ما أقدم عليه الحسين رضى الله عنه واثقاً متجرداً حالة خاصة فريدة من نوعها لها دوافعها وخلفياتها التى تتعلق خاصة بالزمن وظروف المرحلة لتثبيت الخلافة الراشدة وصد محاولات الانحراف عنها الى وراثة الحكم والعصف بمبدأ الشورى ، لكنها محاولة بدون حسابات واقعية أو سياسية أو اعتبار لموازين القوى وأحوال الجغرافيا ومقتضيات المواجهات وطبائع البشر ودون حساب دقيق للتحديات أو اهتمام بالمقاييس والاعتبارات الأرضية والواقعية فيما يتعلق بالهزيمة والنصر . الحسين وآل بيته الكرام لم يفكروا فى نتيجة المواجهة وكان الهدف الوحيد لديهم هو التضحية من أجل ما يعتنقونه من مبدأ ويرون أنه الحق ، مهما كانت النتائج المترتبة على هذا الاقدام ، وهو ما يفسر وقوف اثنين وسبعين بطلاً وراء قائدهم العظيم أبى عبدالله الحسين فى مواجهة ذلك الجيش القوى المدرب بعدده وعتاده فى مواجهة غير متكافئة بالمرة ، بالنظر الى ما استحدثه معاوية رضى الله عنه من نظم ادارية وعسكرية متطورة على جيش الشام مستفيداً من ميراث الدولة البيزنطية ، وهو ما افتقده تيار الحسين الذى اعتمد فحسب على الايمان واليقين بالمبدأ . القضية عادلة ويزيد لا يصلح وحدث الاختلاف بشأنه خاصة وهو يتولى الحكم فى عصر لا يفصله عن عصر النبوة والوحى سوى سنوات معدودات وفى جيل رجال كبار أمثال عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس والحسن والحسين وعبدالله بن الزبير .. الخ . لكن هناك وجهة نظر أخرى معتبرة فى القضية وشخصيات بارزة رفضت صعود يزيد ، بينما شخصيات أخرى بارزة وذات كفاءة أيضاً كانوا على فريقين ؛ فريق ظل صامتاً وفريق جاهد فى اقناع الناس بقبول يزيد حاكماً لحقن الدماء واخماد الفتنة ، وعبدالله بن عباس رضى الله عنهما كان بمكة واجتمع الناس حوله ليسمعوا ما يقول بعد وفاة معاوية فقال " وان ابنه يزيد لمن صالحى أهله فالزموا مجالسكم واعطوا طاعتكم وبيعتكم " ، وعلى بن الحسين زين العابدين وعبدالله بن عمر ومحمد بن الحنفية رضى الله عنهم منعوا الناس من التمرد ، وكانت تلك وجهات نظر مبنية أيضاً على توجيهات نبوية بعدم الخوض فى صراع على السلطة وتوظيف طاقات الاصلاح فى ساحات البناء لا الهدم والانقسام ، لكن السواد الأعظم دخل معترك الصراع على السلطة بقوة مما أسفر عن مقتل شخصيات ذات مكانة عالية ومواهب عظيمة حرمت توظيفها فى ميادينها التى كانت فى أمس الحاجة اليها ، مثل الحسين وعبدالله بن الزبير وآخرون . هناك من يزعم أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن الأمة التى لا تتعلم من تاريخها لا تستحق العيش ولن تحقق نصراً ولا انجازاً ولا تقدماً وستظل مقيمة على الرؤى الأحادية بدون تقليب للأمور على جميع أوجهها وتفتيش عن الأساليب والخطط المناسبة للانعتاق والخلاص والنهضة ، وليس الهدف أن يظل الشعب سلبياً مشلولاً أمام الظلم ، بل لتربية الأمة على الايجابية بايجاد مسالك أخرى لتوظيف الطاقات فى أعمال اصلاحية جادة وتوجيه الطاقات بعيداً عن الصراعات ودوامات التخريب والتدمير وسفك الدماء . الحسين رضى الله عنه ومن بعده خرجوا " غضباً للدين وقياماً بالحق " – بحسب تعبير ابن العربى - ، لكن هناك من رأى نصرة الدين والحق من طريق آخر أكثر سلامة وضماناً بأداء المسئوليات فى مجالات عدة مما يحرم الخصم القاهر ذى القوة الباطشة من ايجاد المبررات الممتدة لتشويه صورة المعارضين أو اتهامهم بجرائم التخريب والعنف . وكذلك بالانشغال بتعليم الناس وايقاظ الوعى وتنفيذ خطط الاصلاح طويلة المدى فى صمت وتدرج وصبر ، وتلك خطة بديلة وليست مناهضة أو مناقضة لخطة الحسين فى مواجهة الباطل ، كما يتخيل البعض ، لكنها خطة محاطة بعوامل الأمان وبضمانات واقعية كثيرة تجعل أصحاب الحق يمتلكون قدرات أكبر واحترازات لعدم الوقوع فريسة سهلة فى فخاخ خصومهم . التجارب أثبتت من تجربة العام الأول للهجرة على وجه الخصوص أن الصدام مع النظام السياسى المسيطر الغالب بقوة باطشة مهما أخلصت النوايا يزيد الفتنة اشتعالاً ، كما يخلق مشاكل جديدة تجعل القضية أكثر تعقيداً ، وأن النوايا الطيبة والشجاعة وحدها لا تكفيان ، انما لابد من خطط استراتيجية مدروسة بعناية وتخطيط عالى الدقة يأخذ فى الاعتبار ضخامة التحديات وموازين القوى والتفكير فى المآلات قبل الانطلاق . وهذا يفسر ضآلة ما جنته الأمة من مكاسب وامتيازات وأرباح فعلية على أرض الواقع بالنظر الى حجم ما قدمته من تضحيات وملايين الشهداء على طول تاريخها ، ولو كان هذا الحجم من التضحيات لدى أمة أخرى من تلك التى تعلى من شأن التخطيط الاستراتيجى المدروس لملكت العالم وحكمته على مدار التاريخ بلا منازع .