وَيسْتمرُّ الطريقُ ... تستمرّ الحياةُ
عرفتُهُ دمِثَ الأخلاقِ ، وسيمَ المنطقِ والسجايا تحسبُهُ من شِدّةِ التواضعِ يستحيي من ظلّه ! ،
تتحضّنُه نُسيماتُ رَيْعانِ الشبابِ المليء طُهْرًا ونقاءً ، بلْ لمْ يبلغْ من العُمْرِ عِقدَهُ العشرينَ بعد ،
قُبيلَ ما يزيدُ على الشهرينِ التقيتُه والحُبورُ يَغمرُ مُحيّاهُ ، ولطالما ظلّ يناديني يا عمُّ ! ،
حيث أنّ أباه هوَ الأخُ الأوسط لزوجي ، قال لي : لقد طلبتُ منكَ ولمرّاتٍ عِدّةٍ أن تُضيفَني إلى
صَفحتِكَ لكنّكَ لم تفعلْ ، قلتُ لهُ مازحًا : ليس الآن . كان يحفظُ بعضَ أبياتٍ من قصيدةٍ كتبتُها
ذاتَ ربيعٍ أصفُ بها منازلَهم وما سَنّه الزمانُ فيها من بَهجةٍ وبهاءٍ ، وهو يُردّدُها دائمًا على
مسمعيّ كلّما رآني مبتسمًا :
سلامًا يا جزيرةَ أمنياتي ... من الأعماق ، من ماضٍ وآتِ *
سلامًا من رياض الشِّعر منّي ... لعلّكِ تذكريني يا حياتي .
للهِ درّهُ كم كان مُتوازنَ الفؤادِ متزنَ الفكرِ والضمير !! ،
وفي غفلةٍ من الأماني وعندَ انبلاج فجْرِ الإثنين من الأسبوعِ قبل
الماضي تعرّضتْ ديارَهم لهجومٍ مسلّحٍ ، فما كان منه وهو
المعروفُ بغيْرتِهِ وعنفوانِ الشبابِ إلا أنْ حملَ سلاحَه مع رفاقِه وارتقى
سطحَ أحّد البيوتاتِ القريبة من بيته يُنافح عن دينه وأهله ، وكم ظلّ يسهرُ
الليالي قبلها خشيةَ المتسلّلين . وبعد أيّامٍ ... جاؤا به محمولًا على الأكتافِ شهيدًا
ترثيه رقائقُ الذكريات ، لم يكن حينها سوى بضعةُ حضورٍ ، فالأقاربُ شُرّدوا إلى النَّواحي ،
وأمُّهُ إلى الآن لم يخبروها ، وعمّته قربيَ وهي لا تلوي على شيءٍ وقد هجرتْ ديارَها كذلك .
وضعوا الجسدَ المُسجّى أعلى روْضتِه يُغطّيهِ لِحافُهُ القديم ! ، قال أبوه وقد عانقهُ لهَفُ اللاشعور ! :
ضعوا عليه لِحافًا آخرَ كي لا يجدَ البَرْدُ إلى جسده سبيلاً ! ، هنا اختلطتْ مدامعُ السَّماء بأخواتها
من أعينِ الحاضرين ، وكأنّي بها تُتَمْتِمُ مع الأثير : وداعًا عليّ ... وداعًا عليّ ...
وكأنّي بها تناجي روحَهُ بما قالهُ أستاذي ومُرْشدي قبلَ سنواتٍ راثيًا أحّد تلامـــــــــذَتهِ :
نَضَبتْ جراحُكَ في الرُّغام ، وجرحُنا ...
أبدَ الدنا في خافقـــــــــــي لا ينضبُ .
أظنّني الآن قد أضفتُه إلى صفحتي مِسْكًا تضوّع في الحنايا حتى
ألقاه هناك حيث لمن خاف مقامَ ربّه جنّتان .
**( 2014 )**
_________________________________
*/ الجزيرة هي من أرياف مدينة الخالديّة والتي تبعد عن فلوجة
العراق مسافة 20 كم تقريبًا . |