عندما تصل إلى وسط المدينة مجتازاً الكوبري الرئيسي الذي يعانق نهر النيل منذ مائة عام دون أن يصدأ الود بينهما ، ستقف حائرا ً مذهولا ً دون أن تسأل عن منزل السيد أحمد المصري .
ستقف مبهوراً على الجانب الآخر من الكوبري ، وستسري في أوصالك الرعدة التي تتمنى معها العودة مرة أخرى إلى دفء الزحمة تحت سماء الفخامة التي تكسو فضاء هذا المبنى المهيب .
- لن تشغلك روعة الكوبري ومشهد الجموع والسيارات عليه كثيرا ً، فالوقت يمضى سريعاً ، وعروض الإبهار في هذه المدينة لا تتوقف .
- ستشعر بالدوار كأنك في سفينة ولا عهد لك بركوب البحر .
وستندم على سنوات خدمتك التي قضيتها بعيداً عن الحضر .
- لا تستخدم حاستك البوليسية في تفسير ظاهرة الابتسامات الباهتة المرسومة على أوجه سكان المدينة .. واشغل نفسك عن البشر بالأبنية الشاهقة والدكاكين الفخمة .
- حاول الانبهار بتلك القدرة البشرية الجبارة التي أنجزت هذه الحضارة العملاقة وتشبث بأمل قدرتهم على الدفاع عنها .
أنصت إلى الآذان قادم من المآذن كأنه نازل من السماء ، واستمد الهمة من عيون المصلين وهم متجهون إلى مكان الوضوء .
- انعم بالهدوء بعد الصلاة ولا تستسلم للنوم واصطحب خشوعك ولا تتورط في دردشة على مقهى ولا يستفزنك سائق .
وعندما تبتسم لك فتاة ببراءة أطلق قدميك للريح .. وتذكر وجه أمك وعصا أبيك .
قدماك الآن راسخة على أرض الميدان الدائري الذي تتفرع منه شوارع المدينة الرئيسية .
قف على رأس أشهر شارع وعد من اليمين ثماني منازل .. ستقرأ على مدخل المنزل التاسع ما يطمئنك بأنك الآن أمام الهدف .. منزل الحاج السيد أحمد المصري .
ستفتح لك الباب فتاة طويلة سمراء محا الحزن ملامحها وغسلت الدموع وجهها فبدا لامعاً ذابلاً .
ستسألك عيناها المجهدتان :
- من أنت ؟
ويكاد صمتها الحزين أن يغلق في وجهك الباب .. وتكاد إيماءاتها المحبطة أن تقول لك :
أغرب الآن عن وجهي .
تابع القيام بمهمتك بعيداً عن انفعالاتك العاطفية المعتادة .. وعرفها بنفسك .. واشرح لها باختصار طبيعة المهمة التي أتيت لانجازها .
أجبها بثقة :
- هناك أمل كبير أنه على قيد الحياة ؟
لا تضعف أمام إصرارها على كشحك ولا تتخاذل أمام رغبتها الحميمة في الانعزال .
وعندما تقودك في وهن إلى حجرة الصالون .. حاول إبداء الاهتمام بتفاصيل البيت وأظهر رغبتك في رؤية غرفة نوم أبيها .
- احذر من التلعثم في حضور الحاجة ثريا وحاول حل اللغز سريعاً من خلال إجابات أفراد العائلة عن أسئلتك الدقيقة .
ستخبرك الحاجة ثريا بأن آخر مرة رأت فيها زوجها الحاج السيد أحمد المصري قبل فجر أمس عندما كان يصلى كعادته .
نهضتُ ودخلت الحمام لكي أتوضأ.. بحثتُ عنه في كل مكان دون فائدة فعدتُ لكي أبكى في موضع سجوده الذي لا يزال يحتفظ بسخونته .
سيخبرك الباشمهندس محمد عن معاناته مع المقاولين الفاسدين .
- أخبرت والدي الحاج السيد أحمد المصري عن المقاول الفاسد الذي يريد تزويجي ابنته ليضمن استمراري معه .
فاحتضنني بشدة ولم يبكِ عندما أخبرته بقرار اكتفائي بعملي الحكومي .
سيخبرك عبد المنعم صاحب محل الحبوب عن واقعة السرقة التي تعرض لها محله الذي يقع أسفل البيت .
أحضرت مبلغا ً كبيرا ً من المال لشراء بضاعة من التجار .. أقفلت عليه درج المكتب وذهبت كعادتي مع جيراني لنصلى العشاء.. عدت فلم أجد المكتب .
- لم يبك أبى عندما فشلت الشرطة في القبض على اللصوص.. واحتضنني وهو يدعو على الظالم .
ستخبرك الحاجة ثريا عن أحمد الذي حرمته كليته من شغل وظيفة المعيد بعد أن نال أعلى الدرجات وكان ضمن الأوائل .
هو الآن يعمل مساح جغرافي في دولة الإمارات العربية.. ويكلمنا كل أسبوع في التليفون ويخبرنا أنه يقطن كشك صفيح في الصحراء .
- أبكى ويتماسك والده ويلتقط من يدي المرتعشة سماعة التليفون وهو يردد حسبنا الله ونعم الوكيل .
ستخبرك الدكتورة إيمان عن يوم امتحانها الأخير عندما حرمها الدكتور من تكملة الامتحان بسبب نقابها.. وكيف خطف من أمامها ورقة الإجابة .
- ظننت أنه سيقدم الورقة للتصحيح وفوجئت أنه لم يفعل .
بكيت كثيرا ً.. ولم يبك أبى الذي رفع الأمر للقضاء وهو واثق من انصافى .
لا تسأل :
- أين اختفى السيد أحمد المصري ؟
وكيف اختفى ؟
وأين تظنونه يذهب ؟
لا تجرح أحزانهم بفشلك .
ولا تستخف أيضا بفاتن الصغيرة .
امنحها الفرصة للكلام .
حاول منحها الشعور بأهميتها وسط الكبار .
اسألها عن أبيها .
هل كان يصطحبك معه وهو ذاهب للصلاة ؟
هل يأخذك دوماً في نزهات؟
ما هو المكان المفضل لديك؟
إلى أين كان يذهب بك في أوقات الفراغ ؟
ستقول فاتن في تحد:
لكنى رأيت أبى يبكى .
- رأيت الحاج السيد أحمد المصري يوما ً يبكى كالأطفال الصغار.. ولم أره بعدها .
لا تدعى لنفسك شرف كشف اللغز وأنصت لذكاء فاتن.. وتأمل بريق عينيها وهى تصف اللحظة الكاشفة .
كان جالساً أمام التلفاز وأمامه طفل من فلسطين يطلب نجدة الأقصى .