البحر لا يضحك كثيرا (1)
(من أدب الرّحلة)
محمد النّعمة بيْروك
بدتِ القاهرة من الأجواء في عتمة الليل وكأنّها صحن كبير من الجمر المتّقِد، لم أكن أتصوّر أن الطّائرة تمكث فوق هذه العاصمة كلّ هذا الوقت.. سرحتُ في سحر الأضواء فوجدتني أعيد شريط الرّحلة..
لمْ تعدّ لي والدتي وأنا أغادر مدينة العيون كيس السّكر والشاي كما كانت تفعل من قبل، بل أنّها لم تقم كعادتها بقراءة سورة الفاتحة في كفي عندما أكون مسافرا،...
والحقيقة أنّها لم تكن حتّى تعرفني، قبّلتُ رأسها ويديْها وأنا على وشك البكاء، تمالكتُ نفسي حتى لا انخرط في نوبة نحيب لا تليق بالرجال، حاولتُ مغادرة الغرفة بسرعة كي لا أمنح نفسي وقتا للتّأمّل، كنتُ أخدّر نفسي باستمرا:
"سأراها ثانية بحول الله.. سيكون كلّ شيء على ما يرام.. إنهما فقط أسبوعان، وسأعود.."
حتى في باحة المنزل والزقاق حاولت قدر الإمكان قتل لحظات الوداع..
كانت الشوارع بشجيراتها القليلة تعود إلى الخلف ببطء وكأنها تشدّني إلى الوطن، لكنني كنت أعمّق حالة التخدير بأي شيء:
- الأطفال لا يخافون السّيارات
-نعم يا أخي.."غير الله ييحفظ أُ صافي"
هكذا أختلق حوارا مع السائق.
في المطار تنصحني الموظفة بتسجيل اجراءات الرحلة من الدّار البيضاء إلى القاهرة هناك في العيون، تسعدني الفكرة وأشكرها، لأني سأقضي يوما تقريبا في البيضاء في انتظار السفر في اليوم التالي، وسأكون -بالتالي- خفيفا..
يصادفني مكان واسع في الطائرة لأني أجلس في ممرّ إلى باب الطوارئ..
-البارحة تأخرتْ عن الإقلاع لعشرين دقيقة..
هكذا يخاطبني الشاب الذي يجلس حذوي بدون سابق معرفة..
-هل تقف في أغادير طولا ؟
-نصف ساعة.. ولا يُسمح لمتمّمي الرحلة بالنزول عن الطائرة..
لم أحظ برؤية فوقية لأغادير بسبب غفوة، لكنني رأيت البيضاء التي بدت أضواؤها كحبات الذهب المنثور هنا وهناك، لم أفهم ما سرّ العتمة في بعض الأماكن، وما سرّ كثافة النور في أخرى..
لم أكن لأجد أحدا في اتنظاري بالمطار.. رغم أن عبد الرّحيم اقترح عليّ عبر الهاتف أن يستقبلني..
-سأكون في انتظارك بالمطار..
-كلّا.. شكرا.. سأستقل تاكسي..
-إنّه مكلّف
-لا بأس
(يتبع...)