بسم الله الرحمان الرحيم
ما المراد بالوجوه والنظائر؟

هذا الموضوع هو خلاصة بحث كنت قرأته في ملتقى اهل التفسير، فأحببت أن أنقله هنا لتعم الفائدة.

عملي في هذا البحث هو الجمع والترتيب والتلخيص مع بعض التصرف والله الموفق.

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام علىأشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أمابعد:
اختلف العلماء في تحديد المراد بالوجوه والنظائر على أقوال عديدة، فمنهم من عدها من المشترك اللفظي، ومنهم من قال إن الوجوه فى الأسماء المشتركة والنظائر فى المترادف.وإليك بعض الأقوال تدلنا على هذا الخلاف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في سياق كلام له :
( والأسماء المشتركة فى اللفظ هى من المتشابه ، وبعض المتواطئة أيضا من المتشابه . ويسميها أهل التفسير : الوجوه والنظائر ، وصنفوا كتب الوجوه والنظائر ؛ فالوجوه فى الأسماء المشتركة والنظائر فى الأسماء المتواطئة .
وقد ظن بعض اصحابنا المصنفين فى ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا فى الأسماء المشتركة ، فهى نظائر باعتبار اللفظ ووجوه باعتبار المعنى .وليس الأمر على ما قاله بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله
.) مجموع الفتاوي ج:13 ص:276
وفي البرهان للزركشي : ( فالوجوه اللفظ المشترك الذى يستعمل فى عدة معان كلفظ الأمة ، والنظائر كالألفاظ المتواطئة .
وقيل النظائر فى اللفظ والوجوه فى المعانى . وضعف لأنه لو أريد هذا لكان الجمع فى الألفاظ المشتركة وهم يذكرون فى تلك الكتب اللفظ الذى معناه واحد فى مواضع كثيرة فيجعلون الوجوه نوعا لأقسام والنظائر نوعا آخر
).
في ظل هذا الخلاف نتسائل عن المراد بالوجوه والنظائر وهل هما من المشترك اللفظي أم من المترادف؟
أورد الدكتور مساعد الطيار المعنى الذي فهمه لمصطلح الوجوه والنظائر في كتابه (التفسير اللغوي) 91-94 فقال ما نصه :(غلبَ هذا المصطلحُ على المؤلَّفات التي كُتِبَتْ في هذا العلمِ ، وقد اختلفَ العلماءُ في بيانِه، ولما لم يكنْ تحريرُ هذا الخلافِ من صلبِ البحثِ ، فإنِّي قد حَرَصْتُ على استقراءِ أوَّلِ كتابٍ فيه : كتابِ مقاتلِ بنِ سليمانَ البلخيِّ ( ت150) ، حتى أتبينَ منه المرادَ بهذا المصطلحِ ؛ لأنَّ من كتبَ بعده في هذا العلمِ عَالَةٌ عليه ، وإذا ظهرَ مرادُه بهذا المصطلحِ ، فإنه يُحتكمُ إليه ، ويُصحَّحُ ما خالفَه من التَّعريفاتِ التي ذكرها العلماءُ . وبعدَ استقراءِ كتاب مقاتلٍ ، ظهرَ لي مرادُه بعلمِ الوُجُوهِ والنَّظائرِ ، وإليك هذا المثال الذي يتبيَّنُ منه مرادُه بالوجوه والنَّظائرِ :
قال مقاتل: تفسيرُ الحسنى على ثلاثةِ أوجهٍ :
فوجهٌ منها : الحسنى ؛ يعني : الجنَّةَ ، فذلك قولُه في يونسَ :(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى)يونس : 26 ؛ يعني : الذين وَحَّدُوا لهم الحسنى ؛ يعني : الجنَّةَ ، (وَزِيَادَةٌ) ؛ يعني : النَّظرَ إلى وجهِ اللهِ .
ونَظِيرُها في النَّجمِ ، حيثُ يقولُ :(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى)النجم : 31 ؛ يعني : بالجنَّةِ ، وكقولِه في الرحمنِ :(هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ)الرحمن : 60 يقول : هلْ جزاءُ أهلِ التَّوحيدِ إلا الجنَّةُ .
الوجه الثاني : الحسنى ؛ أي : البنون ، فذلك قول الله تعالى في النَّحْلِ :(لَهُمُ الحُسْنَى)النحل : 62؛ أي : البنون .
والوجه الثالث : الحسنى ؛ يعني : الخيرَ ، فذلك قولُه في براءة :(إنْ أرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى)التوبة : 107 يقولُ : ما أردنا ببناءَ المسجدِ إلاَّ الخيرَ.
ونظيرها في النساءِ :(إنْ أرَدْنَا إلاَّ إحْسَاناً وَتَوفِيقًا)النساء : 62؛ يعني : الخير ) .
**تحليلُ هذا المثالِ **
1ـ إنَّ مقاتلَ بنَ سليمان جعلَ لفظَ الحسنى في القرآن على ثلاثةِ وجوهٍ : ( الجنَّة ، والبنون ، والخير ) ، وهذه الوجوهُ معانٍ مختلفةٌ لهذه اللَّفظةِ .
2 ـ وإنه يكفي في الوجوه اتفاقها في المادَّةِ ، وإن لم تتفقْ في صورةِ اللَّفظِ ؛ كالحسنى والإحسانِ .
3 ـ وإنه في الوجه الأولِ فَسَّرَ الحسنى في آيةِ يونسَ بأنها الجنَّة ، ثمَّ جعل الحسنى في آيةَ سورةِ النَّجمِ نظيرةً لآيةِ سورةِ يونس .
وفسَّرَ الحسنى في آية سورة براءة بأنها الخير ، ثُمَّ جعلَ الحسنى في آية سورة النَّساء نظيرةً لها ، فهما موضعان مختلفان من القرآنِ ، لكنهما اتفقا في مدلولِ اللَّفظةِ ، وهذا يعني أنَّ تماثلَ المدلولِ في الآيتينِ هو النظائرُ.
4 ـ وإنه لم يذكر في الوجه الثاني نظيرًا للآيةِ ، وهذا يعني أنَّه لا يلزمُ أن يكونَ في كلِّ وجهٍ من الوجوهِ نظائرُ من الآياتِ .
ومن هذا الموضع المنقولِ عن مقاتلٍ ( ت : 150 ) يتحرَّرُ مصطلحُ الوجوهِ والنَّظائرِ ، ويكونُ كالآتي :
الوجوهُ : المعاني المختلفةُ لِلَّفظةِ القرآنيةِ في مواضعِها من القرآنِ .
والنَّظَائِرُ : المواضعُ القرآنيةُ المتعدِّدَةُ للوجهِ الواحدِ التي اتفقَ فيها معنى اللَّفظِ ، فيكون معنى اللَّفظ في هذه الآية نظيرَ (أي : شبيه ومثيل) معنى اللَّفظِ في الآيةِ الأخرى ، واللهُ أعلمُ )
. أ.هـ.
فعلى هذا تكون (الوجوه) من باب المشترك اللفظي غالباً ، وأما النظائر فليست إلا مجرد أمثلة أخرى للوجه الواحد ، ولكن في مواضع أخرى ، ولا تعد حينئذٍ من المشترك ولا من المترادف.
ولمزيد من الإيضاح نورد التعاريف الأتية:
المشترك اللفظي : هواللفظ الواحد يكون له معانٍ متعددة ، تختلف بحسب السياق. مثل لفظة العين : فهي تدل على العين المبصرة ، والذهب ، وعين الماء ، والجاسوس ، والسحاب . وغيرها وقد جمعها ابن فارس في قصيدة له.
المتواطئ : هي الألفاظ المختلفة للمعنى الواحد ، كلفظة الأسد ، والليث ، والهزبر فهي تدل على معنى واحد. وهو ما يسميه بعضهم المترادف.
وقد أشار السيوطي إلى ما أشار إليه ابن تيمية في كلامه المنقول أعلاه. وقال عند حديثه عن المشترك :(وقد صنف في هذا النوع وفي عكسه - وهو ما اختلف لفظه واتحد معناه - كثير من المتقدمين والمتأخرين ، منهم ابن الجوزي ، وابن أبي المعافى ، وأبو الحسين محمد بن عبدالصمد المصري وابن فارس وآخرون). ينظر: معترك الأقران 1/514 بتحقيق البجاوي.
ويفهم من كلام السيوطي أن العلماء في كتب الوجوه والنظائر صنفوا في المشترك وفي عكسه وهو المترادف أو المتواطئ هذه المصنفات المعروفة بالوجوه والنظائر. لكن الإشكال هو في عدم الإشارة للمترادفات في كتب الوجوه والنظائر ! مما يؤيد اعتراض ابن تيمية في كلامه على المصنفين في الوجوه والنظائر. وأظن شيخ الإسلام يشير إلى كتاب ابن الجوزي في الوجوه والنظائر المسمى (نزهة الأعين النواظر) .
والظاهر أن وجوه اللفظة القرآنية لم تكن دائماً من باب المشترك اللفظي ، وإنما تكون كذلك أحياناً. والذي جعل العلماء يدخلونها باب الوجوه هو استعمال القرآن لها في سياقات مختلفة مما جعلها تدل بناء على السياق على معاني متباينة.
ويبدو لنا أن الوجوه المتعددة للفظة الواحدة تكون مرادفة لمعناها الخاص في كل سياق فهي تحمل في طيها ترادفاً مع ألفاظ أخرى هي التي تفسر بها.
فمثلاً لفظة اللسان : قالوا : إنها وردت لأربعة معانٍ : اللغة - الدعاء - الثناء الحسن - العضو المعروف في الفم.
فكون اللسان بمعنى اللغة ، يعني أن لفظة اللغة مرادفة للفظة اللسان في بعض سياقاتها الخاصة ، ولها مرادف آخر هو الثناء الحسن ، ومرادف آخر هو الدعاء. بمعنى أن هذه الألفاظ مختلفة المبنى ، متفقة المعنى مع اللفظة الأم.
فمعنى كلام ابن تيمية : أن لفظة اللسان لها وجوه باعتبار اللفظ الواحد وتعدد معانيه بحسب السياق . ولكنه في الوقت نفسه نظير لكل معنى من هذه المعاني المختلفة ، فهو مترادف ونظير للوجه الأول(اللغة) ، ونظير للثاني (الثناء الحسن) وهكذا.
وأن لفظ الولي مثلاً الذي جعل له العلماء عشرة وجوه هي (الولد - الصاحب - القريب- الرب - المولى الذي يعتق ...الخ) فإن هذه الألفاظ المختلفة نظائر للفظة (الولي) فلها ترادف مع الولد ، وترادف آخر مع الصاحب ، وترادف ثالث مع القريب وهكذا .
فيكون معنى الوجوه إذاً : المعاني المتعددة للفظ الواحد ، ويكون هذا من المشتراك أحياناً.
ويكون معنى النظائر : تعدد الألفاظ واتحاد المعاني ، وهنا يكون الترادف.
ويكون معنى قول ابن تيمية :(فالوجوه فى الأسماء المشتركة) أي : اتحاد اللفظ واختلاف المعنى بحسب السياق ، وهو يعني بالأسماء الألفاظ لا قسيم الفعل والحرف.
ومعنى قوله :(والنظائر فى الأسماء المتواطئة) أي : تعدد الألفاظ واتحاد المعاني وهذا هو التواطؤ أو الترادف ، ويكون هذا بحسب دلالة السياق الخاصة.
وهذا هو الذي قدمه الزركشي في تعريفه في قوله :( فالوجوه اللفظ المشترك الذى يستعمل فى عدة معان كلفظ الأمة ، والنظائر كالألفاظ المتواطئة).
و حينئذٍ لايلزم من تعبير مقاتل بقوله :ونظير هذا قوله تعالى كذا... بعد ذكره لكل وجه ، أنه يعني بذلك معنى النظائر الاصطلاحي الذي عناه في كتابه ، بدليل عدم استخدامها بكثرة عنده وعند الدامغاني . وإنما يقول : كقوله ، أو ومثله كذا .. وإن كان قد يستخدمها كما فعل مقاتل كما في شرحه (الأعناق). وانظرتفسير مقاتل لكلمة (الحق) ص175 فقد ذكر لها أحد عشر وجهاً ، وكل وجه له أمثلة كثيرة ، لم يعبر بلفظ النظير فيها إلا مرتين في الوجه الثامن ، والحادي عشر. وبقية المواضع يقول : كقوله ، ونحوه كثير.
ويبدو لنا أن المؤلفين في الوجوه والنظائر قد توسعوا في دلالات الألفاظ وتشقيقها ، مع اتحاد الأصل اللغوي للمواد التي يذكرونها ، حتى بالغوا في ذلك ، وجعلوا لكل سياق معنى يخصه.
وخذ مثالاً قول الدامغاني :( تفسير التراب على خمسة أوجه : الرميم ، الأتراب : الأشكال ، الترائب : الضلوع ، التراب : البهائم ، الصعيد). 1/190 في حين قال ابن فارس :(ترب : أصلان صحيحان : أحدهما التراب وما يشتق منه ، والآخر تساوي الشيئين).
ودلالة السياق دلالة نافعة في فهم القرآن ، ولكن هذا لا يعني مفارقة اللفظة لأصل معناها اللغوي ، حتى لا يبقى بينه وبينها صلة كما يصنع بعض المصنفين في الوجوه والنظائر. ثم إن دلالة السياق عند علمائنا القدامى تختلف عن منهج اللغويين المعاصرين في دراسة السياق ، ومنهج علمائنا أولى وأدق ، ولا سيما أنهم راعوا في ذلك خصوصية القرآن الكريم.
وقد وجدنا تعريفاً آخر للأشباه والنظائر في كتاب (التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن) من تأليف الدكتور عودة خليل أبو عودة ، يمكن ان نعتبره خلاصة من شأنها أن تزيل الإشكال : يقول : " علم الأشباه والنظائر فرع من علوم التفسير . ويُقصد بالأشباه الألفاظ المشتركة التي تُستعمل في معان متعدّدة ، وهو ما سُمّي في الدراسات الحديثة بالمشترك اللفظي . كلفظ العين يُطلق على العين المبصرة والعين الجارية .. ويُقصد بالنظائر الألفاظ المتواطئة التي تُستعمل بمعنى واحد مثل جواد كريم . وهذا قريب من معنى الترادف في الدراسات اللغوية الحديثة " . ص38 .
والله اعلى واعلم
سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك واتوب اليك.