ما زلتُ هنا على هذه الصخرة التي اعتليتها منذ زمن ، أرقبُ العالم منها ، أتصورني حينا أسقط من عليها على أشلاء جسد ؛ فيروعني أن ألتقي أنا وذلك الحطام لقاء الحبيبين بعد طول فراق : القلب للقلب !
تصرخ بشريتي حين يمتلئ جسدي بذلك الجسد الذي لم يبق منه إلا أمارة تنبئ أنه كان ، فأبهت عنه وعن جسدي ، لأسبح في عالم أثيري ، فيه شيء من عالم أذكره ، كلما حاولت إرغام ملامحه على الظهور ، بدت لي ملامح هذا المدى الذي انتقلت إليه أجلى وأوضح .
كلما أغرقتُ فكري عازما على العودة إلى زمن أعرفه ، أكاد أتذكره ، يخطفني غرقي إلى المدائن البعيدة في لجج عالم آخر . عبثا أحاول الرجوع ، عبثا ؛ فذاكرتي نسيت كيف تكون ذاكرتي ، أحدهم عرف الشفرة ، دخل إلى النظام ، وعاد يملي ويملي !
سمعتُه يئن في مكان ما ، ويلا ؛ وهل أعرف أنا مساربَ هذا المدى الذي يضيق ليتسع ، ثم يتسع ليضيق . ارتفع الأنين ، وأمسك بيدي ، وشدني إليه ، انطلقتُ كالمجنون ، أهرول في المدى تمر أمامي صور ، تتلاحم في ذاكرتي أجزاؤها ، تهزني بعنف ، وتصرخ فيّ : لم تفي بالوعد ، لم تفي بالوعد !
كلما حاولتُ أن أستوضحها ، كان الأنين يتعالى ، وصوتها يخفت ، لكن شفاهها مازالت تعلق في ذاكرتي ، يذودها عني الأنين ، لكن عينيها لا تزال تلتصق بمقلتيّ : لم تفي بالو...عـ... د !
أغمضت جفنيّ عليها ؛ لعلي أهرب منها إليها ، أو أخفيها في أحداقي حتى يحين أوان اللقاء فنلتقي !
لما وثقتُ أنها قد وجدت الطريق جليا إلى قلبي ، وانتقتْ لها فيه مكانا آمنا ، أسلمتُ عينيّ لمصيرها ، فإذ بي أرتجف ، ويدي تحاول النجاة من بين أصابع جسد لم يبق منه إلا أثارة تنبئ أنه كان !
حاولت أن أستجيب لرغبة بشريتي في الصراخ ، فأيقظتُ بمحاولاتي تلك الصور التي عبرتُ عليها مهرولة ، فتواثبت نحوي : في بالوعد ، في بالوعد !
انتشرتْ في دمائي من قلبي إلى قلب كل جزء حي فيّ ، وهي تقول : في بالوعد ، في بال....و....عـ.... د !
دارت عيناي ، كأنما أغشي عليّ من الموت ، فارتسمتْ عليها تلك الصور ، فأوقفتْ دورانها ، لأسمعني أردد في ذهول : في .... بالوعد !
لم تر بُدًّا دمعتي أن تهلل لي كما اعتادت كلما أحست أني أحتاج لتهليلها ، وهي تودعني في اللحظة التي أغادر فيها أناي إلى أناي ، فهرولتْ إلي : في بالوعد ، في بالوعد !
نظرتُ لتلك البقايا ، ويدي مازالت أسيرة تلك القضبان التي أمسكتْها . نزعتُ يدي ، وأغمضت جفني ، على تلك الصور أحفظها أن تغيب ، ثم حملتُها لأنزع بها شيئا آخر. وبعد فسحة من الزمن ، أحسبها لحظة أو اثنتين ، هزتني يد تقول : وفيتِ بالوعد ، وفيت بالوعد !
ففتحتُ عينيّ لأراني أمامي ، فصرختْ فيّ بشريتي ، ووليتُ من نفسي فرارا ، وملئتُ منها رعبا ، وهرولتُ ، وقد عرفتُ مدى المدى ، لأسقط عظاما على جسد كان قد سقط من على صخرة كنت قد اعتليتها منذ زمن !