رؤية نقدية لقصة العنكبوت
نحن أمام ثلاثة مستويات من السرد وليس مستوى واحد ؛ الأول مستوى الرؤيا وما يتعلق بها من غيب وتحليق ومراوحة بين الشك واليقين، والحقيقة والظنون، والخيال والواقع. وقد احتلّ هذا المستوى الرّبع الأوّل تقريباً من مساحة القصّة المكانيّة والزّمانيّة المردودة للزّمن المستغرق فى ايصال الفكرة العامة للمتلقي من ناحية ، ومن ناحية أخرى ذلك العامل الزّمانى المتعلّق بسيطرة الفكرة البغيضة المتخيّلة على عقل البطل ووجدانه، بشكل استدعى إعاشة المتلقي معه فى تلك المساحة الكبيرة من مصارعة الرؤى، وعوالمها الغيبية واشاراتها البغيضة، وتجاذبات تأويلاتها الشنيعة ، ثم صراعها السريع مع الواقع، وتنزيل تلك التّأويلات على أحوال الزوجة ومقارنتها بتصرفاتها .. إلخ
وهذا المستوى صادف لدي ارتياحاً وقبولاً مع امتاع حقيقىّ عند حسم المسألة، ووضع الفاصلة بين الحلم والحقيقة، والخيال والواقع واكتشاف أنّ السرد هنا ينتمى إلى عوالم أخرى غير الواقع المعيش .
كان الانتقال بين المستويات السّردية الثلاثة ، ومن عوالم الرؤى وتأويلاتها وغرائبها إلى عالم الواقع وتشابكاته الاجتماعية والعاطفية والزوجية، أحد علامات الإمتاع فى النّص لسبب جوهريّ ؛ أننا أمام حلول كثيرة لعقد متنوعة، ولسنا أمام حلّ واحد لعقدة واحدة كأيّ نص تقليديّ يعتمد على هذا المستوى الأحادي من السّرد ، حيث تختفى العقدة بإدهاشاتها ومفاجآتها، وصدمتها عادة إلى نهاية النّص المحبوك. أما هنا فتتعدد العقد والحلول والادهاشات والمفاجآت، عقب الانتقال من مستوى سرد إلى الذى يليه ، وها نحن أمام عقدة وحلّ بعد الرّبع الأول من النص عند اكتشافنا أن ما كان يراه ويصارعه البطل من عنكبوت مطاطيّة عنيدة، لم يكن إلّا نزيل رؤيا حبست البطل معها فى زنزانة الشّكوك والهوس المَرَضي الذى يحيل حياة الإنسان الاجتماعية إلى جحيم لا يُطاق .
المستوى الثّانى من السّرد فى هذه القصة ينتقل بنا إلى عالم الواقع ، ومن مصارعة العنكبوت اللّزجة فى المنام إلى مصارعة الشّكوك والأوهام على خلفية هذه الرؤيا الغرائبية، وما يتعلق بشكوكه حول كونه مجرد حلم أم حقيقة! وانتقالنا معه إلى واقع البيت النظيف والزوجة " النظيفة " الحريصة على نظافة منزلها من أن تدخله ولو عنكبوت متطفلة، أو ما هو أقل وأدق منها من الحشرات ، ثم بتاريخ علاقته مع العناكب وخوفه المرضى منها ، وفى تلك الإشارة العارضة لحادثة التلميذ، وما فيه من سخرية منه ، توظيف جيد لحصاد رسائل القصة الاجتماعية ؛ فليس كل ما يخافه الإنسان يؤذيه أو يضره أو تصدق فيه هواجسه وشكوكه ، فقد يكون هذا الهاجس نتيجة موقف عارض صنع هذه الحالة من الارتياب والتوجس، ويبدأ هذا المستوى من السرد بقول الكاتبة : " عزفت الساعة ألحانها معلنة السّابعة صباحاً ، فاذا به يستفيق مذعوراً وباحثاً في جنبات غرفته، مقلّبا فراشه الذي غادرته زوجته ... الخ " .
المستوى الثالث من السرد فى هذه القصة المميزة أداءً ومضموناً هو محاولة حلّ الإشكالية بين الغيب والشّهادة ، وفض الاشتباك بين الرؤيا والواقع ، وقد شهد هذا المستوى تصاعداً حاداً لدرامية القص ، كأننا أمام قصة جديدة مستقلة بذاتها وبأحداثها المتعاقبة وعقدتها المخيفة وحبكتها الشاردة ، ويبدأ هذا المستوى بقول الكاتبة : " ما لهذا الكابوس الّلعين يرسم دائرة حولي ، مطوّقا فكري وجسدي؟!
كيف أسمح أنا الطّبيب لمثل خرافات التّفسير هذه ، أن تأخذ دقيقة من وقتي ؟! يجب وضع حدّ لذلك ... الخ " .
وشرود الحبكة هنا لأنها ببساطة تكررت الإشارة اليها خلال ختم المستويات المتقدمة من خلال الإشارة لنظافة الزوجة ومن خلال تفاصيل الحلم ذاته.. فتفسير العنكبوت بالمرأة الفاسقة اللّعوب أو التى تهجر فراش زوجها لم يضع فى اعتباره هذه الحالة الخاصّة ، لأننا أمام عنكبوت لزجة مطاطيّة عنيدة لا تستسلم بسهولة وتأبى الانصياع وعصية على الاختراق ، فاذا كان العنكب العادى واهنا ومستسلما وطيّعا وسهلا هدمه ، فها نحن أمام نوع مقاوم وشرس وعنيد يغلب ويهزم من يريد النّيل منه أو إيذاءه.. وبالعودة لتفاسير الرؤى نجد كثيراً ما كان لكلّ رؤيا عدة قراءات ولكلّ قاعدة استثناءات ، والشواهد على ذلك أكثر من أن تذكر ، وقد يشير وصف العنكبوت فى الرؤيا إلى امرأة قوية محافظة مناضلة دون عرضها، وإلى بيت راسخ عصيّ على الهدم .
ذهبت الهواجس والوساوس إلى مسار كارثيّ لأنها لم تُدرس جيداً ، وحلّ الشيطان محل العقل ليفسر له بعض التصرفات الطارئة للزوجة على ضوء الرؤيا الغريبة. ولو كان العقل حاضراً لدرس المسألة المصيرية بعناية قبل اتخاذ أىّ قرار يتعلق برباط مقدس وبعلاقة يباركها الرب ،جلّ فى علاه، ويرعاها ، وفى المقابل يحاول الشيطان قدر جهده تفكيكها ووضع الألغام فى طريقها .
لو كان العقل حاضراً لكان تفسير الرؤيا أكثر دقة وعناية على الوجه الذى يُرضي الله، ولا يمنح للشيطان الفرص ، وهنا لا تكفى قراءة ابن سيرين ولا تفسيرات الأولين لرؤى مماثلة ، إنّما تفسير الرؤيا هنا كالفتوى تماماً يتعلق بحالة خاصة لا ينبغى معاملتها على ضوء كلام قاله الأولون فى حالة مختلفة لها ظروفها المختلفة. والحالة هنا مختلفة تماماً بأحداث فى الرؤية تشير الى حشرة ذات صفات مناقضة تماماً للعنكبوت العادية ، وقد يذهب المفسر الحصيف إذا قص عليه بطل إلى نقيض ما ذهب إليه الأولون ، فالأولى فاسقة طيعة سهلة المنال ، وهذه نظيفة عنيدة مقاومة تأبى الاستسلام وتصارع دون شرفها .
جاءت الحبكة الأخيرة لتتوج هذا السرد المتنوع المتدرج بفاصلتين دراميتين من الضخامة لتستوعبهما سطور قليلة متلاحقة ؛ فطلاق متهور يعقبه اكتشاف الحقيقة الغائبة والارتباط الأبديّ؛ لتلبى هذه السرعة الدرامية فى تلك الأسطر القليلة غرض المتلقى ورغبته المتلهفة فى الوقوف على تطورات الأحداث ونهاية القصة الشائقة ، وربما لبّت الخاتمة أمنيات جميع القراء الذين تعاطفوا مع البطلة التى كانت " أسْمى " من الشكوك والظنون فى شرفها وسمعتها .
لا أملك الا أن أرفع القبعة لهذا القلم البارع ، فشكراً جزيلاً للكاتبة القديرة الأستاذة كاملة بدارنة على هذا الإمتاع والاحترافية، وهذا المستوى المتصاعد المركب من الإدهاش والتميّز .
تقبلي سيدتي خالص تقديري واحترامي لفنّك الهادف .
وإلى مزيد من الأعمال بهذا الرقى ، ننتظرها على أحرّ من الجمر .
أمنياتي الخالصة وعظيم امتناني .
هشام النجار
مصر