لم يضف كلمة...
ترعرعت أم الخير في كنف أسرة كان يسودها الاحترام والمحبة؛ أمها ذات حس مرهف هذبته القناعة والرضا بما كتب الله لها، تكسب قوتها من عملها الذي تفانت فيه حتى أذبلت شبابها بذلا للعطف على الأطفال المتروكين لليأس، والرحمة بالضعفاء ممن عرفتهم بحكم مهنتها. أما أبوها فكان ممن تكالبت عليه الأرزاء والنوائب دون أن تنال من عزمه؛ فعاش النخلة في مهب العواصف.
تعلمت أم الخير وشب عودها في جو مكنها من صقل موهبتها الأدبية وجعلها تلميذة ثم طالبة لامعة ذات فكر براق ينم عن شخصية حصيفة الرأي، كريمة الخلق، حازمة رغم وجدانها الحالم الرقيق. تخرجت في أحد المراكز البيداغوجية الجهوية لتتقلد مهمة التدريس فكانت أجدر بمكانة الأستاذة اللامعة المتمكنة من آليات مهنتها، المخلصة لمهنتها التربوية. وكأخويها اللذان يكبرانها قليلا، حفظت القرآن الكريم، وألمت بما تيسر ليدها من كتب السنة الشريفة، ثم تفتقت قريحتها عن شاعرية فذة ملأت صورها الآفاق، وذاع صيتها في كل المنتديات الفكرية والأدبية عبر الأوساط الافتراضية.
تزوجت تحت دافع الرأفة الفياضة التي كانت تملأ كيانها، من رجل له أبناء من زوجة سابقة، أملا في كسب أجر تربيتهم ورعايتهم بما يلزم من الحنان... اعتزلت مهنة التدريس العمومي "لسبب شرعي"، غير أنها لم توفق في زواجها إلا في الخروج منه بثمرة ملأت عليها حياتها بعد الطلاق.
لم يدر أحد كيف غدت تركب [أم الخير] متون العناد؛ فهي لا تندم على فرصة تفوتها ولا على أي قرار تتخذه مهما كانت النتيجة. تفردت عن إخوتها بجفاء غريب وهي التي كانت جذابة بخفة ظلها وبروحها المرحة وبدماثة خلقها التي لم تفارقها... هجرت أباها مذ مالت لسلوك العزلة وعكفت على تربية ابنتها في بيئة ضيقة الأفق لا يلوح في سمائها غير النداء الذي يتردد صداه في أرجاء أفغانستان! واجب شرعه الإسلام فأحسن تحديد ضوابطه، وأوله من أوله إلى غير ما شرع له ...
قرأت [ لأم الخير] فأدهشني أسلوبها، وأعجبني شعرها شكلا ومضمونا، صورها صادقة ولغتها رصينة قلّ في عصرنا من له ملكة شعرية تضاهي قريحتها. تجاذبت الحديث مع والدها مرة آن مغادرتنا مسجد الحي، – وهو من أهل الأدب والفكر – وما أن فتحت باب الذكرى عليه، حتى أجهش باكيا وهو يسرد علي ما كان يعلّق من آمال على ابنته، ويصور لي ما انهار من صروح أمانيه الحسان، بفقد أثمن جواهر حياته – كما يسمي [أم الخير]- قال:
مرّت عشر سنوات دون أن أراها، وما لي من سبيل للسفر إلى حيث تقيم مع ابنتها بحكم ظروف عملي. اشتقت إليها كثيرا ولا يفتر لساني عن ذكرها والدعاء لها. قد أكون أخطأت في حقها، لكن الجزاء فاق أضعاف جنس الخطأ. لم يأمر الله بجفاء الوالدين، إلا أن يأمرا أولادهما بالشّرك به وأشهد الله أني ما أمرتها بشرك ولا بما يغضب الله. لم أرهقها فيما كانت تتقاضاه من عملها، ولا فرضت عليها شيئا ولا مددت لها يدي أبدا، وحين اعتزلت العمل، لم أعاتبها ولا فرضت عليها ما لا تريد. هب أنني ظلمتها، أما قرأت قول الله في محكم التنزيل:"فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " وهي أحق أن تتدبر الآيات التي تقرأها صباح مساء؟
وضعت راحتي لأربت على كتفه ووعدته أن أسعى لتبليغ رسالته لابنته وقلت: ما أصعب أن ترغمها على أن تحبك وإن كنت والدها! فقال: المشكلة ليست في أن تحبني أو تكرهني، مشكلتي في أن ربنا واحد وإليه مرجعنا جميعا وإن أشد ما أخافه أن يعذب الله ابنتي بما هجرتني وهو الذي قرن في كثير من الآيات وجوب عبادته مع وجوب طاعة الوالدين والإحسان لهما؛ لا أريد منها إحسانا ولا طاعة، بل أريد أن تصلني وأنا على قيد الحياة، قبل أن تندم حين لا جدوى من ندم. ولشدما حزّ في نفسي أنها أقفلت الهاتف في وجهي مرة أحسست فيها بإشراقة أمل؛ إذ جاءت أختها الصغرى لزيارتي وكانت في شغل بالمطبخ؛ رن الهاتف فأجبت، ولما سمعت صوتي أنهت المكالمة بضغطة زر، وكأنني لم أفرح يوما بما كانت تمرح على صدري وهي صغيرة... كل ما أريده أن تطيع الله في أبيها حتى لا تؤاخذ على عصيانها لخالقها في مجرد مخلوق خطّاء. هي أرادت أن تهجرني وأنا احترمت إرادتها لعقد من الزمن. فهل تبخل علي بيوم أراها فيه ؟...
كنا قد بلغنا من طريق العودة إلى البيت منعطفا بدا لي أن أشيع فيه الوالد المكلوم لينفرد بهمه وأنا أرجو الله أن يشد أزره فقلت: أستودعك الله أستاذ ولعل الله يجعل في الأمر خيرا.
مسح الكهل دمعة تحدّرت على خدّه حين كان يودّعني. قرأت على قسامات وجهه صورة الرجاء. لم يضف كلمة، بل بث إلى خيالي إيحاء نص القصة بأكملها. وانصرفت على منظر الرجل وهو يتوارى خلف العمارة المجاورة لمقر مكتب جمعية حقوقية بالمدينة.