عندما كنت طفلاً كنت مطيعًا مسالمًا خجولاً .... لا أجرؤ حتى على النظر في عيني مخاطبي ... مجتهدًا في دراستي ... ودائمًا من الأوائل ... لكن الطفولة لم تدم معي كثيرًا فقد ظهرت عندي بعض العلامات ... فانتفخ صوتي وعضلاتي وبعض الشعيرات الصفراء في وجهي .... لكن المشكلة ليست هنا فقد انتفخت بعض الأمور في داخلي ... التمرد والعصيان والعناد ... إنها المراهقة يا سادة ... المهم في الأمر أني ذاك العام كنت في الصف الأول الثانوي ... وبقدرة قادر رسبت في خمس مواد ... وكنت أتحجج بوفاة والدي لأقنع نفسي أن الأمر نتيجة ظروف فكثيرًا ما سمعت هذه الكلمة وللأسف فمن سمعت منهم هذه الكلمة مازالوا يعانون الظروف إلى اليوم ... عدت إلى المنزل أحاول أن أدس وجهي من أمي التي نُكِبت في أبي قبل مدة وجيزة لأزيدها نكبة أخرى ... دخلت البيت وتناومت لعلها تتركني بسلام ... لكنها أبت إلا أن تزيد همها فنظرت إليّ فقرأَتِ المصاب في عينيّ ... لكنها تريد مؤكدًا فهي لم تعد خالية الذهن ... فهززت رأسي قبل أن تسأل ... انزوت تبكي وتذكر محاسن أبي رحمه الله وكأنها تلومه على هذه البلوى ... أصاب البيت وجوم غريب فلا أحد يطيق النظر في وجه الآخر ... فكانت مصيبتي أشد إيلامًا من نكبة فلسطين المحتلة ... وبينما نحن كذلك دق الباب ... فتحت أختي الباب فإذا بها عمتي سالمين ... خرجت أمي مرغمة لملاقاتها واستضافتها بعد أن مسحت آخر دمعتين ليبقى أثرهما ... جلست عمتي سالمين ورأت الحزن والكآبة التي تكاد تتسرب إلى الشارع من فرطها ... فسألت ... لم تدُم دفاعات أمي كثيرًا حتى انهارت باكية تخبرها بالمهم وغير المهم وهي تنصت بإمعان وتسكتها أحيانًا لتعيد عليها الكلام مرة أخرى أو لتسألها سؤالاً أحيانًا لا علاقة له بالموضوع ... وبعد أن أنهت أمي حديثها وهي تلهث ... احتبت عمتي سالمين ورفعت رأسها عاليًا وعدلت من هيأتها لتبدو أضخم مما هي عليه ... وقالت بكل ثقة: الأمر يسير ... ولدك هذا مصاب بالعين ... ألم تقولي لي إنه كان (شاطرًا) في دراسته ... قالت لها أمي: والله كان (شاطرًا) ولا أحد ينافسه لكنها مشيئة الله هكذا أراد ... وسررت أنا بهذه الكلمات وخاصة (شاطر) التي عرفت فيما بعد أنها تعني لصًا في اللغة ووجدت بها بعض العزاء ... وتشبثت بكلمة مصاب بالعين متناسيًا هروبي من المدرسة وجلوسي عند زاوية عيادة الصابري لأراقب فتيات معهد المعلمات الذي كان يقابل مدرستنا ... وصدقت أني مصاب بالعين .... أكملت عمتي سالمين كلامها: الأمر يسير ... الأمر يسير... فتحلقنا حولها فرحين بكلامها وكأنها منقذ جاء من السماء ... يا إلهي لا أستطيع أن أصف لكم ما رسمته عمتي سالمين من سعادة في تلك اللحظات حتى وإن كانت سعادة موهومة لكنها زوت الحزن والكآبة في أضيق زاوية في البيت ... نعم الأمر يسير ... يأخذ شمعتين ويشعلهما في مقبرة سيدي عبد الله ... فطارت أمي من الفرح ... كيف لم يخطر ببالنا سيدي عبد الله ... فعلاً هو ولي صالح وسيؤثر في نتيجة الامتحانات في الدور الثاني ... فأخرجت أمي لي شمعتين من النوع الفاخر وكأنها ترشوه لأنجح بتقدير ممتاز وصارت تبحث عن كبريت فقلت لها : ليس مهمًا الكبريت سأحصل عليه من أول مارٍّ ولم تعلم أن في جيبي علبة كاملة فساعتها كنت أدخن سرًا ... خرجت مسرعًا أحلامي تسابق خطاي ... وصلت سيدي عبد الله ألهت ... فوقفت أمام المقام قليلاً فلا يصح أن أدخل عليه وأنا في هذه الحالة ... ثم عدلت من هيئتي ودخلت برجلي اليمين فأصابتني رهبة فظننت أنها رهبة سيدي عبد الله متناسيًا أنها تخرج من داخلي ... فهذه الرهبة نتيجة خوف زرع فينا من الجانّ والأولياء الصالخين ... أشعلت الشمعتين وانتظرت حتى تنتهيا ... صارت الدنيا تظلم وكلما مرت الدقائق زاد قلبي رجيفًا ... إلا أن آلت الشمس للمغيب فخرجت ولم أكمل ذوبان الشمعتين معزّيًا نفسي أنهما لم يبق فيهما إلا قليل ... وعدت في تلك الليلة أمنّي نفسي بالنجاح حتى أني لم أنظر لكتبي ولم أذاكر لأني واثق أن سيدي عبد الله سيتولى الأمر ... لكن بعدها رسبت في الدور الثاني وأعدت السنة ورسبت في الدور الأول للسنة الثانية ... فكنت أقول في نفسي ليتني أكملت ذوبان باقي الشمعتين...