عندما نتعرف على ما قدمه العثمانيون للإسلام من خدمات، وما بذلوه في سبيل الحفاظ على مقدساته وإعلاء كلمته والدفاع عن أراضيه طيلة خمس قرون من الزمان.. ندرك بسهولة الأسباب التي جعلت فئة معروفة من المؤرخين والمثقفين العرب يحذون حذو الأوروبيين الحاقدين على هذه الدولة العريقة، فيشوهون تاريخها وتاريخ سلاطينها الأفذاذ، ويصفون فتوحاتها الغالية بالاحتلال والاستعمار التركي أو العثماني، ويكيلون لها التهم، ويصفونها بكل نقيصة، ويجعلونها في مقدمة الأسباب التي أدت إلى تخلفنا وضعفنا وفقرنا.

والحقائق – لمن يريد فعلا معرفة الحقائق – هي عكس ذلك تماما ، فالعثمانيون وقفوا حائط صد ضد محاولات تفتيت العالم الإسلامي وتمزيقه ومحو هويته والقضاء على حضارته بجهادهم المتواصل وفتوحاتهم الكثيرة وانجازاتهم المبهرة، وكانوا السبب الرئيسي في تأجيل التهام الغرب لدول الإسلام واحتلاله لأراضيه وسقوط فلسطين بيد اليهود طوال فترة حكمهم ووجودهم وحتى سقوط الخلافة عام 1924م ....

يقول الدكتور عبد الحليم عويس في دراسته لسقوط ثلاثين دولة إسلامية : ".. وإنما العجيب أن تتنكر أمة لليد الكريمة التي أنقذتها وأن تبحث جادة عن نفسها عن طريق لعن الذين أنقذوها لمدة خمس قرون، كأنها كانت تريد الغرق من قديم".

وما أجمل وصف عبد الرحمن الجبرتى لخلفاء الدولة العثمانية الذين نالهم من ظلم مؤرخينا المحدثين ما نالهم، يقول رحمه الله: " ... وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشد من ذب عن الدين وأعظم من جاهد المشركين.. فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض ودانت لهم الممالك في الطول والعرض، هذا مع عدم إغفالهم الأمر وحفظ النواحي والثغور وإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية وتعظيم العلماء وأهل الدين وخدمة الحرمين الشريفين والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع ... فتحصنت دولتهم ، وطالت مدتهم ، وهابتهم الملوك ، وانقاد لهم المالك والمملوك "

وعنهم يقول السخاوى في " الضوء اللامع " : " ... وكلهم من خيار ملوك الدنيا ومن محاسن الزمان وسياج الإسلام قديما وحديثا ".

وسليمان القانوني هو أحد هؤلاء الملوك العظام، نقدمه بشخصيته وأخلاقه وعلمه وثقافته وجهاده وفتوحاته وغزواته وسياسته وحسن إدارته .. دليلا على عراقة هذه الدولة وأصالتها ومكانتها وهيبتها وعلو مكانتها وقدمها الراسخة في الدفاع عن الإسلام ونصرة المسلمين.

ويحسن بنا أن نمهد بحديث مختصر عن التركة العظيمة الهائلة التي ورثها هذا السلطان عن أبيه وأجداده ، لنتعرف على شكل الدولة وحدودها وإمكانياتها وقدراتها في بداية حكمه ، وعلى التحديات التي واجهته ، وعلى القوى المتصارعة ومواطن الفتن وبؤر الاضطراب، وعلى مدى ضخامة وعظم المسئولية والأمانة التي تحملها ذلك الشاب صغير السن الذي يبلغ السادسة والعشرين من عمره .

أولا ً: الذعر الأوربي:-

سوف نوفر كثيرا من الجهد ونختصر المسافات إذا أجملنا وقلنا: إن سليمان القانوني هو وريث محمد الفاتح .. فهو سليمان الأول بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح .

ومحمد الفاتح هو الذي توج انتصارات العثمانيين الأوربية بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية وقلعة النصرانية وحصنها المنيع ، وذلك يوم الثلاثاء 20جمادى الأولى 857 هجرية – 29 مايو 1453م .

فلبست أوربا السواد وتسربلت بالحزن وانكسر كبرياؤها وانتفض قلبها خوفا ورعبا.. فقد تملك العثمانيون بفتح القسطنطينية مفتاح أوربا الشرقية بل مفتاح العالم كله، وصارت لهم السيادة والسيطرة، وبدأت ملامح إمبراطوريتهم العظمى تتشكل، وسهل بعد ذلك على الفاتح وجيوشه فتح صربيا واليونان والأفلاق والقريم والجزر الرئيسية في الأرخبيل، وتم ذلك كله فقط خلال بضعة وعشرين عاما .

توقف زحف الفاتح إذن عند أسوار بلجراد المنيعة حيث ينتهي نهر الساف ، وعاد جريحا بعد معارك دامية عنيفة شرسة بالعدة القليلة التي تبقت معه قائلا يعزى نفسه ويتنبأ – كما تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية – بما سيفعله حفيده سليمان القانوني قائلا : " إن بلجراد ستسقط في أيدينا عاجلا أو آجلا ، وإذا لم أستول عليها أنا فان أبنائي الشجعان سيستولون عليها " .

أما جزيرة "رودس" وفرسانها " فرسان القديس يوحنا " .. ويقال لهم أيضا "فرسان المعبد" .. فقد كانت القلعة المنيعة الوحيدة في شرقي المتوسط التي بقيت تذود عن النصرانية وعن أوربا كلها .. فمعنى سقوط "رودس" في يد الدولة العثمانية في ذلك الوقت هو سهولة زحفهم بقواتهم البرية والبحرية نحو غرب أوربا بعد أن خضع لهم الجزء الشرقي بأكمله ، وهذا هو مبعث اهتمام الأوربيين وسبب إمداداتهم وتفانيهم في الحفاظ على هذه الجزيرة ، وهو أيضا سر استماتة فرسان القديس يوحنا في الدفاع عنها .

ورغم أهمية هذه الجزيرة بالنسبة للعثمانيين ، فهي تقع على بعد عدة أميال من آسيا الصغرى ، وتعتبر تهديدا مباشرا لهم ، إلا أن معركة فاصلة لم تنه الصراع ولم تضع حدا للتجاوزات والاختراقات سواء في عهد الفاتح أو في عهد بايزيد الثاني أو سليم الأول .. حتى جاء القانوني وفتحها .

ويرجع فشل الحملة التي أرسلها الفاتح بقيادة " مسيح باشا " لفتح الجزيرة إلى عدم اكتمال قوة العثمانيين البحرية (بلغت في عهد القانوني أوجها) في مقابل تفوق فرسان النصارى وتمرسهم في معارك البحر، بالإضافة إلى سوء التدبير وقلة الخبرة وضعف العزيمة التي أظهرها " مسيح باشا " في معاركه في جزيرة " رودس " ، فعاد يجر ذيول الخيبة والهزيمة، وغضب عليه الفاتح، ولم يأذن له بدخول القسطنطينية وعزله من منصبه وأبعده إلى " كليبولى " .

إلا أن هذا الفشل في حصار " رودس " ( فتحها سليمان القانوني بعد ذلك ) عوضه النجاح الكبير الذي أحرزه الفاتح في جنوبي إيطاليا .. فقد استولى السلطان الطامح في فتح روما على كثير من الجزر الايطالية الجنوبية ...

وفي يوم الخميس الرابع من ربيع الأول 886هجرية - 3 مايو 1481م مات السلطان محمد الفاتح وهو في الثانية والخمسين من عمره.. ، واهتزت أوربا النصرانية طربا وابتهاجا بموته وأقيمت الاحتفالات وسارت المواكب في جزيرة " رودس " وفي شوارع روما .. وعاد البابا " سيكست الرابع " بعد أن أتم استعدادات الفرار من ايطاليا .. وها هي البابوية التي ارتاعت وفزعت وضجت وأوشكت أن تلقى مصرعها على يد الفاتح الذي وافته المنية وهو في طريقه لفتح روما وشمالي ايطاليا ففرنسا وأسبانيا ، ها هي تقيم الاحتفالات وتدق أجراس الكنائس وتصلى لنجاتها من ذلك العدو المخيف .. وتبتهل لكيلا يأتي بعده من يشبهه .

ثانيا ً : منصب الخلافة الإسلامية:-

في مقدمة ( سليمان قانون نامة ) التي كتبها شيخ الإسلام أبو السعود أفندي ورد وصف السلطان سليمان القانوني بأنه : "وريث الخلافة الكبرى وحائز الإمامة العظمى وحامى الحرمين المحترمين " ... ورث السلطان القانوني هذا المنصب الجليل عن أبيه السلطان شديد البأس وصاحب الهمة العالية سليم الأول والذي أطلق عليه الأوربيون لقب المتجهم أو العابس.

تولى سليم الأول في أواخر عهد أبيه بايزيد الثاني الذي لم يكن في مستوى الأحداث والتحديات التي تواجه الدولة ، فقد كان وديعا يميل إلى المسالمة والمهادنة ، في وقت كان الخطر البرتغالي ينامى في الخليج العربي .. وعزم البرتغاليون على الهجوم على مقدسات المسلمين وهددوا بقصف مكة والمدينة بعد أن تمكنوا من اكتشاف طريق الرجاء الصالح .. وفي وقت تزايد فيه الخطر الاسباني من الغرب ، وقد بدؤوا فعلا في تنفيذ هجمات عبر البحر الأبيض المتوسط .

لذلك رأى السلطان سليم الأول أن يتجه أولا لضم دول المشرق الإسلامي لدولته ، وأن يقضى على خطر الدولة الصفوية في إيران التي كانت قد وضعت نفسها في خدمة الأسطول البرتغالي لطعن الدولة العثمانية من الخلف ، والتي ارتكبت الفظائع ضد أهل السنة في إيران واستولت على العراق ونشطت في نشر المذهب الشيعي خارج حدود هاتين الدولتين .. ورأى أيضا أن يزيح دولة المماليك التي تعاونت هي الأخرى مع الصفويين ضد الدولة العثمانية ، والتي لم تحرك ساكنا أمام تهديدات البرتغاليين وتحركاتهم .. يقول الدكتور عبد الحليم عويس : " ... وفي ذلك الوقت كان المماليك في البلاد العربية في حالة اجترار ماضيهم ولم يعد لديهم ما يمكن أن يعطوه للوجود الإسلامي ، وكان رأس الرجاء الصالح قد اكتشف ، وبدأت مصر تفقد جزءا كبيرا من أهميتها كما أن قانصوه الغوري لم يستطع إيقاف البرتغاليين الذين بدؤوا يسيطرون على البحر المتوسط عند حدود احترام الأمة الإسلامية.." ... ومع تزايد ورود الرسائل من أهل السنة في إيران والعراق للسلطان العثماني يشكون اضطهاد الصفويين ورسائل أهل مصر يشكون ظلم المماليك ، تحرك سليم الأول وبدأ بالصفويين في إيران .

التقى الفريقان شرق الأناضول في صحراء جالديران في 2رجب 920 هجرية – 24أغسطس 1514م .. وبفضل مدفعية العثمانيين المتفوقة ودقة تنظيم الجيش العثماني وبسالة جنوده انتصر العثمانيون انتصارا باهرا ، وفر إسماعيل الصفوى إلى أذربيجان ، ووقع عدد كبير من قواده في الأسر ( لأسباب سيأتي ذكرها .. قتلهم بعد ذلك السلطان القانوني ) .. وتمزق الجيش الصفوى ، ودخل السلطان سليم " تبريز " متوجا بالنصر ..

إلا أن هذه المعركة لم تحسم الصراع ، فقد اكتفي سليم الأول بما حققه من نصر ولم يقتف أثر الصفوى .. لذلك بقى خطر الصفويين قائما بعد موته .

وعلى جبهة المماليك التقى الفريقان عند مرج دابق بالقرب من حلب في 25رجب 922 هجرية – 24أغسطس 1516م .. وانتصر الجيش العثماني بفضل الانشقاقات التي حدثت في صفوف المماليك وانحياز بعض قادتهم إلى العثمانيين منهم خاير بك ( وهو الذي تولى إمارة مصر ) .. وجان بردى الغزالى ( سيقود تمردا بعد ذلك في عهد السلطان القانوني وسيحاول الاستقلال بالشام بعد أن عينه العثمانيون واليا عليها ) .

ويسقط السلطان الغوري في ساحة المعركة صريعا ، وتتفق كلمة أمراء المماليك على اختيار طومان باى ليقود المقاومة ضد العثمانيين .. وبالقرب من صحراء العباسية بالقاهرة وتحديدا في منطقة الريدانية دارت المعارك العنيفة بين الفريقين، وهزم المماليك للمرة الثانية في 29 ذي الحجة 922 هجرية – 23 يناير 1517م .. ويفر طومان باى ويتجهز لجولات جديدة من المواجهة.. وفي شوارع القاهرة قاوم زحف العثمانيين ببسالة نادرة، والتقى معهم في معركة ثانية قرب قرية الوردان بالجيزة في 9 ربيع الأول 923هجرية – 1 ابريل 1517 م.. وهزم أيضا وفر إلى البحيرة ثم ألقى القبض عليه ، وكاد السلطان العثماني من فرط إعجابه بشجاعته أن يعفو عنه ولكنه لم يفعل بعد أن حرضه الوشاة على قتله .

وفي يوم الأحد 21ربيع الأول 923هجرية – 15ابريل 1517 م أعدم طومان باى على باب زويلة.... وبإعدامه تنتهي دولة المماليك التي بدأت مدافعة عن الإسلام منافحة عن أراضيه مجاهدة للتتار والصليبيين ثم انتهت هذه النهاية العجيبة..

بفتح مصر وسقوط دولة المماليك وبالتالي سقوط الخلافة العباسية التي حكموا باسمها .. أصبحت الدولة العثمانية هي مركز العالم الإسلامي، وتزينت بتاج الخلافة الإسلامية واعتبر سلطانها هو خليفة المسلمين وخطب له في المساجد وسكت العملة باسمه، وخضعت الحجاز والحرمان الشريفان واليمن لسلطانها، وقام شريف مكة بتقديم الولاء للسلطان سليم الأول.. وفي آيا صوفيا جرت مراسم رمزية لانتقال الخلافة إلى العثمانيين عندما قام (المتوكل على الله ) آخر الخلفاء العباسيين بالتنازل عن المنصب للسلطان العثماني .

هذا إذن هو ميراث سليمان القانوني الذي ورثه عن أبيه وأجداده.. حقد وترقب وحذر وذعر وخوف ومحاولات للثأر ورغبة محمومة في الانتقام وتحركات جادة من أجل تمزيق الصف المسلم وإهدار طاقات المسلمين في نزاعات وصراعات طائفية من قبل الأوربيين.. ودولة مترامية الأطراف واسعة الرقعة ممتدة النفوذ.. دولة واحدة موحدة تمثل الإسلام وتدافع عنه وتتحدث باسمه وتسعى لإجهاد خصومه واستنزافهم وإحباط مخططاتهم.. ثم خلافة حقيقية قوية مطاعة مهابة وسلطة روحية وزعامة دينية ينقاد لأمرها المسلمون في كل مكان من العالم .