تربعت القرية الحالمة البسيطةعلى حضن تلة خجولة ,مبعثرة بيوتها الطينية بشكل عشوائي غريب و جميل.
وقع الرتابة الحزين ,والذي يتخلله صياح ديك مراهق ,أو خوار بقرة منهكة , أو نهيق حمار أخرق , لم يستطع أن يكسر صمت هذه البقعة المنسية.
وصل الشاب إلى مسقط رأسه الجميل, من بلد بعيد اتشح بالبياض, و تلفع البرد في أقصى شمال الكون , حيث يتابع دراسته الجامعية , كطبيب على وشك التخرج, وكان من أحد أمنيات هذه القرية ,والتي تحدث أبنائها في سهراتهم الشتويةالمملة, عن هذا الفتى الذكي, الذي سيرجع يوماً إلى مدينته, و قد تسلح بالعلم و المعرفة, ليداوي أبنائها و شيوخها ,و يصبح مصدرا للفخر و التبجح , أمام القرى المجاورة.
إستقبله والده الطيب بابتسامة المنتصر كالعادة, و أمه بزغرودة طويلة جلجلت أركان بيتهم الطيني الواسع.
- حضري الطعام يا أماه.( صاح الوالد منتشياً)
- من عيوني , اجلسوا تحت العريشة , و سيأتيكم الطعام في الحال .(صوت مثخن بالحنان و الحب)
سيل من الأسئلة من كل حدب و صوب ,و الفتى متلذذ في الإجابة .
-اذهب و خذ قسطا من الراحة يا ولدي, فغالباً سيأتي أهل القرية للترحيب بك ,و الاطمئنان عنك , وسيكون لقائنا في المضافة .
- أرجوا أن يتسع صدرك ,لكثرة و بساطة أسئلتهم ,و تعابيرهم ,و المزاح الثقيل لبعضهم , فهم أهلك و ربعك!
تمدد الفتى تحت الياسمينة العجوز, المتفرعة في زاوية صحن الدار الداخلية ,و التي عطرت أرجاء البيت برائحتها العبقة ,و أغمض عينيه مفكراً , منتشياً بحميمية المكان . آملآ في طرد وعثاء السفر وقسوة الغياب.
كانت المضافة البسيطة, عبارة عن غرفة كبيرة بسطت بمجموعة من السجاد العتيق ,و انتصبت على جدرانها, مساند من القش ,وطراريح من الإسفنج المنته الصلاحية.
لم يكن في فوج المهنئين بعودته , سوى صديق عمره الوحيد, والذي لم يترك قريته, كما فعل الآخرون , و آثر أن يعمل مع أبيه ,في أرضهم الصغيرة ,و عمه الأصغر, و جارهم العجوز أبو عناد.
توالت عبارات الترحيب و التهنئة والأسئلة الموجهة من كل حدب و صوب, ومن كل فن و نوع ,إضافة إلى استشارات طبية كثيرة, شملت قائمتها أغلب أهالي القرية, فمرض أحد سكان القرى, مهما بلغت خطورته أو بساطته, لا يعتبر سراً, في مجتمع ألغيت من دفاتره و قواميسه, مفهوم الجدران و الخصوصية.
دلف إلى غرفته ,بغية جلب هدايا عمه و صديقه, و تذكر جاره العجوز, سيكون من عدم الكياسة ,أن يعطيهم الهدايا في حضرته .
لمعت له فكرة جهنمية, لماذا لا يقدم له علبة من الكافيار الأسود الذي أحضره معه, فوالده لم يستسغ طعمه, وكذلك كل أهل البيت رفض تناوله, رغم تأكيده ,و أيمانه- التي لم تجدنفعاً , بأنه طعام لا يأكله إلا ميسور الحال, لغلاء ثمنه ,وندرته, وكيف أن صديقه(استغفر الله من هذا الكذب . فصديقتي الشقراء, هي التي أهدتني إياه) أحضره له, كهدية من بلده الأم والتي تعد مصدره الأول في العالم.
تناول الأغراض ودخل المضافة مطأطأ الرأس, قد نسج عباءة من الخجل الزائف على محياه, معتذراً من الضيوف عن تقصيره, في إحضار هدايا تليق بواجبهم .( قلبه بزهو بفخر وكبرياء , ويشعر أنه بزّ حاتم الطائي في كرمه)
- أما أنت ,عمي أبو عناد, فقد تذكرتك بهدية خاصة و قيمة ,لكثرة معزتك الخاصة في قلبي.( قال مداهناً)
- لماذا أرهقت نفسك يا ولدي.؟ أنت طالب, وغير معتوب عليك.
أحس برغبة جامحة في ممازحة هذا العجوز ذي الشاربين الأبيضين المتهدلين ,و العيون الغائرة الماكرة, صاحب الصوت الرنان ,واللسان الذي لا يكل و يمل من الكلام.
- هذا كافيار, أو بيض السمك ,وهو كما تعرف( في سره يقول :أقطع يدي, إن كنت سمعت به) مادة غذائية مهمة
قاطعه أبو عناد: و غالية جداً, سمعت به.
( خابت توقعات الشاب متعجباً من فطنة العجوز)
وشوش الشاب العجوز مازحاً : و هو مفيد جداً لتجديد الشباب, و الرجولة ووو...
لمعت عينا العجوز, كقطة جائعة في وليمة سمك ,وتمتم على غير عادته, بصوت واهن ,بعبارات علتها شعارات الشكر و الامتنان, وضمنها أدعية للشاب بالتوفيق والنجاح .
مضت ليلته الأولى ساهراً ,يقص على أسرته ما جرى معه ,و مالم يجر, في حافلة اغترابه الطويلة, وأمه تحتضنه طوال الوقت ,كطفل رضيع مدلل.
في الصباح و عند بوادر الفجر الأولى ,استيقظ الفتى و انطلق مع صديقه الوحيد إلى بساتين القرية الجميلة, يتنشق شذاها ,و يتذكر أيام الصبا و الطفولة, وكل مكان كان يعرج عليه, كان يستعيد فيه قبساً من موقف أو حادث , أوطرفة ,أو دمعة من مخزون ذاكرته.
تسلقا التل الأخضر , ثم أخرج علبة من التبغ المستورد , والتي خبأها بعناية في جاربه الأيمن , كي لا يراها أحد من عائلته .
أشعل سيجارة وراح ينفثها بعمق ,و يرتشفها بشراهة و تلذذ ,إلى أن قاطعه صوت أخيه الأصغر هاتفاً به من أسفل التل.
- أبي يطلبك حالاً, هناك الكثير من الضيوف و المهنئين بسلامتك في الدار.
- تباً, حسبت أننا انتهينا من هذه المراسم الملكية ,هيا بنا يا صديقي.
نفض سيجارته بطرفي أصابعه بحركة بهلوانيه شابها شيء من العصبية و الاحتراف, جعلت صديقه يطلق عبارات الإعجاب بأسلوبه الجميل, والذي رأى ما يشبهه يوماً في أفلام رعاة البقر الأمريكية.
دخل المضافة مسرعاً , ليفاجأ أنها امتلأت بالمهنئين على غير العادة ,وألقى التحية و السلام متلعثماً ,بعد أن أدرك بعد نظرته الأولى أن غالبية المهنئين الجدد ,هم شيوخ القرية وطاعنو السن فيها.
قام الرجال لاستقبال الفتى على غير العادة, و لم يأبهوا بأيمان الوالد وحلفانه ,الذي دعاهم لعدم القيام, ولكنهم أصروا على ذلك , تقديراً لواجب الطبيب المنتظر, مما أحرج الشاب , و زرع فيه قليلاً من الصلف و الكبر.
كان شيوخ القرية موجودون في المضافة باستثناء أبو عناد !! ,خمن الشاب شيئاً ,ولم يتمالك نفسه من إطلاق ضحكة خفية ,استطاع بالكاد أن يواريها.
-شرفتم يا شيوخنا الكرام أهلا و سهلاً( في سره: الله لا يجيب الغلا, قطعتم نزهتي الجميلة, و عكرتم المزاج و الخاطر)
-أهلا بالدكتور(صاح الجميع)(في سرهم: سبحان مقسم الحظوظ, فتى ذي غرة, سيصبح عما قريب دكتوراً ! هزلت؟)
تفحص الفتى عيون الشيوخ ,و هو يجاملهم و يرد على أسئلتهم المعتادة ,و أحس بأن عيونهم تخبأ طلباً ورجاءً ملحاً, وسرعان ما تطورت الأمور في دراماتيكية عجيبة, فبين الحين و الأخر يقترب منه شيخ عجوز ليهمس في أذن الشاب بطلب كان هو الأوحد لدى الجميع:
( يا وليدي: سمعنا أنك جلبت دواءً سحرياً لعمك أبو عناد ,و قد تحسنت صحته و تماثل للشفاء بعد تناوله, و نرجو في المرة القادمة أن تجلب لنا مثله ,و نحن مستعدون لدفع ثمنه, مهما غلا)
أدرك الشاب حجم الورطة التي أوقعها به الثعلب العجوز الماكر أبو عناد, و لعن ذلك اليوم الذي فكر فيه بممازحته, لكن لم يستطع أن ينبس ببنت شفه, سوى وعده للرجال بتلبية طلبهم على وجه السرعة.
بعد أن غادر الجميع التفت نحوأبيه ,الذي ما إن وقعت عيناه عليه, حتى أرسلها ضحكة صارخة ,أعقبها سعال شديد.
قام من المجلس دون أن يعلق أو يلوي على شيء, تاركاً ابنه الشاب ,يضرب أخماسا بأسداس.
مضت أيام إجازته المعدودة كلحظات, لم يطرأ أي تغيير أو تبديل , على وقعها الروتيني الجميل , سوى أنه كسب بعض الوزن الزائد, نتيجة نهمه في تناول الطعام الذي تعده له أمه كل يوم, لتعوضه عن جوع الغربة.و تخللها أيضا ,زيارات بعض الشيوخ الملحين في طلبهم المتكرر, بإرسال المطلوب بشكل عاجل إن أمكن.
أما هو, فقد حلف أن لا يأكل بيض سمك ثانية, أو على الأقل, أن يلعن أبا عناد ,كلما اشتهاه.
مضت الأيام و الليالي, منذ أن عاد ذلك الشاب إلى مقاعد الدراسة في مغتربه, وشاءت الأقدار أن يتخرج من كليته بتقدير عال , مما أهله لإكمال دراسته العليا في الطب متخصصاً في الجراحة العامة,
لكن قبل ذلك, عليه أن يعود في فترة الإجازة إلى موطنه, ليرى الأهل و الخلان ,و ليهدي شهادته الرفيعة إلى أبيه و أمه ,اللذان كافحا من أجل هذا اليوم العظيم ,وضنا بكل ما يملكان ,حتى تكتحل عيناهما برؤية هذه الشهادة.
استقبله الأهل و الأقارب بحفاوة و فخر شديد, وبدموع حارة فرحة من الأبوين .
بعد أن ارتاح, و أكل من لحم الخروف ,المذبوح خصيصاً على شرف نيله الشهادة ,جلس و أسرته يحتسون الشاي كعادتهم ,إلا أن أشار إليه الأب بإشارة خفية طالباً منه أن يتبعه.
تسلل الشاب خلف أبيه ,الذي اعتلى الدرجات الطينية العتيقة و التي تؤدي إلى سطح البيت المشرف على قريته بالكامل.
- ماذا هناك يا أبي؟ عسى خيراً ؟
- لا شيء يا بني ,إنما أردت أنأريك شيئاً ,ستضحك لأجله! هل تعرف أنه في قريتنا , قد سبقك أحدهم ,إلى فتح مركز طبي للعلاج؟
- من ؟( بفضول ودهشة)
- انظر إلى ما كتب هناك ,على الحائط الكلسي الأبيض(مد سبابته مشيراً إلى أحد جدران البيوت المتهالكة)
نظر الشاب إلى صوب الجدار, و هاله ما قرأ, ولكنه سرعان ما شارك أباه الضحك و القهقهة.
كان مكتوباً على الجدار بخط يدوي ركيك( مركز أبو عناد للتداوي بالأعشاب و تجديد الشباب)....