لا أنسى هذا اللقاء الذى جمعنى بآخر أشقاء الشيخ حسن البنا رحمه الله الكاتب المثير للجدل الأستاذ جمال البنا فى مقر مؤسسته الثقافية بالقاهرة ، فقد ذهبت اليه لأناقشه فى قضية الجدل المثار حول مسلسل الجماعة على خلفية الرغبة فى معرفة رأيه الشخصى ورده على ما ورد بالمسلسل من وقائع كونه شاهد على الأحداث ، وكونه شقيق الشيخ البنا ومن يمتلك حق الدفاع القانونى عن أخيه .
وبغض النظر عن اختلافنا مع آراء وكثير من اجتهادات الأستاذ جمال المثيرة للجدل وأسلوب وتوقيت طرحها ، الا أن الرجل رحمه الله كان شخصية لطيفة مهذبة متواضعة لأبعد الحدود ويجيد الحوار ويحترم أصوله ، وهو أيضاً شخصية كريمة ، فقد أهدانا بعد الحوار المطول والنقاش المثير مجموعة كتب نادرة بعنوان " الوثائق السرية للاخوان " وكتاب آخر نادر ألفته شقيقة الشيخ حسن البنا .. الراحلة الحاجة فوزية البنا رحمها الله .
والسيدة فوزية البنا شقيقة الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين رحمه الله .. يقول عنها شقيقها الأستاذ جمال البنا في مقدمة هذا الكتاب الجميل الذي تستعرض فيه بعض ذكرياتها:

" أمضت السيدة فوزية البنا حياتها في التربية والتعليم.. وجادت بثروتها للدعوة الإسلامية .. وكانت قوامة صوامة مكافحة " .

ونتجاوز هنا المقدمة الطويلة التي كتبها الأستاذ جمال التي وصف فيها علاقته بشقيقته التي فارقت الحياة في أكتوبر عام 1997م .. والتي وصف فيها إيمانها وورعها وإحسانها العظيم .

حتى أنها تبرعت ببيتها الكبير ( مساحته 1000 مترا ً مربعا ً ) في المدينة المنورة.. والذي يرتفع أربعة أدوار .. غير الدور الأرضي لجمعية تحفيظ القرآن بالمدينة .

وكيف ساهمت بالنصيب الأوفر في تمويل مشروع مؤسسة "فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي "

وكيف توفيت بعد معاناة شديدة مع المرض بعد وفاة زوجها الأستاذ عبد الكريم منصور المحامى " الذي أصيب مع الأستاذ حسن البنا في حادث الاغتيال الشهير " .

لنتجاوز هذه المقدمة – على أهميتها – ولنعد مع السيدة فوزية رحمها الله إلى البدايات الأولى .. ولنقف مع هذه الذكريات على مواضع الدروس الجميلة الراقية والإشارات التربوية المضيئة التي تخللت رحلة حياتها الثرية.

تلك الرحلة التي تأثرت بشكل كبير بأخيها الشهيد وبتاريخه وبمحنة اغتياله على وجه الخصوص .

قراءة هذا الكتاب الجميل تتيح لنا التعرف على شخصية موهوبة في عقلها.. وموهوبة في أخلاقها .. ومطبوعة على الصدق والإخلاص والوفاء وعمل الخير وبذل المعروف .

إنها امرأة عريقة في إيمانها الطبيعي الفطري الأصيل .. وعريقة في مصريتها وحبها لوطنها .. ونموذج راقي للمرأة في تحملها للصعاب والمحن ووقوفها إلى جانب زوجها في أصعب اللحظات والمواقف .

لن نستطيع سرد كل التفاصيل المشوقة.. لكن تعالوا بنا سريعا ًنقف على بعض محطاته التربوية والإنسانية الراقية.

بائع البليلة

كان الوالد يأخذنا معه صباحا ً إلى أن يوصلنا إلى المدرسة ويأخذ بأيدينا.. وكان – رحمه الله – يضغط على يدي برفق وحنان ..ويقول: " مدى شوية يا فوزية " .

وكنا نرى بائع البليلة والدخان خارج منها في الشتاء.. فكنا نشتهيها .. فنطلب منه أن نأكل بليلة.. فكان يشترى لنا ويقف ينظر إلينا ونحن نأكل.. وفى عينيه لمعة حب وحنان .

اقرئي .. وسمعينى

وقضيت الأربع سنوات وسني تقريبا ً 10 سنوات.. فلم أقبل في المرحلة التي بعد الأولية وبعدها معهد المعلمات.

فأشارت إحدى المدارس على الوالدة – رحمها الله – أن يعتبروني راسبة وأن أعيد السنة.. إلا أن الوالد – رحمه الله – رفض وجمع بعض الكتب والجرائد .. وقال لي : "اقرئي .. وسمعينى" .. فقرأت قراءة جيدة وصحيحة .. فقال البنت تعلمت القراءة وتمكنت من قراءة القرآن والحديث الشريف .

وأوصاني بكثرة قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف والكتب الدينية.. وكان من آن لآخر يناقشني فيما قرأت .. ويقول هل قرأت في المسند .. وكنت أحيانا ً أسأله إذا التبس علىَّ فهم شيء أو حتى كلمة أو آية كريمة .

صوانى البطاطس

وأذكر مرة اجتمعت جميع شعب الإخوان من المحافظات .. وكانت إمكانية الجمعية لا تسمح بالحجز في الفنادق .. وكان نصيبنا استضافة العدد الأكبر لأننا كنا نعمل أكل كثير وأصناف متعددة.

وفى يوم عملنا صوانى بطاطس وكان لابد أن أشارك أنا والشقيق الأستاذ جمال في قضاء بعض الطلبات.. فأخذنا صنيتين بطاطس وذهبنا إلى الفرن.. وبعد أن تم نضجهما أخذناهما.. وفى الطريق شعرنا بسخونة الصوانى ولم نستطع تحمل السخونة فاهتزت الصنية في يد جمال وسقطت على الأرض.

أما أنا فوجدت رجلا ً جالسا ً على باب دكانه .. وبسرعة وضعت الصنية في حجره إلى أن بردت .. وذهبنا إلى المنزل ولم يبق من صنية جمال إلا جزء ً قليلا ً من البطاطس .

زيارة للهرم

وأذكر مرة سمعنا أنهم سيذهبون إلى الهرم.. فطلبنا من الشقيق عبد الباسط – رحمه الله – أن يأخذنا معهم أنا وجمال .

وفعلا أخذنا وكنا نسير في المقدمة تحت العلم .. وكان الشقيق عبد الباسط يقف أمام المقاهي والأماكن المزدحمة ويهتف بأعلى صوته : " الله أكبر .. ولله الحمد .. جمعيات الإخوان المسلمين بالقطر المصري تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ".. ويتكلم عن الدعوة .. وكان يرتدى ملابس الجوالة .

يعنى إيه رجعى ؟

في يوم سمعت الشقيق الأستاذ جمال يقول للشقيق الأستاذ محمد رحمه الله : "الحاج عبد الكريم كل يوم يكلمني ويسأل عن الموضوع الذي كلمك عليه".

فيقول له الأستاذ محمد "مش موافقين" .. وأنا لا أدرى على أي شيء يتكلمان.

ولكن الأستاذ جمال أخبرني أن رجلا ً تقدم لخطبتي.. وتخيلت أن الحاج هذا رجل عجوز .. ولكن الشقيق الأستاذ جمال أخبرني أنه شاب ولكنه رجعى.

فقلت له : "يعنى إيه رجعى ؟".

قال : "إنه متمسك بالدين ومتشدد".

فقلت له: "طيب ده كويس" .

وتقدم خاطب آخر من عائلة ثرية وكان الولد الوحيد لأبيه ودلوعة .. وعندما خيروني اخترت الرجل الذي قالوا إنه رجعى ويكبرني بحوالي 12 سنة .. ورفضت الشاب الدلوعة الوسيم .

المصيدة

صدر قرار حل جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر سنة 1948م وبدأت حملة الاعتقالات بالجملة .. وأول المعتقلين من العائلة كان الشقيقان جمال والأستاذ عبد الرحمن – رحمه الله – وقد تم اعتقالهما في ليلة الحل .. وبعدهما اعتقل الأستاذ محمد وعبد الباسط – رحمهما الله – وسحبوا السلاح المرخص من الإمام الشهيد وقطعوا التليفون .

وانتشر المخبرون حول المنزل لاعتقال كل من يزوره.. فاتصل بالمسئولين وقال لهم : "أنتم عاملني مصيدة لتعتقلوا كل من يحاول زيارتي .. اعتقلوني أنا" .

إحساس الأم

وفى يوم وأنا جالسة مع والدتي – رحمها الله – قالت : " تعرفى يا فوزية هم سايبين أخوكى ليه ؟ .. علشان يقتلوه ويعتقلوا كل من يحضر العزاء".

وفعلا هذا حصل.. فقد حاصر البوليس القصر العيني ومحطات السكة الحديد .. وفى هذه الليلة المشئومة تم اعتقال المئات من الإخوان .

الأعمار بيد الله

حضر إلى منزل الإمام الشهيد شخص لا يعرفه.. وقال له : "أنت على موعد مع زكى على باشا بعد المغرب .. لتسوية الأمور في جمعية الشبان المسلمين " .

وقال له عبد الكريم :" بلاش تروح دول لازم مدبرين شيء"

فقال : "خليك أنت.. أما أنا لازم أروح وأشوف حل للناس المعتقلين في السجون .. ويعنى حيعملوا في َّ إيه .. يقتلوني .. الأعمار بيد الله" .

أسعفوا عبد الكريم .. أنا كويس

لاحظ عبد الكريم أن الشارع مظلم.. فقال له : "الدنيا ضلمة ليه مع أن الساعة لسه ثمانية".

فقال له الشيخ حسن البنا : "يا راجل الشارع نور والدنيا نور" .

أطفأوا نور الشارع وحولوا المرور إلى جهة أخرى .. ولم يكن هناك إلا تاكسي واحد.. فلما رآهم السائق على باب الجمعية ينتظرون تاكسي تحرك ، فأشار إليه.. وعندما ركبا اتجه إلى التاكسي شخصان وأطلقا عليهما الرصاص .. ونزل السائق تحت المقعد .. فقد كان متفق معه على ذلك.

وبعد أن فر الجناة قام السائق وذهب بهم إلى الإسعاف.. وفى الإسعاف طلبا أن يذهبا إلى مستشفى خاص.. فرفض الإسعاف وحولوهما إلى القصر العيني.

وكان الإمام الشهيد يقول للأطباء أسعفوا عبد الكريم الأول أنا كويس.

وعبد الكريم يقول : أسعفوا الأستاذ الأول.. ولكنهم نفذوا غرضهم ، وأذيع خبر الوفاة في الساعة الحادية عشر.. وتركوا عبد الكريم ينزف .

عقبالك يا ابن ناظلة

وخرجت الجنازة من المنزل وحولها العساكر والضباط مسلحين .. ولم يكن فيها رجال سوى الوالد.. والباقي والدته وزوجته وأولاده الصغار وشقيقتي وأنا .

والنساء من عادتهن النواح والندب .. ولكننا كنا نصرخ بالدعاء .

فكانت شقيقتي تقول : " عقبالك يا ابن ناظلة ".

وأنا أقول : " شهيد الإسلام يا بنا ، ضحية الظلم والعدوان يا بنا ".

إلى أن وصلنا إلى مسجد قيسون.. صلى عليه الوالد – رحمه الله – وكانت أمام المسجد سيارة نقل الموتى وبعض التاكسيات .. وبعد الصلاة وضعوا النعش في السيارة الكبيرة ومعه الوالد والوالدة – رحمهما الله – وركب الباقي في التاكسيات.. ورأينا العربات المصفحة واقفة على جانبي الطريق .. إلى أن وصلنا إلى المقبرة بالإمام الشافعي.. ولم يتركوه الضباط ونزلوا معه إلى داخل المدفن .. وتركوا عددا ً كبيرا ً من العساكر على باب المدفن لمراقبة من يذهب لزيارته واعتقاله .. وفى المساء لم يحضر للعزاء سوى مكرم باشا عبيد .

الزائر

كان كل يوم خميس يحضر ضابط مباحث ويسأل عن عبد الكريم ويقابله ،ويقول له سلامتك بنحب نطمن عليك.. والحقيقة أنه كان ينوى اعتقاله لو وجد أنه قد فك الجبس.

وبعد عودتنا إلى المنزل كنا نذهب لعيادة الدكتور المنيسى فيفك الجبس وينظف الجرح من الصديد ويلف له جبس آخر إلى أن جف الجرح الداخلي وقال خلاص ما في لزوم للجبس .

فقلت له أرجوك يا دكتور لا تفك الجبس لأنهم سيعتقلوه لو فك الجبس ، وحضرتك شايف أنه ضعيف لا يتحمل الاعتقال.

والله أعلم ربما كان هذا الضابط الزائر متعاطفا معنا وقد رق قلبه لحالنا ، فكان ينظر إليه ويبتسم.. ويقول له: سلامتك وينصرف .

مكتب المحامى

وحضر الإخوان من الصعيد ومن بحري ليروا عبد الكريم.. الرجل الذي امتزج دمه بدم الإمام الشهيد حسن البنا .. وبعضهم عندهم قضايا وطالبوه بالدفاع عنهم فيها وقدم أتعاب لا بأس بها.. مما شجعنا على فتح مكتب في شارع الأزهر ومعه السكن .. وجهزنا المكتب بالأثاث اللائق.

واتبعنا طريقة التعامل مع الموكلين ، فكان أحدهم نجارا ً فنأخذ جزء من الأتعاب ويعمل لنا بعض الأثاث.. والثاني منجد.. وهكذا النجار يقوم بنجارة الكراسي والمنجد يعمل لها التنجيد والكسوة ، وبائع الثلاجات نأخذ منه أدوات كهربائية بأتعاب القضية .

وهكذا إلى أن جهزنا المكتب بالأثاث المناسب وعشنا هذه الفترة الأولى عيشة التقشف.. لأننا كنا نترك معظم الأتعاب للأثاث ونعيش بالقليل.. وكنا سعداء وأصبح بالمكتب عدد من المحامين تحت التمرين ، وكان المكتب ناجحا ً جدا ً .

ونسيت نفسي

بدأت صحتي في التدهور بعد أن قرر الأطباء أن زوجي – رحمه الله – مصاب بتليف في الكبد ويلزمه الراحة التامة .. وكنت أذهب معه إلى معامل التحليل والأشعة ومراجعة الأطباء وقمت برعايته وتنفيذ تعليمات الطبيب.. وكنت أقدم له الطعام في السرير.

ونسيت نفسي وأهملت غذائي.. وبدأت أشعر بالتعب في صدري وبصوت خفيف يشبه الزمارة.. ومن أول يوم للعلاج ساءت حالتي ومكثت في العناية المركزة عشرة أيام ..منها 7 أيام وأنا في الغيبوبة .

وأفقت من الغيبوبة وعدت إلى البيت ..وظل زوجي يغالب المرض وأنا أقوم بخدمته ورعايته.. وكنت أشعر بالتعب .. ولكنى أتظاهر أمامه أنى نشيطة وصحتي جيدة .

ولكنه كثيرا ً ما كان يقول : "أنا تعبتك سامحيني".. إلى أن توفى رحمه الله .

أنا جعانة .. عايزة أشرب

وخرجت من المستشفى وأقمت في منزل بنت شقيقتي – رحمها الله – وكنت أشعر بعدم التوازن .. وأحيانا لا أعرف الأشخاص ورفضت الأكل والشرب .

إلى أن جاء يوم لم أشعر إلا وأنا في المستشفى العسكري.. وأول ما انتبهت قلت: "أنا جعانة.. عايزة أشرب" ، وكان وقت الفجر تقريبا ً .. وكانت ترافقني بنت أختي.. فجاءت بسرعة وسمعتها تقول : "خالتي أنت أتكلمت ؟"

فقلت لها : " عطشانة وهو إحنا فين يا أميمة" ؟

فقالت : "في المستشفى يا خالتي" .

فقلت : "ليه ؟.. فيه إيه ؟"

فقالت : "أنت لك 13 يوم في غيبوبة" .

وعندما حضر الدكتور اندهش وقال : "كيف تكلمت ؟".. وكان قد فقد الأمل .