تقولُ الأسطورة إن القديسة دُميانة قد بُعثت هى وأتباعها بعد الموت تحت وطأة تعذيب الطاغية دقيانوس وجنوده، بعدَ أن رفضت المساومة على إيمانها والعودة إلى الوثنية، ويقول الأديب الدكتور صلاح عدس فى ختام مسرحيته "البعث" التى وظف فيها هذه القصة للدعوة للثورة والخلاص: "سيهد الزلزالُ جدار الكهف، وسنخرج منه بلا خوف، فلنفرش كل الطرقات، طلقات.. طلقات رصاص، ليكون طريق الرب طريق خلاص، وإذا ما دق الباب فلنرفع صوتَ بنادقنا بالإنشاد.. الوطن الضائع عاد، الوطن الضائع عاد".
يقولُ الدكتور صلاح إن مسرحيته هذه تم نشرها على حين غفلة من هيئة الكتاب عام 2009م، وعندما اكتشفوا إسقاطاتها على الواقع السياسى اغتالوها ومحوها من الوجود، أما مسرحياته الشعرية التى كتبها فى السبعينيات ولم تُنشر إلا هذا العام مثل "أبو زيد الهلالى سلامة" و"مأساة المعتمد بن عباد"، فقد كان حسُ الرقيب المُخابراتى فى تلك الفترة أرْهف من حسه النقدى فرفض على الفور نشرها، وقالَ له – كما جاء على لسان الدكتور صلاح: "حطهم يا بنى تحت المخدة ونام، أصل لو اتنشروا هتتحبس"!
نامَ الأديب والمفكر صلاح عدس بعيداً عن صخب الأحداث فى عزلة إجبارية طوالَ عهود الاستبداد يُطالع فى كل المجالات، وهو من المشهورين بسعة اطلاعه على الفكر والفلسفة الأوروبية والأدب الغربى، ويؤلف ما يراه بعثاً للأمة من ضياعها وتخلفها وهزيمتها وانقسامها، وإنقاذاً لشبابها من مخطط السطحية والتفاهة والجهل وفقدان الحماسة والرؤية والهدف الذى تم إعداده وتنفيذه بمنهجية؛ فلم يكتفِ الدكتور صلاح بالأدب والمسرحيات ذات الإسقاطات السياسية الاحترافية، إنما خصص جانباً من جهده الفكرى فى إعادة كتابة التراث مُبسطاً ومختصراً ومركزاً بلغة عصرية يفهمها الشباب، وقد أحرزَ إنجازات فى هذا السياق فى إعادة تقديمه لصحيح البخارى وتفسير ابن كثير وكتاب "أسد الغابة".
تظهر مؤلفات صلاح عدس وتخرج للوجود بعدَ أن أعدمها الديكتاتور، وفى طياتها ذلك النمط الذى يخافه المستبدون والفاسدون، والذى يناهض مظاهر ورموز القبح والتخلف.
يُبعث صلاح عدس وأدبه ليفضح كتيبة المشهورين حملة المباخر، الذين لمعهم الطاغية ليجعلوا من الفن والفكر والأدب مجرد سلعة تعكس رؤية الحاكم، وليتمايز المثقف الحُر عن هؤلاء العبيد ممن خانوا الشعوب وتآمروا على ثوراتهم وخانوا الدماء المسفوحة وما زالوا يدافعون عن الطاغية وعهده الذى انتعشت فيه أطماعهم وانتفخت أرصدتهم فى مقابل تغييب الوعى وترسيخ أقدام الظلم والعنصرية.
تكررَ هذا البعث كثيراً بسيناريوهات مختلفة، وكان أدولف هتلر قد دجن الثقافة وحددَ للمدجنين الإطار، وبنفس العقلية التى تعامل بها مبارك ومن سبقه مع المثقفين الإسلاميين، فقد اعتبر هتلر أن ما حدده فقط هو الصحيح، وهو الذى ينتمى حقاً للفن والفكر الألمانى، وما دونه فلا ينتمى إلى العرق الآرى.
وفى المقابل، حكمَ النازيون على النمط الآخر من الفكر بأنه "منحط"، تماماً كما كان يفعل محتكرو الثقافة معنا عندما يربطون بيننا وبين الظلامية والأمية الثقافية.
اليومَ تتحرر الثقافة من هذا الأسْر المَقيت ويستعيد الشرفاء الوطنيون حريتهم، وتُعرض الكتب واللوحات والأفلام التى كانت محظورة فى الحقبة النازية فى نفس القاعات الكبرى التى كانت مخصصة لما أُطلق عليه "الفن الألمانى"، وهو لا يعبر عن الفن والتنوع الألمانى إنما فقط يعبر عن أيديولوجية الحاكم ويخدم أهدافه، لذلك بدت اليوم بائسة كأنها خارج الزمن.
وكذلك كثير من أعمال البائسين المدجنين المصريين تبدو كذلك، وهى التى اعتبروها - كاذبين مخادعين - المعبر الحصْرى عن الهوية الحضارية المصرية.
هى مناسبة تستحق الاحتفال والفرح؛ ففكر وأدب التبعية وترويج الرذيلة وخدمة الفساد والأفكار السطحية واللغة المتدنية والجرأة على الثوابت والابتذال الرخيص يسقط أثرَ سقوط الطاغية الذى كان يحميها، فيمَ يُبعث من جديد الأدب الحُر مع استعادة الشعوب لحريتها.
"فلنرفع صوتَ بنادقنا بالإنشاد.. الوطنُ الضائع عاد، الوطنُ الضائع عاد".