"صناعة المستقبل" بالأول الثانوي .. وهم العنوان وتفاهة الموضوع وركاكة اللغة
(1)
لفت انتباهي ذات يوم تعليق أحد الإخوة على موضوع "صناعة المستقبل" المقرر على الصف الأول الثانوي للدكتور حازم الببلاوي- متهما إياه بخلوه من إشارة إلى المستقبل.
فقرأته، فوجدت اتهامه صادقا، وأشعرني ذلك بالأزمة.
ما الأزمة؟
أزمة المستقبل.
كيف؟
أهناك في البلاد التي يحدد القائمون عليها سقف الطموح الوطني بما يرونه من مصلحتهم فقط، أو يحدده لهم كبار الغرب- مستقبل حتى يقال هذا العنوان "صناعة المستقبل"؟
الجواب: لا.
لماذا؟
لأن الدول التي يسكن قادتها إرادة دفعها إلى مصاف الدول المتقدمة المتمكنة تفتح الطريق بل كل الطرق قبالة كل أبنائها ليصلوا إلى ما ينتهي إليه مستواهم العلمي والابتكاري، وتسخر لهم العقبات، وتتيح لهم الإمكانات، وتبذل لهم الرخيص والنفيس- حتى يرتقي الوطن.
أما في النموذج الحكمي الفردي فيكون هناك مستوى محدد لا يتجاوزه أي مواطن مهما كانت طموحاته العلمية أو إمكاناته، أو ... أو ... إلخ.
لماذا؟
حتى لا يسبب إزعاجا للحاكم الفرد الذي لا يرى إلا ما يراه ولا يري شعبه إلا ما يرى هو؛ لذا يجتهد المجتهد ما دام صغيرا مغمورا فإن وصل قريبا من السقف المحدد يصير خطرا، فيُبْعد أو يُهْلك؛ لذا لا مستقبل ولا صناعة مستقبل، ولذا كان هذا الموضوع ذا عنوان جاذب وخطير ومحتوى تافه؛ فخالف ذلك أسس اختيار الموضوعات المقررة في اللغة العربية التي يراعى فيها أن تمد الطالب بالمعلومة واللغة القوية أو بأحدهما إن لم يتيسرا معا.
كيف؟
يوهمك العنوان أنه سيضع بين يديك أسس صناعة المستقبل لا سيما أن كاتبه كان مسئولا ماليا في وزارة وصار رئيس وزراء فيما بعد، أو أنه سيتحدث عن مستقبل صُنِع، أو ... أو ... إلخ كما توهمك الفقرة الأولى الافتتاحية التي يقول فيها الكاتب ص3: (كان موقف الإنسان من المستقبل دائما بالغ الغموض والحيرة إذ تراوح بين التفاؤل والتشاؤم من ناحية وبين العجز والقدرة من ناحية أخرى، ومع ذلك فإنه يبدو أن أحد مكتسبات العصر الحديث هو ثقة الإنسان في نفسه وفي مستقبله وأنه بدأ يعمل من أجل المستقبل ويخطط له وهكذا فالمستقبل لم يعد قدرا محتوما أو كتابا مغلقا بقدر ما هو نتيجة للإعداد والترتيب).
تقرأ فتتوهم ذلك، فتتهيأ نفسيا وعقليا لتلقي الخطوط المستقبلية، فما تكاد تستمر في القراءة حتى تصدم بانتكاسة تجعلك ترى الأمر يصيرا تأريخا عاما وصياغة إنشائية أو كلاما سياسيا في شأن خطير يمضي به الوقت ولا يفيد شيئا، أو...إلخ.
كيف؟
يقول ص4: (واهتمام الإنسان بالمستقبل راجع في جزء منه إلى زيادة قدرات الإنسان و بالتالي تأثيره على بيئته ففي الماضي البعيد وقف الإنسان عاجزا أمام قوى الطبيعة التي شكلت حياته وظروفه، ومن هنا فقد كان التغيير محدودا فهو يخضع لناموس طبيعي قل أن يتغير وبالتالي فقد تغير نمط حياته على الظروف الجوية واختلاف الفصول وطبيعة البيئة المحيطة به والتي قل أن تتغير إلا عندما تقع الكوارث الطبيعية من فيضانات أو زلازل أو أعاصير أو أمراض.
وهكذا فقد كانت نظرة الإنسان إلى المستقبل هي نظرة الخوف والترقب من أهوال ومصائب الطبيعة، أما ما عدا ذلك فإن العادة والتقاليد كفيلة بترتيب أمور الحياة من الرعي أو الصيد أو في الزراعة، فمع ركود المجتمعات و بطء التغيير لم تقم الحاجة إلى الإعداد إلى المستقبل الذي لم يخرج عن استمرار و تكرار للحاضر والماضي فالوقت يمضي والزمن لا يتغير).
ماذا وجدت أيها القارئ؟
وجدت ما تعرفه من انتقالات بشرية تؤيدها النظرة العلمانية للماضي والحياة.
كيف؟
ذكر المؤلف كوارث الطبيعة ووقوف الإنسان عاجزا على الرغم من أن أول إنسان على وجه الأرض كان نبيا ممدودا بوحي من ربه الذي سخر له ما في الأرض جميعا، وهيأ لأبنائه المعرفة عندما حار الابن القاتل كيف يواري سوأة أخيه فبعث غرابا علمه، وغير ذلك من أمور تجعلك ترى الأمر على حقيقته من أن الله يرسل الرسل بالمعرفة، ولا يترك الإنسان عاجزا أمام قوى الطبيعة.
وإن تغاضينا عن ذلك ومضينا في القراءة فسنجد أنه بعد أن أبحر بك في الماضي البعيد يستمر في التأريخ للماضي القريب فيقول في الصفحة ذاتها: (ومع زيادة قدرة الإنسان على التاثير في البيئة خاصة مع الثورة الصناعية لم يعد المستقبل مجرد تكرار للماضي فتعدد وتنوع وسائل الإنتاج واكتشاف الجديد من المناجم أو المعادن والتعرف على بلاد جديدة واتساع قاعدة التجارة والمواصلات. كل ذلك فتح باب التغيير فاختلف اليوم عن الأمس ولم يعد الغد مجرد صورة لليوم).
ماذا أضافت هذه الفقرة؟
أضافت تكرارا معنويا لما مضى، فهل كان ذلك آخر تكرار؟
لا، فإن التكرار استمر مع قوله: (والاهتمام بالمستقبل هو تعبير عن إدراك قوى التغيير والتجديد فما حاجتنا إلى الإعداد للمستقبل إذا لم تكن هناك احتمالات للتغيير. وهكذا بدا النظر إلى المستقبل نظرة جديدة مع التغيير المستمر في ظروف الحياة وقواعد الإنتاج وحاجات الأفراد والجماعات. فالوعي بالمستقبل والاهتمام به هو وليد التغير المستمر الناشئ عن الزيادة المطردة في سيطرة الإنسان على بيئته. وهكذا أدى تحرر الإنسان من ربقة وعبودية الطبيعة كما ساعدت سيطرته عليها وتسخيرها له إلى فتح آفاق متعددة للمستقبل مما أوجب الاهتمام به والإعداد له. الوعي بالمستقبل كحقيقة مستقلة إنما هو نتيجة للاعتراف بإمكانات التغيير فبدون تغيير لا معنى للمستقبل ولا قيمة للتاريخ وكل ما هناك هو صور متكررة ومعادة لنفس القصة، لا فرق بين ماضي وحاضر ومستقبل سوى مرور الوقت).
ماذا أضافت لك عزيزي القارئ هذه الفقرة؟ أو ماذا أضافت إلى الموضوع؟
لا شيء.
ثم يختم موضوعه ص5 قائلا: (ومن هنا كان الإنسان ذا حضارة وتاريخ لأنه استخدم الوقت المتاح في إجراء التغييرات والتجديدات في ظروف حياته ونشاطه، ولنفس السبب لم تعرف مملكة النحل أو النمل مثلا تاريخا أو حضارة لأنها رغم تنظيمها الاجتماعي المتقدم فإنها لم تعرف تغيرا أو تطورا، ولنفس السبب فإنها ليست في حاجة إلى الإعداد للمستقبل أو صناعة الحضارة وهذا شأن الجماعات. وتثير قضية صناعة المستقبل مشكلة التخطيط والإعداد للمستقبل فإذا كان من الصحيح – و هو صحيح – أننا نختار المستقبل بأفعالنا فإننا في حاجة دائمة ومستمرة للتخطيط والإعداد للمستقبل).
(2)
هذا هو الموضوع نقلته لك كاملا، فماذا وجدت فيه من فكر؟ وماذا وجدت فيه من لغة؟ والأهم: ماذا وجدت فيه من سمات تبيح لمؤلفي الكتاب اختياره موضوعا مقررا على طلاب الصف الأول الثانوي؟
لا شيء سوى المجاملة في غير محلها.
ما دليلي؟
دليلي أنه بعد أن خرج الدكتور حازم من الوزارة ألغت الوزارة موضوعه ضمن الموضوعات التي ألغتها نتيجة امتداد الإجازة.