ما أٌقصده بالانطباع هو أول ما يتجه إليه شعور المتلقي الناقد عند تذوق النص الشعري للمرة الأولى وقبل البدء بدراسته النقدية المعتمدة على تطبيق المعايير العلمية للنقد الأدبي . فهذا الشعور المبدئي وفي اللحظات الأولى إما أن ينحو نحو الإعجاب والتلذذ بخفي جماليات النص فيحدث هزة نفسية قد تسبب إشراقا نقديا عند الناقد يركز على جماليات النص الشعري ، أو أن يمر ببرود ورتابة وتثاقل فيحدث كفا عن النقد قد ينقلب فيما بعد إلى نقد يركز على سلبيات النص أكثر من تركيزه على جمالياته وإيجابياته مع توفر تلك الجماليات والإيجابيات في الواقع .
المسألة أن الناقد كمتلق هو إنسان ذو مزاج كغيره من البشر. فتحريك مزاج المتلقي الناقد باتجاه إيجابي أو سلبي ذلك ما يقوم به الشاعر عبره نصه الشعري في ما أسميه الانطباع النفسي الأول عند الناقد .
وقد يعترض على كلامي هذا من يقول : إن عملية النقد الأدبي ليست عملية مزاجية محكومة بتقلبات مزاج الناقد وأهوائه . بل هي إجراء علمي يخضع لمعايير نقدية علمية دقيقة تفيد في تقييم الجوانب الأدبية المختلفة مع تحييد مزاجية الناقد . فمهما كان مزاج الناقد معكرا أوسيئا وحاول التركيز على سلبيات النص الشعري فإنه لن يستطيع طمس جمالياته وإيجابياته .لأن الأمر ببساطة أن الجمال يفرض نفسه بنفسه ولا يحتاج الجمال الواضح أصلا لناقد وسيط ينقله من النص إلى متلق آخر . كما أن النص الشعري الفاشل لن يتحول بجهد الناقد ذي المزاج الإيجابي الرائق العالي إلى نص ناجح أدبيا وفنيا مع وضوح عثراته .
وأنا سأرد على هذا القول : بأن مزاج الناقد في الواقع يتحكم إلى حد كبير بمزاج المتلقي الآخر قارئ النقد . ولا أقول أنه يتحكم به مطلقا . فالنص الشعري الفاشل لن يبدو مع محاولات تحسينه من الناقد نصا رائعا لكنه على الأقل سيبدو نصا مقبولا يراوح في اقترابه من المستوى الجيد . أما النص الناجح المتميز فإن كان الناقد متمكنا من أدواته الفنية و التعبيرية فسوف يتمكن بالفعل من إخفاء الكثير من جمالياته عبر توجيه البوصلة النقدية في اتجاهات أخرى لا تمر بجماليات النص ولا توازيها ولربما تتقاطع معها على سبيل التبهيت أو التفنيد أوالتشويه . والأمر هنا يشبه ما يسمى بمستوى التغطية الإعلامية للحدث في القنوات الفضائية . فهناك فرق بين قناة فضائية تسابق إلى تغطية الحدث إعلاميا من جميع جوانبه ومن ظاهره وباطنه و تؤدي ذلك بحماس وتعاطف واضحين . وبين قناة أخرى تمر على الحدث ذاته مرورا يرفع عنها العتب مع تقصد الحد من استشفاف أبعاده والإحاطة بتفاصيله . ومع الإصرار على تضخيم ما يحيط به من أحداث أخرى تلفت الانتباه عنه إليها . فالناقد في الحقيقة وعبرالتحكم بمستوى التغطية الإعلامية المتفاوت لجوانب دون أخرى في النص الشعري يستطيع سرق انتباه المتلقي الآخر وتحويله حسب مزاجه هو .
نقد النص الشعري يختلف في الواقع عن نقد أي نص من جنس أدبي آخرعبر ثلاث خصائص للشعر تميزه عن بقية الأجناس الأدبية وهي : الموسيقا والصورة الشعرية والعاطفة . فهذه الخصائص الثلاثة كما نرى هي مفاهيم فنية ونفسية فضفاضة، إذ يشارك المتلقي بخصائصه النفسية والثقافية وذوقه الخاص ومستوى تحسسه للجمال في تمثلها وصنعها أثناء عملية التلقي . وهي تشكل بوابات مفتوحة من غير حراس أمام الناقد باتجاه وعي المتلقي الآخر وتذوقه للنص . فمهما كانت المعايير العلمية المطبقة في النقد دقيقة وصارمة فإنها لن تمنع الناقد من الدخول إلى وعي المتلقي عبر هذه البوابات التي هي في الحقيقة ثغرات غير قابلة للضبط النقدي . فمن هنا يتدخل الناقد في ذائقة المتلقي الآخر ويكون له حسب طبيعة مزاجه المساهمة في تشكيل رؤية ذلك المتلقي وتوجيه حسه الجمالي في عملية تذوق النص الشعري .
يتبع بإذن الله ...