أود في البداية تحية الأديب والروائي والأكاديمي الكبير الدكتور يوسف زيدان على هذه الرواية المدهشة التي استمتعت بقراءتها .
عشتُ طوال قراءتى للرواية عالما روائيا مختلفاً .
أهنئه على هذه الجرأة والعزيمة التي دفعته لبحث مثل هذه القضايا الشائكة والغوص في تلك المسائل المعلقة الغامضة غير المحسومة وإخراجها بهذا العمق وهذا الأسلوب الساحر المشوق الذي يغرى على البحث والتساؤل والتقصي فيما وراء الأحداث والشخصيات والمواقف والفلسفات والأفكار والعقائد؟؟
هدف (عزازيل) ليس الطعن في ديانة بعينها، لكن الهدف هو التساؤل عن مكان العقل وسط ما نؤمن به ونقدسه؟
الغاية ليست التشكيك في أصول ديانة من الديانات، لكنها الانتصار للإنسان وحقه في المعرفة والحرية وحقه في العيش بسلام وأمن بما يحمله من فكر وبما يعتنقه من عقيدة، أيا كان هذا الفكر وأيا كانت تلك العقيدة ، حتى لو كانت عقيدة وثنية لا تمت إلى السماء بصلة.
ادعى البعض أن (زيدان) يهاجم في روايته الديانة النصرانية ويشكك في أصولها ويكشف تاريخا من العنف المسيحي الدامي المسكوت عنه.
وأنا أتساءل: فهل ينتصر زيدان للوثنية وهل يدافع عن الوثنيين ضد من هدموا معابدهم وارتكبوا ضدهم المذابح؟
القضية ليست (مع) أو (ضد).. القضية ليست بهذه السطحية عند (زيدان) الذي يشغله (الإنسان) في المقام الأول، فنراه يصرخ على لسان بطله المتخيل (هيبا) في إحدى مناجاته الفلسفية : "إلى متى أصرخ إليك من الجور فلا تخلص ؟
لماذا تريني الإثم؟
وكيف تطيق النظر إلى البؤس؟
الاغتصاب والعنف ينتصران أمام عيني، والخصام والنزاع يسودان".
أجمل ما في (عزازيل) أنها بعثت الروح في شخصيات تاريخية وأحداث مروية وأماكن ومدن تنتمي لزمن سحيق، فجعل تلك الشخصيات تتحرك وتنفعل وتتحاور وتشعر وتحب وتكره وتألم وتفرح وترسم الأحداث الخفية بطريقة درامية عميقة مذهلة ممزوجة برؤى فلسفية دقيقة ومشاعر إنسانية رهيفة، فامتزج الأدب والتاريخ والفلسفة والمشاعر الإنسانية في كيان واحد بتناغم نادر الحدوث.
زيدان قادنا بسهولة إلى تلك المدن التي شهدت تلك الأحداث الكبيرة، فكأننا نرتحل ونعيش مع البطل في شوارعها وقراها وبين جدران أبنيتها.
أهم ما ميز الرواية من الناحية الفنية، وهو تلك القدرة المدهشة المتأنية الصبور على الوصف .. وصف الأماكن ووصف المشاعر ووصف الشخصيات ووصف الأحداث.
يقول مثلا على لسان البطل ( هيبا ) في وصف صومعته:
"صومعتي التي لا يزيد طولها ولا عرضها عن مترين.. من القبور المصرية ما هو أوسع منها ، جدرانها من الحجر الذي يبنى به الناس في هذه النواحي، يأتون به من محاجر قريبة ، كان لون الحجر أبيض ثم صار اليوم بلا لون .
لصومعتي باب خشبي ضعيف غير محكم الإغلاق يفتح إلى خارجها، حيث الممر الطويل المار على بقية صوامع ( قلايات) الرهبان .. لا شيء هنا حولي غير لوح خشبي أنام عليه، عليه ثلاث طبقات من صوف وكتان هي الفرش الوثير والدثار، على أنني اعتدت النوم جالسا مثلما يفعل الرهبان المصريون.
في الزاوية اليسرى المواجهة للباب طاولة صغيرة قصيرة القوائم، عليها المحبرة والسراج القديم ذو الفتيلة البائسة واللهب المتراقصة شعلته، وتحت الطاولة الرقوق البيضاء النقية من أي كتابة، والرقوق الحائلة اللون التي غسلت كتاباتها، بجوار الطاولة كيس فيه كسر من الخبز الجاف وإناء ماء وقنينة زيت للسراج وكتب مطوية ، وفوقها علقت على الحائط صورة للعذراء مريم محفورة على الخشب، فإنني يريحني النظر إلى وجه العذراء الأم".
وهذا مثال لوصف المشاعر حينما يصف ضعف ( هيبا ) الإنساني أمام ( مرتا ) غوايته الثانية بعد ( أوكتافيا ): " كنت أنوى الإفاضة بما أعانيه من شعوري بها وأعانيه ، وكانت قد تهيأت لسماع أمر مهم وعقدت ذراعيها على صدرها وكفت عن أرجحة قدميها، هي جميلة أيضا حين تهتم وتصغي، عيناها تتسعان فيزداد جمالها، غير أنى لم أقل ساعتها أي شيء بلساني، فما كدت أبدأ البوح بعدما نظرت في قلب عينيها نظرة طويلة حتى سمعنا جلبة الصبية الصاخبين آتية من عند بوابة الدير .. قمت من فوري فأحضرت أوراقي وأعطيت لمرتا نسختها لنبدأ الترنيم ".
وهذا مثال لوصف الشخصيات حينما يصف زيدان شخصية نسطور (بابا وأسقف القسطنطينية): " كنت ألتفت دوما إلى ملامحه البهية المشرقة بينما أعد لكلينا مشروب النعنع الجبلي الفواح الدافئ وطبقا من البلح والتين المجفف .. في هيئته وقار وطيبة أصيلة.. عيناه الواسعتان لونهما مشوب بخضرة وعسلية وفيهما شغف وذكاء، في وجهه الأبيض حمرة خفيفة وفى لحيته الأنيقة اصفرار لطيف وقليل من الشعر الأبيض الذي يزيده بهاء ، في سمته صفاء رباني يفتقر إليه كثير من الرهبان الكبار منهم والصغار ، بعدما قربت منه كوب النعنع وزدت من ضوء السراج جلست على الأريكة المقابلة للسرير المخبأ أتأمل ابتسامته البهية، رأيته أنموذجا سماويا لما يجب أن يكون عليه رجل الدين".
أما أحداث الرواية فقد ارتقى زيدان في وصفها ذروة الإبداع، ومن أجمل وأروع أحداث الرواية مشهد مقتل الفيلسوفة (هيباتيا) وهو مشهد رهيب مطول تقشعر من هوله الأبدان نقتطف منه هذه الجزئية القصيرة: "امتدت نحوها يده الناهشة ويد أخرى ناهشة أيضا حتى صارت كأنها ترتقي نحو السحاب فوق أذرعهم المشرعة وبدأ الرعب في وضح النهار.. الأيادي الممدودة كالنصال منها ما فتح باب العربة ومنها ما شد ذيل الثوب الحريري ومنها ما جذب هيباتيا من ذراعها... ".
من أهم شخصيات الرواية (عزازيل) الذي لم يجسد صورة الشيطان المتعارف عليها بل هو ( الأنا الداخلي ) بالمفهوم الفلسفى ، هو النصف الآخر من شخصية هيبا ( الراهب) ولذلك آثر زيدان تسمية بطله بنصف اسم الفيلسوفة المفكرة (هيباتيا ) أي أن شخصية البطل المتخيل (هيبا) فيها من نزوع (هيباتيا) إلى التأمل والتجريب والبحث والفلسفة وتقديس العقل.
وفيها من حياة الرهبنة وحب العزلة والزهد والمناجاة وتقديس النص، وفيها أيضا روح (عزازيل) برغباته ومراوغاته وأشواقه المحلقة في فضاء الحرية، يقول (عزازيل) لـ (هيبا): "يا هيبا قلت لك مرارا أنى لا أجئ ولا أذهب، أنت الذي تجئ بي حين تشاء فأنا آتى إليك منك وبك وفيك، إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك أو أمد بساط خيالك أو أقلب لك ما تدفنه من الذكريات ، أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك ... " .
من الشخصيات المهمة أيضا في الرواية شخصية الفيلسوفة الشهيرة المسماة بأستاذة الزمان ( هيباتيا ) وقد أدان زيدان - بما قصه عنها وما جسده بإبداع منقطع النظير في مشهد مقتلها الرهيب على يد عوام المسيحيين بقيادة الأب بطرس القارئ وبتحريض من الأسقف (كيرلس) عمود الدين بابا الإسكندرية – أدان الاعتداء على الفكر أيا كان مصدره، وأرخ بمقتلها في الوقت نفسه لخفوت صوت العقل وبداية هيمنة (الدين).
أما شخصية (هيبا) وهي الشخصية الوحيدة المتخيلة في الرواية، فرمز بها يوسف زيدان إلى الإنسان.. بتقواه وورعه، وضعفه البشرى وأشواقه ورغباته، وإبداعه وشاعريته، ويقينه وإيمانه، وعزوفه وزهده، وحيرته وظنونه، وتساؤلاته الوجودية وشكوكه وشوقه إلى الحرية وبحثه عن الحقيقة .