّـرٍ في اللغة ، وتشدّقٍ بالكلام ، وإذا جدّ الجدّ فإذا هم كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة !
الشيخ المهيب : ( يهزّ رأسه موافقاً ) وذلك ما نعانيه يا مولاي .. تنظير دون عمل ، تبرير للهزيمة والتقاعس ، لقد ذبحتنا الشعارات قبل الأسلحة ، شوهتنا .. فما نجد لذواتنا وجوداً إلا في ماضٍ جميل لن يعود ، أو حاضرٍ محاصَرٍ ، أو مستقبل حجب الله عنّا غيبَه ..
السلطان : ( مشيراً بسبابته مذكراً ) غير أنه تعالى وعد .. ( ملتفتاً إلى الحضور ) وهو سبحانه لا يخلف ميعاده !
الشيخ المهيب : ( مشيراً بكلتا يديه وكأنه يرفع شيئاً للأعلى ) ولذا هبّ الرجال والنساء .. و الأطفال والشيوخ .. فداءً وتضحية .. فجروا ثورة الحجارةِ .. ثورةً تحمل في طيّاتِها البشارةَ .. إيماناً بربهم وتصديقاً لوعده ..( مستدركًا ) حركاتٌ مباركةٌ يا سيدي تنبثقُ من قلب الشعوب الثائرة تأخذ مكانتَها ودورَها ، وهو مشوار طويل ، نعلم ذلك .. ولكن لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ..
السلطان : ( ينظر إلى الشيخ المهيب نظرة إعجاب وإكبار ) رغم ألم المشهد ، فإن كلماتك الواثقة أيها الشيخُ الجليلُ لتتقاطر على قلبي كالبَرَد .. ( مستدركاً بغضب ) ولكن من سيطفئ جمرة الغضب التي تشعل كياني ؟ إن سيوفنا لا تقدر على خرق الزمن ، ولكن يمكن أن تأخذوا منها روحَها ، وتستلهموا مقاصدَها ، تستطيعون أن تتشبّعوا دروسَها وعبرَها .. وحينها يمكن أن ...
أصوات إنفجارات قوية .. طلقات الرصاص تملأ الأجواء .. أصوات هادرة تصدح ..
ـ إرحل .. إرحل ..
ـ الشعب يريدُ إسقاطَ النِّظام ..
السلطان : ( ناظرًا إلى عبد الرحيم مستبشرًا ) حقًا يا عبدَالرحيم .. إن شعوبَنا لا تعرف الموتَ .. كصحراءٍ تبدو قاحلةً ، لكنها سرعانَ ما تتفجَّر عن إبداعٍ وألق ..
السلطان : ( يركب حصانه .. يَكِزُه ... يخرجون من المسرح )
يدخل فدائي ..
الفدائي : ( مخاطبًا الشيخ المهيب ) سيدي أحمد .. ( بفرح ) لقد فعلوها .. اجتازوا الأسوارَ .. وضربوا في العمقِ ...
ستار