يظن البعض أن السيرة النبوية المطهرة في العهد المكي ليست محل اتباع وتأسٍ، بذريعة أن آيات الجهاد نسخت السيرة المكية التي لم يكن الجهاد مشرعاً فيها. وقد يظن البعض بأن السيرة النبوية في العصر المكي ليست للتأسي والاقتداء وإنما هي للعظة والعبرة، والواقع أن هذه السيرة في العهد المدني يستنبط منها أحكام لما بعد الدولة، ولا يوجد ولا دليل واحد يثبت أن هذه السيرة بجملتها منسوخة؛ لذلك كان لابد من دراستها دراسة تشريعية خاصة.. ونحن في هذا الزمان، والذي يخلو من وجود الدولة الإسلامية، الناس فيه بأمس الحاجة لإعادة بناء الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
والإسلام حتى يكون فاعلاً، فإنه لابد له من عناصر ثلاثة هي: العقيدة والدولة والجهاد، وإذا غاب واحد أو أكثر من هذه العناصر الثلاثة فإن الإسلام يفقد حيويته في الواقع، وربما يتحول إلى ما يشبه الأديان الأخرى، مجرد عبادات وطقوس وشعائر. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة] وقال:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾ [التوبة].
ففي هذه الآيات الكريمات قرن سبحانه وتعالى بين العقيدة والدولة والجهاد بشكل واضح، وبين مواصفات المسلمين بأنهم الذين آمنوا (عقيدة) وهاجروا (دولة) وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
لذلك فمسيرة الإسلام لابد لها من الأخذ بعين الاعتبار هذه العناصر الثلاثة، والت لا تكفي فيها مجرد الرغبة والحماسة والعواطف والتفاؤل، فإن هذه المسيرة هي، وإن كانت ليست مستحيلة، ولكنها تحتاج لمن ينحت في صخر أحياناً، كما وتحتاج إلى قوة الفكرة مقرونة بطريقتها لتتحول من فكرة في الذهن إلى وجود في المجتمع، ومن حركة شعبية إلى دولة ودار.
واقتفاء أثر الرسول في مكة هو جزء من الاتباع والتأسي. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ﴾ [آل عمران 31] وقال:﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر 7] وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب].
فوجوب الاتباع والتأسي يقتضي وجوب ملاحظة سيرة الرسول في العصر المكي ملاحظة تشريعية، وأخذها بوصفها أحكاماً شرعية للعمل، وليس النظر إليها بوصفها تاريخاً أو سيرة ذاتية للرسول الكريم، عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم. وعندما نلاحظ أفعال الرسول وأقواله في مكة فيمكن أن نستنبط منها طريقة ومنهاجاً بمراحل قطعية في دلالتها، وقطعية في ثبوتها.
والمرحلة الأولى التي يمكن ملاحظتها: هي الثقافة العقائدية التي جعلها عليه الصلاة والسلام أساساً في بناء الشخصيات التي أقبلت على الإسلام، وتكتلت حول الرسول عليه السلام، ولوحظ على هذه الثقافة أنها كانت ثقافة عقائدية، سياسية، عملية، وليست ثقافة فلسفية، أو كهنوتية. قال تعالى: ﴿غُلِبَتْ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم] فهذه الآية ترشد إلى أن الصحابة، عليهم رضوان الله تعالى، لم يكونوا يهتمون فقط بواقع مكة وما حولها، بل كانوا يهتمون أيضاً بالروم والفرس، أي يهتمون بالشؤون الدولية، وهم بعد في بطن مكة لا حول لهم ولا قوة.
وهكذا فإن مرحلة الثقافة هي المرحلة الأولى في سير الرسول في مكة، واستمرت هذه المرحلة في زمانه ثلاث سنوات، غلب عليها الناحية السرية في التنظيم، والناحية العلنية في الفكرة، وكانت العقيدة هي الأساس في بناء الشخصيات، التي كان التكتل الحزبي للصحابة هو الوسيلة في ربط تلك الشخصيات التي أصبحت فيما بعد رجال دولة.
وبعد أن نزلت آية ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر] تحول أسلوب عمل الصحابة تحولاً جذرياً، فانتقل العمل من أسلوب الثقافة المركزة إلى أسلوب الصراع الفكري بالكتلة والفكرة، وبدأ الصراع عقائدياً. قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور] وقال: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم 10] وقال: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء 98] ثم انتقل الصراع إلى العلاقات قال تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم 39] وقال: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين] واشتد الصراع الفكري في العقائد والعلاقات، وصاحبه كفاح سياسي ضد رؤوس الكفر الذين كانوا يشرفون على المجتمع الجاهلي، وهاجمهم تكتل الصحابة بقيادة رسول الله بالاسم والمسمى، قال تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد] وقال مشيراً إلى الوليد بن المغيرة: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر] وقال تعالى معرِّضاً بالأخنس بن شريق: ﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم].
وهكذا وبعد الصراع الفكري العنيف، وبعد هذا الكفاح السياسي الشديد، تم تكريس المفاصلة الفكرية بين فكرين ونظامين ونمطين. قال تعالى: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون].
ومع هذا الصراع والكفاح والمفاصلة إلا أن تكتل الرسول لم يستخدم السلاح في العهد المكي قط، وكانت أهم سمات وآثار مرحلة التفاعل والصراع هذه:
1- الصراع الفكري باستخدام التكتل وضرب أفكار الوثنية والشرك.
2- الكفاح السياسي باستخدام التكتل وضرب رؤوس المجتمع وسادته.
3- تقديم الناحية العقائدية على الناحية المصلحية، والترفع عن أسلوب التعايش الفكري أو ما يسمى اليوم بفقه الموازنات، وهو في واقعه فقه الهزيمة والاستسلام والتنازل.
4- استخدام الخطاب السياسي المبدئي، والمفاصلة السياسية مع الكفار بشكل حاسم.
5- العالمية في الخطاب والشمولية في الطرح المبدئي منذ اللحظة الأولى للدعوة.
6- الثبات على هذا النهج، وعدم الحيد عنه قيد أنملة، ولفترة طويلة حتى تحقيق الهدف، بالرغم من التعرض لصنوف عديدة من الأذى، من تعذيب، وقتل، ودعاوى مغرضة داخلية وخارجية، ومقاطعة، وما شاكل ذلك من ألوان الاضطهاد.
7- عدم اللجوء مطلقاً إلى استخدام القوة المادية مع مسيس الحاجة لاستخدامها في تلك الظروف مما يدل إلى حرمة تحويل التكتل السياسي إلى ميليشيا عسكرية وحرمة القيام بالأعمال المادية.
وأضيف في نهاية مرحلة التفاعل عمل سياسي خطير جداً، وهام جداً، بل هو في غاية الأهمية والخطورة، وهو: البحث عن الحماية والنصرة والقوة، وبناء القاعدة الجماهيرية الحاضنة للفكرة إذا تيسرت الإمكانيات للدعوة, فذهب الرسول إلى الطائف يبحث عن إمكانية الحماية، ليبلغ عن ربه، وغشي في مواسم الحج منازل كندة، وأبا حنيفة، وكلباً، وبني عامر بن صعصعة. واتصل بوفود العرب اتصالاً لا انقطاع فيه إلى أن تهيأ له نفر من أهل المدينة فبايعوه على الإسلام، فأرسل إليهم مصعب بن عمير  ليكون المقرئ والمفقه والمعلم فيهم، فكان يتقصد الشخصيات المؤثرة كسعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وسقى المجتمع المدني بأفكار وآراء وأحكام الإسلام، صهره بها حتى غدت المدينة إسلاماً، أي حتى صار الرأي العام المسيطر فيها هو الرأي العام الإسلامي.
وبذلك استطاع عليه الصلاة والسلام أن يبني قاعدة كبرى للإسلام في المدينة تصلح لاحتضان الدولة الإسلامية فيما بعد.
وأما المرحلة الثالثة في سيرة الرسول في العهد المكي، فهي استلام الحكم عن طريق بيعة الحرب والقوة، فلقد جاء وفد من أهل القوة ممن يمثلون أهل المدينة، وبايعوا رسول الله على الحماية والنصرة والتمكين، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، وهما نسيبة المازنية (أم عمارة)، وأسماء بنت عمرو (أم منيع)، وصعدوا جميعاً إلى الجبل في الثلث الثاني من الليل، وبايعوا رسول الله بيعة العقبة الثانية، والتي كان من أهم نصوصها: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» و«نأخذك على مصيبة الأموال وقتل الأشراف» و«نبايعك على حرب الأحمر والأسود من الناس» ثم بعد الطمأنينة على قوة المبايعين، أمر الرسول أصحابه بالهجرة، ووصل هو وأبو بكر المدينة، فقال له أشرافها: «ادخلا آمنين مطاعين» أي ادخلا بوصفكما حاكمين وآمنين، وهنا التحمت الدعوة مع المنعة، وقامت الدولة، وتم استلام الحكم.
ونستطيع أن نجمل هذه المرحلة بالسمات التالية:
1- البحث عن وسائل الحماية والقوة لتأمين الكتلة والفكرة.
2- التركيز على بناء القاعدة الشعبية أو القاعدة الكبرى، وإيجاد الرأي العام الكاسح للفكرة في المكان المراد إقامة الدولة فيه.
3- تقصد الاتصال بأهل القوة والشخصيات والأوساط المؤثرة في المجتمع.
4- استخدام أسلوب معين لطلب النصرة مثل جهاز طلب النصرة مكون من أفراد معينين لإجراء الاتصالات السرية مع أهل القوة والمنعة ويمثل ذلك «صعود الرسول ، وأبو بكر الصديق، ونفر قليل من الصحابة، إلى الجبل في الثلث الثاني من الليل لملاقاة أهل القوة».
5- ترتيب عملية استلام الحكم مع أهل القوة ((الأمر بالهجرة)).
6- استلام الحكم بشكل كامل بعد الانتهاء من عملية البيعة، أي بيعة القوة والمنعة لقيادة الكتلة.
هذه هي ثلاثة مراحل قطعية سلكها عليه الصلاة والسلام في سيره في العهد المكي، وعلى العاملين اليوم الاقتداء بها في سيرهم لإقامة دولة الإسلام، ولا فرق في الواقع السياسي بين الزمنين، ففي زمن الرسول في مكة لم تكن هناك دولة، وكانت الدار دار كفر، ونحن اليوم كذلك نحيا في دار كفر ولا دولة إسلامية لنا. أما الفروق في نوعية الأفكار التي يحملها الكفار، أو يطبقها المسلمون، فلا قيمة لها في فهم الواقع. فالعبرة في الإسلام وفي تطبيق الإسلام، العبرة في النظام والقانون والمعالجة، والعبرة في الدار هل هي دار إسلام أم دار كفر؟ أما الناس فالاختلاف في مخاطبتهم أمر طبيعي، وهذا لا يغير شيئاً في الواقع. فكون الرسول خاطب كفاراً وطالبهم بالإسلام لا يعني أنه طالبهم بالإسلام في ظل دار الكفر، بل يعني أنه طالبهم في الإسلام اعتناقاً وعملاً وتطبيقاً، فكراً وسلوكاً، عقيدةً وأحكاماً، داراً ودولةً، فهذا ما عناه رسول الله في مخاطبته لكفار ذلك الزمان، وهو بالفعل ما تحقق له في نهاية المطاف.
وكذلك نحن في هذا الزمان نخاطب مسلمين لاستئناف الحياة الإسلامية، بمعنى أننا نخاطبهم لجعل العقيدة أساساً في المجتمع والدولة والدار، فنخاطبهم ليكون الإسلام في الواقع فكراً وسلوكاً، عقيدةً وأحكاماً، داراً ودولةً، وهو نفس ما فعله الرسول مع الكفار. فالعبرة ليست بالناس بل العبرة بهم كونهم يطبقون الإسلام تطبيقاً شاملاً، وهذا ما نسعى إليه كما سعى إليه المصطفى من قبل، فالفرق الوحيد بيننا في هذا الزمان وبين الرسول في زمانه هو في خطاب التكفير، حيث إنه كان في زمانه عليه الصلاة والسلام يكفر الناس ويكفر النظام بينما نحن اليوم نكفر النظام فقط؛ لأن الناس مسلمون، فنحن نطالب المسلمين بتطبيق الإسلام بينما الرسول كان يطالب الكفار باعتناق الإسلام وتطبيقه، وهذا الفرق لا يؤثر في الطريقة أو المنهاج، وبذلك تبقى سيرة المصطفى هي الطريقة الشرعية الوحيدة لتحويل دار الكفر إلى دار إسلام ابتداءً، أي في حالة إقامة الدولة الإسلامية ابتداءً، بمعنى في حالة عدم وجودها، أما إذا كانت الدولة قائمة فالواجب عليها أن تحول دار الكفر إلى دار إسلام عن طريق الجهاد؛ لأن الجهاد هو الطريقة الوحيدة لنشر الإسلام وتحويل دار الكفر إلى دار إسلام.
وعليه فطريقة الرسول في العهد المكي هي الطريقة الشرعية الوحيدة لإقامة الدولة ابتداءً وتحويل دار الكفر إلى دار إسلام، كما أن الجهاد هو الطريقة الوحيدة لنشر الإسلام وتحويل دار الكفر إلى دار إسلام بعد قيام الدولة الإسلامية .

متقول