حكاية الحمارُ المسحور
تعبرُ بنا الجدةُ حمامةُ على أجنحةٍ مِنَ الضوءِ حاجزَ الزمنِ إلى عالمٍ آخرٍ غير زماننا، حيث نرى الجنيّاتِ يحملنَ عُصيهن السحريةِ ويُحوِّلن الرملَ إلى ذهبٍ، بلونُ البهجةِ ونعومةِ الحبِ مشبعاً ببريقِ الشوقِ، ذاك المعدنُ النفيسُ الذي تتمرغُ عند قدميهِ بعض المعادنِ لتزهو بشموخهِ، وكما النفسُ البشرِيةُ حين ترتدي حُلّةً الحُسن لتستر قُبحها وهي تفتقر إلى روح الضمير واحترام الذات، فهي قملة تنفخ نفسها لتبدو فيلاً، يمشي فوق بساط الشموخ.
أتينا في هذا اليومِ قبل الجدةِ حمامةَ بِوقتٍ طويلٍ، لشوقنا لِهذهِ الحكايةِ الغريبةِ ولتأخرها ذهبَ سالم يستطلعُ الطريقَ جرياً فضحكنا ونحنُ نقولُ : يشتاقُ إلى الحكايةِ ثُم ينامُ في منتصفها. عادَ يجري وهو يقولُ: إنها آتية ... آتية .
وصلت الجدةُ فقالَ داودٌ الحمد لله ستبدأ السُمّايةُ، جلست الجدة ترتاحُ قليلاً ثم قالت: ـــ اللهُم حيّ على خير الفلاح . ونسألُ مِنَ الدنيا الصلاح .
اللهمُ بوجهك الكريم. إهدنا إلى الصراطِ المُستقيم
وأعطنا القلب السليم، واجعلنا مِنْ أربابِ
واجعلنا مِنْ أربابِ جنّةِ النعيم .
يا أحفادُي قيلَ إنّ حماراً حاولَ أن يمشي برجليهِ، رأته إحدى بناتِ الجانِ اسمها (فرزانة)، سألتهُ : لِماذا تحاولُ أن تمشي كالإنسانِ فردّ: أريدُ أنْ أصبحَ إنساناً ثم أتاها يرجو منها لتحوّلهُ إنساناً.
فكّرتِ الجِنّيةُ قالت : تُرى ماذا لو حوّلتهُ إنساناً؛ لأرى ماذا يمكن أن يفعل.
طارت فرزانةُ يا شطارُ إلى الغابةِ في لمح الأبصارِ وعادت في يدها ذرّاتُ رمادٍ سحريٍّ، ذرّته عليهِ، وهْي تقولُ : يا شرهوم. يا برهوم.. حوّلْ هذا المخلوقَ إلى إنسانٍ معلوم. فتحوّلَ في لمحِ الأبصارِ إلى رجلٍ حَسنِ الصورةِ، والصوتِ أفضلَ مِن صوتِ الكروانِ وقالت: سيكون مِنَ الأن اسمُكَ (جعدانَ) وأعطتهُ حُلّةَ سُلطانِ ومِن الرأسِ شعرتها، قالت: خُذْ هذه يا جعدان وحين تحتاجُ إليّ أحرقْ طرفَ الشعرةِ هذه قلْ: أحضري يا فرزانة ... ، وسأحضرُ في الحالِ حَذاريَ أن تنفذَ مِنك الشعرةُ يوماً ، ثم اختفتِ الجنّية فرزانة.
قامَ الحُمارُ وقدْ أصبح إنساناً، يلبسُ أزهى حُللٍ يمشى بين الناسِ مغروراً. مرَّ على السوقِ أحسّ كثيراً بالجوعِ ، رأى دُكاناً فيهِ طعاماً قالَ لصاحبهِ: أعطيني مِنك طعاماً، قال له البائع: أين نقودك يا هذا، ردّ جعدانُ: أنا لا أدفعُ مالاً بل أكلُ مجاناً، ضحك البائع منه و قالَ: اذهبْ يا هذا... اعملْ حتى حمّالاً في الأسواقِ ولا تستجدِ وأنت بخيرٍ. لم يجدْ جعدان لهُ عملاً إلّا أن يعملَ حمّالاً .
وبقى زمناً يعملُ حمّالاً كي يكسبُ قوتهُ، كان الأقوى من كُل الحَمّالين في السوقِ ولكن لا يكسبُ ما يكفيه . في يومٍ رأى شيخاً والناسُ تحومُ حواليهِ وهم يهدونه عسلاً وعطايا... لم يدفعْ شيئاً قيمة ذلك، فكّرَ بالأمرِ وقالَ لِماذا لا أبقى شيخاً أكلُ بالمجانِ؟ تذكّرَ جعدانُ الشعرةِ، أخرجها مِن جيبهِ، أحرقَ منها جزءاً إذ بالجنّيةِ تُقبلُ في الحالِ وقالت: ماذا تبغي يا جعدانُ... بكى وهْو يقولُ لها: تعبتُ كثيراً كي أكسبَ قوتي، ولا أكسبُ ما يكفي وهنا شيخٌ يأكلُ مجّاناً، أبغي أن أصبحَ شيخاً أرجوك، أرجوك... قالت اذهبْ خلفَ الشيخِ ومرْ بجوارِ ديارهِ كُلَّ صباحٍ ومساء .
ظلَ جعدانُ يمرّ أمامَ ديار الشيخ، رأتهُ سُعادٌ ابنته، أعجبها، فرمتهُ بوردٍ مِن نافذةِ الدارِ، رأى جعدانُ الوردةَ ، لم يفهمْ معناها، ظلّ يمرُّ كثيراً وهْي ترميهِ بالوردِ، حتى خرجت إحدى بَناتِ الدارِ إليهِ وهْي، تقولُ لهُ : هل أنتَ حِمارٌ لا تفهمْ؟! ابنة شيخِ القريةِ تهديكَ سلاماً وتقولُ عليكَ أن تأتي أباها لتطلبها منهُ زوجة .
يا أحفاد تقدّمَ جعدانُ إليها وتزوّجها، عاشَ في أرغدِ عيشٍ وهناءٍ والبنتُ مُغرمةٌ فيه، فهو قويٌّ ومطيعٌ ..... مرّت سنواتٌ، ماتَ الشيخ وليس له أولادٌ، بل تِلك البنتُ سُعادٌ زوجة جعدان.
اجتمع الناسُ وقالوا: لابدَّ لقريتنا من شيخٍ، والشيخُ المرحومُ بغيرِ ذكورٍ، قالت بنتُ الشيخُ سُعاد لهم : هذا زوجي جعدانُ لكم شيخٌ والسيد فيكم. اختارَ الناسُ لهم جعدانَ على القريةِ شيخاً. كان لا يقطع في أمرٍ يحرقُ مِن تلك الشعرةِ كي تحضرَ فرزانة تخبرهُ بالحلِّ حتى أصبحَ مشهوراً بين الناسِ كأفضلَ شيخٍ عرفتهُ القريةِ.