أحدث المشاركات

مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: قراءة فى رائعة الأديب محمد فؤاد / همسات المقعد الخشبى

  1. #1
    الصورة الرمزية هشام النجار أديب
    تاريخ التسجيل : May 2013
    المشاركات : 959
    المواضيع : 359
    الردود : 959
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي قراءة فى رائعة الأديب محمد فؤاد / همسات المقعد الخشبى

    همسات المقعد الخشبى .. للأديب الدكتور محمد فؤاد منصور



    انتهى اليوم الأخير، ومضينا معاً نحو مقعدنا الخشبي المواجه للبحر..قلت لها:
    - وماذا بعد؟
    أجابت :
    - لاشئ..علىّ أن أحمل أشيائي وأرحل..الناس ينتظرونني بفارغ الصبر.
    من قاع اليأس هتفت بسؤالي وأنا العارف بالإجابة
    - أما من سبيل للبقاء؟..ألا يمكنك الإعتذار بأى سبب؟
    ضحكت وهى تمعن النظر فى الأمواج المتلاطمة أمامنا
    - عيبك يامحسن إنك حالم بأكثر مماينبغي..أنت أدرى بالظروف وهى أقوى منا جميعاً ..الناس يموتون كل يوم.
    - مر العام كأنه طرفة عين..
    همست بها لنفسى كالنادم فقالت:
    - انزل إلى الأرض يامحسن.. الناس هناك ينتظرون..وبعد سنوات من الآن ستقف فى هذا المكان لتتذكر أحاديثنا معاً.
    ثم أضافت فى نبرة حزينة :
    - لكننى أشهد بأنني تعلمت منك أشياء كثيرة.
    ولما رأتني واجماً كتمثال ٍلخيبة الأمل ضحكت وهى تسوي خصلات أطاح بها هواء البحر حتى غطّت عينيها الجميلتين.
    - إلا جراحة الأطفال.
    نظرت فى عمق عينيها وقلت:
    - ألاتنسين أبداً تلك الحادثة؟
    - الذكريات الجميلة تستعصي على النسيان.
    قلت كمن يخاطب نفسه
    - جميلة!!؟
    وصدق حدسها..مرت سنوات طويلة استهلكتني، لكنني كنت ألوذ بمقعدنا الخشبي ومنظر الأمواج المتلاطمة حين تقذف بذرات الرذاذ فتدغدغ وجنتي وكأنما لتعيدني لذكريات الدراسة ، المدرجات والمعامل والمشرحة والمستشفى وتاريخ طويل جمعنا معاً..سافرنا ورجعنا، تزوجنا وأنجبنا وظلت ذكرياتنا معاً مثل الجرح الحى يستعصي على الشفاء.
    كانت تأتيني الأخبار من غزة مع القادمين لاستكمال العلاج بالجامعة
    - الدكتورة حنان تعالج أطفال غزة مجاناً.
    فأزهو.. كأن المتحدث يخصني بالإطراء ..إنها حنان التى أعرفها..المناضلة شديدة البأس ، الحب الأول والقلب الغض والمشاعر التى كانت تحتوي إحباطنا..كنت أشعر أنها أمي وأننى ابنها البكر حين يجمعنا شاطئ البحر فنجلس على مقعدنا الخشبي نرسم المستقبل وخلفنا المستشفى الكبير الذى ندرس فيه معاً..كانت تنتهرني حين أحلم مثل بقية أقراني بالسيارة الفارهة والعيادة المكتظة بالرواد وتصوّب إلىّ نظراتها العاتبة المعجونة بحنان الأمومة الدافقة.
    - نحن أصحاب رسالة..لاتنس فقراء بلدك هؤلاء هم من دفعوا مصاريف تعليمك ..إن لهم عليك حقوقاً لاينبغي إهمالها..نحن هنا من أجلهم.
    كنت فتى حالماً على حين كانت هى تحمل هماً كبيراً عرفت فيما بعد أنه هم شعب بأكمله.
    قضينا العام الأخير نتدرب فى نفس الأقسام ..ننتقل معاً حتى صرنا كياناً واحداً ..كانت تنفر من منظر الجراحة والدماء بينما كان حلمي الكبير أن اتخصص فى جراحة الأطفال.

    فى الحفل الختامي تناهت إلى سمعي العبارات الموجعة..حنان لابد أن تغادر..إن أهلها فى المخيم ينتظرونها..عشرات الأطفال فى حاجة إليها..هى هنا لتتعلم لا لتحب وتعشق.
    كنت أستمع للكلمات دون أن أتأملها..أحاول الهروب من التفكير فى اللحظة القادمة..أؤجل المعاناة والألم ..أغلق باب المناقشة والجدل بكلمة واحدة.
    - أعرف كل شئ .. ولكل حادث حديث.
    الآن جاء الحادث فما هو الحديث؟
    - أحقاً تغادرين؟
    تضاحكت وهى تداري عينيها خلف نظارة سوداء وقالت:
    - بل أنت الذى ستغادر ..أنسيت أنك عينت فى أعماق الريف؟ الناس هناك يحتاجونك مثلما يحتاجني أطفال غزة هذا هو الواقع يامحسن.
    لم أحتمل الموقف..شعرت أن يداً قاسية قد اخترقت صدري لتنزع قلبي من بين ضلوعي وتعصره بقسوة يوم وقفت أشاهد السيارة التى تحملها إلى الشرق البعيد بلاحول ولاقوة..لم أكن أصدق أن سنوات الدراسة قد انتهت وأن تدريبنا معاً قد انتهى كذلك وأن كلاً منا سيمضي فى طريق، حلم السيارة والفيللا قد تبدد وحلّ محله الإحساس بأن علىّ واجباً مقدساً نحو أهل بلادي..استغرقني العمل فى الريف حتى توهمت أننى نسيت أيام الدراسة ، لكن الذكرى كانت تشتعل بين الحين والحين كالنار تحت الرماد فألمحها تقف أمامي بابتسامتها الساحرة وشعرها الحريري المنسدل على وجنتيها وهى تحدثني بلكنتها العربية المحببة والتى لم تفلح فى إخفائها حين تحاول أن تكون مصرية مئة بالمئة ، استحضر لحظات الإكتئاب الذى لازمني قبل أن نصل إلى موقف الحافلة التى ستحملها إلى ماوراء الحدود..لم استطع النطق حين تعلقت بذراعي لتسرّي عني:
    - لنذهب إلى مطعمنا المفضل لآخر مرة ..لابد أن نأكل الفول والطعمية كما تعودنا أيام الدراسة.
    ولما رأتني قد التزمت الصمت لكزتني فى جانبي وأضافت
    - عليك أن تتذكرني كلما أكلت الفول والطعمية.
    هززت رأسي مسلماً وقلت فى ضيق
    - لماذا تخفين عينيك خلف هذه النظارات السوداء؟
    ضربتني على ظاهر يدي بأطراف أصابعها وهى تفتعل مرحاً لاوجود له
    - لاتغير الموضوع..قل لي أما زلت تريد التخصص فى جراحات الأطفال؟
    - من الذى يغير الموضوع؟ ..أعرف أنك أردت ألا أشاهد إحتقان عينيك اللتين أجهدهما بكاء الليلة الماضية.
    تضاحكت وقالت فى فى صوت كالفحيح :
    - مغرور.. لم أبك ..قضيت الليل ساهرة أجهز حقائبي للرحيل..هذا كل مافي الأمر.
    وكنت أعرف أنها تكذب عليّ.
    مضت بنا الأيام ،انقطعت أخبار حنان منذ تابعت السيارة البيضاء دون أن يطرف لى جفن حتى ابتلعها الأفق البعيد ،كانت تزورني فى أحلام اليقظة كلما اشتدت بى الكروب..تذكرتها يوم حصلت على شهادة التخصص فى جراحة الأطفال ورغم حشد المهنئين رأيت طيفها ماثلاً أمامي يشد على يدي مهنئاً ، حانت مني إلتفاتة إلى زوجتي التى وقفت تستقبل المهنئين والفرحة تتقافز من وجهها ،لاأدري كيف عادت بي الذكريات فرأيت "حنان" يوم قررت إجراء جراحة عاجلة بغرفة الأستقبال لطفلة سقطت من الطابق الثاني ..كانت تتشبث بذراعي فى هلع وتجذبه بعيداً وهى تقول:
    - حرام عليك..البنت تتألم.
    كانت تعلم أن الطفلة معرضة لفقد ساقها إذا لم أتدخل بشكل عاجل لإنقاذها، دفعت بها بعيداً حتى كادت تسقط على الأرض وقلت منتهراً:
    - المفروض أنك طبيبة.!.. البنت معرضة لفقد ساقها ..ابتعدي والزمي الهدوء وإلا أخرجتك من هنا.
    خاصمتني عدة أيام حتى ضبطتها تجلس على مقعدنا الخشبي فى مواجهة البحر ،جلست إلى جوارها فى صمت وأخذت اتطلع إلى الأفق البعيد وانا أهمس فى خجل
    - سامحيني ياحنان..كان الموقف أقوى مني ..لم يكن بإمكاني أن أترك الفتاة الصغيرة تفقد ساقها.
    لم تلتفت ناحيتي وردت بهمس شبيه بهمسي
    - بل أنا التى يجب أن تعتذر..لم أتحمل الموقف رغم أنى طبيبة.
    عند ذاك تلاقت أيدينا وتشابكت أصابعنا عند منتصف المسافة التى تفصلنا على المقعد الخشبي
    كم من العمر مضى؟ ..ومايزال المقعد الخشبي فى مواجهة البحر شاهداً على همساتنا ، وماتزال الأحرف الأولى من اسمينا منقوشة كما تركناها من أيام الجامعة ، غادرت حنان إلى غزة كما كانت تحلم وتاهت فى زحام الناس والأحداث وزادت مسئولياتي برئاسة قسم جراحة الأطفال، ومازلت كلما واجهتني أزمة أهرع إلى مقعدنا الخشبي متخفياً لأجلس وحيداً أتحسس نقش الحروف وأسمع الهمسات وكأنما تأتيني من ظاهر الغيب..أنظر إلى الأمواج المتلاطمة وأشعر أنها نفس الأمواج التى كانت تتراقص ونحن ننظر إليها معاً وتداعبنا بنثر رذاذها على وجوهنا وكأنما لتعلن فرحها بقدومنا.
    0
    - وقع عليك الإختيار لترأس أول فوج للإغاثة.
    نطقها مدير المستشفى وهو يناولني المظروف الكبير..هتفت دون وعي
    - حنان.
    - نعم..ماذا قلت؟
    - أعني غزة.
    مضى يشرح أبعاد مهمة الإغاثة وأن الوزارة أجرت إتصالاتها ورأت أن تستعين بي لجراحات الأطفال الدقيقة وأن الفوج الأول سيغادر بعد أيام وستتلوه أفواج فى كافة التخصصات،ثم مد يده إلىّ مشجعاً ومودعاً
    - الناس هناك فى حاجة إليكم..إنهم محاصرون والجراحات الحرجة لاتجد من يقوم بها.
    رنّت كلماته فى أذني وأنا أغادر المكتب..كانت حنان كلما أغريتها بالبقاء هنا ترفع راية العصيان وكانت تردد نفس العبارة "الناس هناك يحتاجونني" وهاقد احتاجك الناس أنت أيضاً..لم يفلح الحب فى أن يصرفها عن رسالتها وكانت تقول إن الحب لأمثالنا ترف لانقدر عليه ، يكفينا أن نعيش على ذكريات اللحظات الجميلة ،كانت تردد إن مايجمعنا معاً هو صدق مشاعرنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين ثم تطرق فى أسى وتقول..الفراق قدر..وليس بوسعنا أن نهرب من أقدارنا لأننا لانختارها.
    حملتنا حافلات الإغاثة ،دارت بنا فى شوارع غزة ، لم تتوقف مشاهد الخراب ونتائج القصف أمام أعيننا وبين الحين والحين كنا نسمع طرقعات أبنية تتهدم أو قذائف تطلق ،فى الصباح التالى وصلنا إلى المستشفى الميداني الذى أعد على عجل..وسط عشرات الأنات وآلاف الصرخات كنت أدور بعيني كلما لمحت ثوباً أبيض ..حنان الرقيقة الطيبة تعمل وتعيش هنا وسط برك الدماء والأشلاء المتناثرة والوجوه التى يعلوها الجزع ..كيف تتحمل كل ذلك الدمار والجراح والأشلاء وبرك الدماء المتناثرة حولنا كمياه الأمطار الراكدة..سيارات الإسعاف تحمل إلينا الجرحى الخارجين من تحت الأنقاض، الشباب الفلسطيني يجري هنا وهناك، صاروا مدربين على استقبال الحالات الحرجة بينما وقفنا نحن فى غرفة عمليات بدائية يلفنا الصمت والجلال ورهبة الموقف الحزين ، تعمل أيدينا بسرعة وتتركز أبصارنا على أماكن الجراحة حتى نوقف النزف أو نغلق الجرح المفتوح أو نبتر العضو..دبت فى أوصالي روح شباب جديد فصرت أتنقل بين المناضد أسابق الزمن لإنقاذ من يمكن إنقاذهم وتنتقل إلىّ العدوى من حماس الشباب المتأجج بالحيوية، تلتقى أعيننا من وراء الأقنعة والكمامات وتتحدث دون كلمات..إن مصيبتنا واحدة..الآن أدركت لماذا كانت حنان ترغب فى العودة سريعاً لأهلها، وجدت نفسي على غير إرادة أهتف بيني وبين نفسي..كان معها كل الحق..لكن ترى أين هى الآن؟.. هل ابتعدت عني عامدة وهى التى لاتتحمل صرخات الألم؟.. هل استوقف الشباب الراكض من حولي والمشغول بمصائبه لأسأله أين التي أحببتها حين عرفت الحب للمرة الأولى؟.. أخرجني من تأملاتي صرخات سارينة إسعاف تأتي مسرعة ، التف حولها رهط من الشباب قوي البنيان، حملوا طفلة فى عمر الزهور وقد تهتكت ساقها تماماً وغابت عن الوعي, قفزت من مكاني ووقفت أمام الطاولة لأفحص الساق الجريحة والتى اختلط فيها اللحم والدم والعظام، همس الشاب الفلسطيني بجواري
    - هل سنبتر الساق يادكتور محسن؟
    لاحت مني التفاتة إلى وجه الفتاة المضمخ بالدماء والأتربة والغائبة عن الوعي وخصلات شعرها الحريري قد انسدلت على جبهتها فزادتها بهاءً وهتفت كأنني استعين بقوى خفية
    - لا..سنبذل قصارى جهدنا لترميم الساق وإعادتها إلى صورتها الطبيعية..سنتجنب البتر تماماً ،أريد طبيباً مساعداً على درجة عالية من الكفاءة.
    استجمعت كل مابقى لدي من شجاعة، وقفت أمام الساق الجريحة أتأملها كفنان يتأمل لوحته ،أحاول أن أرسم خطة البدء لأعيد بناءها من جديد ،تعلق بصري باللحم المتهتك،دارت يدي تتلقف المشارط والجفوت فى خفة وسرعة..لم أدر كم من الوقت مضى وعيناي لاتفارقان مكان الجراحة،شعرت أنني فى سباق مع قوى مجهولة وكل من حولي صامتون كأن على رؤوسهم الطير ، أمد يدي فى الفراغ لتتلقف الآلة تلو الأخرى، تمتد يد المساعد الماهرإليّ بالآلة المناسبة قبل أن أطلبها، وحين اطمأننت على أننا اجتزنا حافة الخطر شعرت حينها أنني أتصبب عرقاً وأن عليّ أن انتصب واقفاً لألتقط أنفاسي بعد أن حققت انتصاراً لصالح الفتاة المسكينة.
    من خلف القناع التقت عيناي بعينى مساعدي ، هاتان العينان أعرفهما جيداً ، غرقت فيهما بإرادتي زمناً طويلاً ، شملتني فرحة طاغية وهتفت كطفل أعادوه لحضن أمه دون أن ألقي بالاً لمن حولي
    - حنان !
    - وهل كان بإمكاني أن أتركك وحدك؟
    لم أعد أدري بأيهما أنا فرح أكثر ، لقاء حنان بعد كل تلك السنين أم بنجاح الجراحة الدقيقة.
    0
    جمعنا حفل توديع الفوج بعد أيام ..أثنيت على شجاعة مساعدتي الحسناء وحنكتها فى معالجة الجرحى وعهدي بها لاتقوى على رؤية الدماء..لكزتني فى جانب ساقي كما كانت تفعل فى الزمن القديم وقالت:
    - هل نسيت أنك صاحب الدرس الأول يوم أردت طردي من حجرة الاستقبال
    عندما جلست همست فى أذني دون أن يحس أحد
    - أصبحت رجلاً عجوزاً يامحسن وقد ضرب الشيب فوديك
    وفى اليوم التالي وقفت تودعني أمام الحافلة لم تكن تضع نظارتها السوداء هذه المرة وكانت كعادتها تشع بهاءً وفتنة من عمق عينيها الجميلتين وخصلات شعرها المنسدلة على جبينها وهى تشد على يدي مودعة همست
    - مقعدنا الخشبي ملّ الإنتظار
    أجابت وهى تنظر إلى الأفق البعيد
    - كل المقاعد هنا من حجارة .

    رؤية نقدية بقلم / هشام النجار

    القصة هنا طويلة بعض الشئ وقد يتفنن بعض النقاد فى حذف كثير من العبارات والجمل التى من الممكن الاستغناء عنها لتصل القصة لمستوى القصر المطلوب وتصير قصة قصيرة ، لكن قصة تتناول تلك الأوجاع وهذه المشاعر وتفتلهما معاً باتقان ليصنعا ضفيرة من المعاناة والمشاعر والأحاسيس والآلام والأمنيات والجراحات والرغبات والسفر فى الزمان والمكان والذكريات ، لابد أن تطول وتمتد ، ولا كلمة ولا حتى حرف قابل هنا للحذف .
    أحبها بكل كيانه وأحبته وعاشا فى تفاصيل وشواغل ونظرات وحركات ونقوشات واهتمامات المحبين ، وجمعهما المكان أمام البحر ، فهل هناك ما يمنع لتكتمل القصة ويتوجان الحب الجميل بالزواج والعيش معاً وارواء الحب بماء العطاء والبذل والايثار ؟
    ما يمنع أنهما خلقا ليكمل أحدهما الآخر فى مهمة أكبر من مجرد اسعاد رجل وامرأة ، فهو مصرى وهى غزاوية ، وهى رحيمة حنونة قلبها رهيف وضعيفة ليس لديها ما يكفى من امكانيات ولا قدرات ذاتية لتحمل الأوجاع ومشاهد الدماء وحدها ، وهو قادر على العطاء يصمد فى مواقف ضعفها ويتحمل ما لا تتحمله هى ويقوى على خوض الأهوال ويبرع فى تجاوز الأزمات ، وما حدث فى غرفة العمليات يلخص حالة التكامل التى برع الكاتب فى صياغتها فى أكثر من مشهد .
    هى تحتاجه وتذكره وتحثه وهو غافل عن القضايا الكبيرة مستغرق فى رسم ملامح مستقبله الشخصى ووضع خطط لتحقيق أحلامه كما فعل زملاؤه العرب .
    فلسطين ضعيفة وحيدة تبدو أحياناً عاجزة قليلة الحيلة لا تقوى وحدها على مواجهة الأزمات والملمات ، تحن على أهلها وتشفق عليهم وقلبها يتمزق من معاناة أطفالها ، وهى دائماً فى حاجة الى محسن قريب منها يحبها يمتلك أدواته بقلب جسور ويد ماهرة وعقل فنان عبقرى مبتكر ويد حاسمة وأداء سريع .
    طالما قرأنا أشعاراً فى هوى فلسطين وفى حبها من عرب لا يجيدون الا الضرب على العود ، وشاهدنا مهرجانات الفنون يتردد فى فضاءاتها كلمات تقطر عذوبة فى عشق الحبيبة الأسيرة ، وجاءتهم تلك الحبيبة بشحمها ولحمها وجمالها وفتنتها وقلبها الموءود خوفاً وحرصاً على أهلها وأطفالها ، انسحبت برهة من أرض الحرب لتجالس هؤلاء العاشقين على مقاعدهم الخشبية الرومانسية أمام أمواج البحر ، لتنقلهم سريعاً الى خطوط المواجهة والنزف والجراحات تحت القصف ، فلا وقت هنالك للنظر للأمواج والأهل هناك غارقون فى المحن ، ولا صدق فى ألحان الحب اذا لم تؤدى فى قلب المعاناة ، نعيشها بكامل المعايشة والتورط فى النضال وبكامل الشجن .
    هى تحبه ربما أكثر من حبه لها لكن المعاناة فى قلبها أكبر ، وهى تعذره لأنه بعيد عما رأته وتراه فتعلمه الكلمات وتعوده المسئولية وترسم المنهج وتضع الأولويات وتؤكد على الأخلاقيات والمبادئ ، وتتركه وتطير ، وعندما يطير وراءها صارت القضية أوضح مما مضى وامتزج الحب بالحرب والمعاناة بالمشاعر ، حتى عندما أتاه خبر سفره خلفها نطق حنان أعقبه غزة !
    هذا هو الامتزاج المطلوب والتكامل المقدس ، فلا حب ومشاعر وعواطف تباع فى مهرجانات الشعر وحفلات الغناء وعلى خشبات المسارح ، ولا شعارات جوفاء ولا طمع وتقديم لمصالح فردية واشباع لنزوات وأهواء على حساب مصلحة وطن وأمة ، انما الحب هناك لمن أراد أن يثبت صدقه بالتضحية ومعايشة الألم ومعالجته ، فحنان هناك فى غزة والحب هناك وسط الدماء والأهوال والمعاناة .
    كانت أرقى وأدفأ مشاهد الحب بين محسن وحنان تلك وهما يصنعان المعجزات فى تخفيف الآلام ومعالجة المصابين وترميم ما تمزق من أجساد ، وكأنه باجتماعهما تلتئم الأمة وترمم الشروخ وتلتحم الشعوب بعد أن مزقت وفرقت بينهم الآلة الجهنمية الصهيونية العسكرية والاعلامية .
    الأمة تتفرج على معاناة الفلسطينيين وهى جالسة على مقاعد خشبية باردة ، وتكثر السهرات والحفلات وتنفق المليارات فى الصخب والرقص والضحك والشرب والبذخ والترف والأبهة والبنيان ، ولا مصداقية لأية كلمات تقال وشعارات ترفع اذا تغنى يوماً أحدهم فى حب فلسطين وهو بعيد عنها ، يدعى مجرد ادعاء بينما يتهرب من الفعل ومن العطاء ومن التضحية لأجلها هناك على أرضها ، والقضية أساسها التربية فالجيل الذى نشأ على النفعية والذاتية لا يعرف قيمة رد الجميل لفقراء أسهموا فى تعليمه ليصل الى ما وصل اليه من قيمة ومكانة ، وهو الجيل الذى يستخف بقضايا الأمة وهمه قضاياه وحكاياته وغرامياته ومغامراته العاطفية .
    طغت هذه الفكرة على النص كله بحيث صارت كأنها بطلة النص ، بل لحقت بحبكته ولونتها بلون المسئولية الصارم الذى يليق بفتاة قلبها ليس ملكها وحياتها وهبتها منذ نعومة أظفارها لوطنها وأرضها وتؤخر الذات والحاجات مهما تأججت العواطف واشتعلت المشاعر والتهب الحب .
    وعندما يذكرها برومانسية وشاعرية تأثرت بها لتعلقها وارتباطها به وحبها له ، تذكره بقسوة الواقع وهوله ، فلا مقاعد خشبية فى فلسطين انما محن وفتن وأحزان وقلوب فى قسوة الحجارة لا ترحم الناس ، ولا همسات عاشقين انما دوى مدافع وزخات رصاص .

  2. #2
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    قراءة أكثر من رائعة لعمل رائع ومتميز

    هذه القصة الحساسة للأديب الكبير
    د محمد فؤاد منصور
    هذه القصة لايدرك أبعادها ولا يحيط بأسرارها
    سوى قدير مثلكم
    أخي الكريم الأديب الكبير والناقد المبدع
    الأستاذ / هشام النجار

    لك تحياتي وشكري
    مع فائق تقديري واحترامي
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  3. #3
    الصورة الرمزية هشام النجار أديب
    تاريخ التسجيل : May 2013
    المشاركات : 959
    المواضيع : 359
    الردود : 959
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسام القاضي مشاهدة المشاركة
    قراءة أكثر من رائعة لعمل رائع ومتميز

    هذه القصة الحساسة للأديب الكبير
    د محمد فؤاد منصور
    هذه القصة لايدرك أبعادها ولا يحيط بأسرارها
    سوى قدير مثلكم
    أخي الكريم الأديب الكبير والناقد المبدع
    الأستاذ / هشام النجار

    لك تحياتي وشكري
    مع فائق تقديري واحترامي
    أكرمك الله وبارك الله فيك ورعاك أستاذنا الأديب المبدع الكبير حسام القاضى
    تقبل تحياتى وتقديرى
    نستنشق الادب النقى هنا
    شكرا لتلك الروعة

المواضيع المتشابهه

  1. حدثني المقعد الخشبي ..!
    بواسطة حسن سلامة في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 04-02-2024, 10:51 AM
  2. همسات المقعد الخشبي ( قصة قصيرة )
    بواسطة دكتور محمد فؤاد في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 23
    آخر مشاركة: 07-05-2015, 10:25 PM
  3. ترنيماتٌ نيلية ٌفى قصر ِ الرشيد...!!
    بواسطة عبدالوهاب موسى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 30-11-2011, 10:39 PM
  4. هديتي للإخوة الكرام : المسحراتي رائعة الشاعر الكبير فؤاد حداد
    بواسطة د. مصطفى عراقي في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 10-06-2008, 04:54 AM
  5. حديث المقعد
    بواسطة بن عمر غاني في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 11-11-2006, 05:54 PM