أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: قراءة معمقة لقصيدة ( تعالي وحطي على كلكلي

  1. #1
    الصورة الرمزية عبد اللطيف السباعي شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 280
    المواضيع : 52
    الردود : 280
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي قراءة معمقة لقصيدة ( تعالي وحطي على كلكلي


    قراءة معمقة لقصيدة..
    ( تعالي وحطي على كلكلي )


    للشاعر عبد اللطيف السباعي (غسري)
    بقلم الأستاذ أيوب صابر


    أرَاكِ فأسْكُبُنِـي مِـنْ عَــلِ
    كشَـلاَّلِ خاطِـرَةٍ سَلـسَـلِ

    وَتَسَّاقطُ الذكرَيَاتُ الحيَـارَى
    رذاذًا بقـارعَـةِ الـجَـدْوَلِ

    أرَاكِ فأظعَـنُ مُسْتوْحِـشًـا
    على صهـوة ِ القلـقِ الأوَّل

    وَيَحْمِلنِي القُرْبُ فِي راحَتَيْـهِ
    إلى زَمَـنٍ ضَامِـرِ الهَيْكَـلِ

    تَعَـوَّدَ أنْ يَسْتقِـلَّ اللـظـى
    ركَابًا وَيَمْتـارَ مَـنْ حَنْظَـلِ

    تَوَغَّلَ غَرْبًا وألْقَـى الغِيـابُ
    نِصَالاً أصَابَتْـهُ فِـي مَقْتَـلِ

    إذا بريـاحِ المَـدَى أخْتَلِـي
    أشِفُّ وَمَتْنَ الضَّنَـى أعْتَلِـي

    على الطرُقُاتِ أتِيهُ احْتِرَاقًـا
    وهَلْ غَلَيَـانٌ بِـلا مِرْجَـلِ؟

    وَيغْتسِلُ الجَمْرُ مِن ماءِ حَرْفِي
    وَمِن وَدْقِ قافِيَتِـي المُنْـزَلِ

    غَزَلْتُ رداءَ الحِكاياتِ حتَّـى
    تَوَعَّدَنِـي ضَجَـرُ المِـغْـزَلِ

    وهـذَا الفـؤادُ فـلاةٌ بَـرَاحٌ
    بهَا غَيرُ خيْلِكِ لـمْ تصْهَـلِ

    ألمْ يَخْتبِرْ فِيكِ غَيْظَ المَرَايَـا
    وَمَوْجِدَةَ الكأسِ والمِشْعَـلِ؟

    ألمْ يَغْفُ فِيكِ؟ ألـمْ يَلْتَحَـفْ
    بِثَـوْبِ نَضَارَتِـكِ المُخْمَـلِ؟

    ولولا شُموعٌ بِكَفَّـيَّ يَقْظَـى
    أفَـاقَ قليـلاً ولـمْ يَعْجَـلِ

    فإنْ تسْألِي كَيفَ يَذوِي الرَّبيعُ
    يُنَبِّئْكِ صَيْـفٌ، وَإنْ تسْألِـي

    لِماذا هَوَتْ لَبِنَـاتُ الأمانِـي
    تُخَبِّـرْكِ ذاكِـرِةُ المِـعْـوَلِ

    وها أنتِ في نَزَقِ الياسَمِيـن
    تعودِيـنَ بالعَبَـقِ الأكْـمَـلِ

    إلَـيَّ فَعُـودِي وَأَلْقِـي إلَـيَّ
    بأجْنِحَـةِ الخَبَـرِ المُهْـمَـلِ

    ألـمْ تعْلمِـي أنَّ يَوْمِـي إذا
    توَارَيْتِ فِي لَهَبٍ يَصْطلِـي؟

    إليكِـ أَقُبَّـرَةَ القلبِـ أهـفُـو
    تعالَيْ وَحُطِّي على كَلْكَلِـي!

    تعالوا معي نحاول سبر أغوار هذه القصيدة الرومانسية الملتهبة جمالا ومشاعر نستخرج منها ما نستطيع من حلي وجواهر رغم صعوبة بعض المعاني والتعقيد الذي يشوب الصور الشعرية التي تطفح فيها القصيدة.

    أرَاكِ فأسْكُبُنِـي مِـنْ عَـل
    شَـلاَّلِ خاطِـرَةٍ سَلـسَـلِ
    وَتَسَّاقطُ الكلِمَـاتُ الحيَـارَى
    رذاذًا بقـارعَـةِ الـجَـدْوَلِ

    يقول الشاعر عبد اللطيف غسري في مستهل إنشاده ومطلع قصيدته الجميلة هذه، والتي يوضح لنا عنوانها بأنها قصيدة غرام وعشق لامرأة بالغة الحسن والجمال أحبها الشاعر وهو يخاطبها وكأنها تنأى عنه...إذ يقول لها مناديا " تعالي وحطي على كلكلي" وهو ما يشير إلى نوع من الجفاء في العلاقة بينهما أو ربما تمنع وبُعد وتدلل، وقد يكون عشق من طرف واحد مما ألهب مشاعر الشاعر وجعله يصدح بهذه القصيدة الجميلة في لحظة عشق ملتهبة أو ربما حينما كان يجلس وحيدا في صومعته يستذكر ذلك الحسن الخلاب الذي سلب لبه يصدح بهذه القصيدة وربما شعره كله.

    ويبدأ الشاعر قصيدته بقوله، أي حبيبه اعلمي أنني حينما أراك انسكب قولا وشعرا وخاطرة تملؤها المشاعر ويكون ذلك الانسكاب قويا بقوة الشلال المنسكب بسلاسة وانهمار من مكان عالي، وهذا المطلع إنما يشير إلى أن الجميلة تلك هي ملهمة الشاعر فيما يكتب من أشعار تتدفق من خاطره مثل الشلال المنهمر بسلاسة من مكان عالي.

    وهو إذ يراها يصاب بالدهشة ويتلعثم ويحتار فتخرج الكلمات منه وهو لا يعرف ماذا يقول وربما من شدة الحسن والجمال والدلال الذي يراه الشاعر فيحدث زلزلة في كيانه فيتلعثم لسانه ويحتار بما يقول فتخرج الكلمات وهي حائرة بدورها ماذا تصف أو تقول في حرم ذلك الجمال الخلاب. تلك الكلمات تخرج من فاه الشاعر وكأنها رذاذ الماء الذي يسقط على قارعة الجدول أي جوانب الجدول.

    وهي صورة أخرى بالغة الجمال ففي الأولى يقارن الشاعر ولادة القصائد والخواطر التي تتداعى إذا ما رأى تلك الجميلة وكأنها شلال يسقط من علي كما يقارن في الصورة الثانية كلماته برذاذ الماء الذي يتطاير في جوانب الجدول عندما يسقط فيه ماء الشلال.

    تخيل معي أيها المتلقي الكريم ما أجمل هذا التصوير ونحن ما نزال على أعتاب القصيدة!!!

    لقد قرأت هنا ما يكفي من الجمال والقول البديع لكي اقف واصفق للشاعر بحرارة.

    أرَاكِ فأظعَـنُ مُسْتوْحِـشًـا
    علـى صَهْـوَةِ القلـقِ الأوَّل

    ثم يعود الشاعر في هذا البيت ليؤكد من جديد على أن رؤية حبيبته يعيد تشكيل تركيبة خلاياه وحمضه النووي his molecules structure، ويحدث زلزلة غير مسبوقة في ثنايا دماغه هذه المرة، وكأنه يصاب بالذهول والهذيان، طبعا من وقع تلك الرؤيا – المشاهدة- عليه ومن شدة حسن تلك الحبيبة، فبدلا من الذهاب إليها والاقتراب منها عند رؤيتها يرتحل وهو يشعر بوحشة شديدة، فيرتحل وهو مهووس بجمالها، ويتيه فاقدا الإحساس بالزمان والمكان كمن تلقى ضربة على رأسه.

    والمهم هو كيف يكون ارتحال هذا الشاعر العاشق المذهول؟ انه يمتطي هودج ( صهوة ) القلق الأول!!! وكأن الشاعر هنا يشخص القلق فيجعله حصانا عربيا أصيلا- ترتيبه الأول بين الأحصنة- يمتطيه إذ يركب صهوته او هودجه ليرتحل إذ يراها تائها في ارض الله الواسعة.
    ولكن لا بد من القول بأن هذا البيت يحتمل معنا آخر ربما وهو أنه وحين يرى حبيبته يشعر بقلق ووحشة وتيه وغربة وذهول ودهشة كتلك التي استشعرها الشاعر في أول لقاء حب له ...ومبرر هذا المعنى هو استخدام كلمة " الأول" إلا إذا كان الشاعر قد استخدم الكلمة لزوم القافية ربما!؟

    وقبل أن نغادر هذا البيت لا بد من ذكر أن سر الجمال في هذا البيت يأتي من عدة جوانب من التصوير والتشخيص أولا، ومن ثم من تلك الحركة التي توحي بها استخدام كلمة ( الظعن أي الارتحال )، ثم من ذكر الخيل وركوب الخيل او الجمل( الصهوة او الهودج )، ثم هناك استنفار للحواس من خلال استخدام كلمة (أراك) وأيضا من خلال استخدام كلمات تستثير المشاعر وهي كلمتي (مستوحش وقلق) وبذلك يتمكن الشاعر من نقل مشاعره لنا ويقحمنا بما يشعر به وينقلنا لنعيش ذلك الجو الملتهب الذي يعيشه لحظة رؤيته لحبيبته وكأننا هناك نسمع ونرى نحن أيضا فنقلق ونرتحل معه مستوحشين تاهين مذهولين إلى اللامكان.

    ولا شك ان هذا البيت يحتوى في ثناياه من الجمال الكثير ....وندر مثله وربما ما يزال يحتاج لمزيد من الشرح والتفسير لسبر اغواره!

    وَيَحْمِلنِي القُرْبُ فِي راحَتَيْـهِ
    إلى زَمَـنٍ ضَامِـرِ الهَيْكَـلِ

    في البيت السابق وصف لما يحدث للشاعر أذا ما رأى حبيبتيه مجرد رؤيتها! وهو في هذا البيت الذي يليه يصف ما يحدث له إذا ما اقترب منها، ولم يقتصر التواصل بينهما على النظر والرؤية فقط.

    فيقول الشاعر هنا..عندما اقترب منك، أي حبيبية، يحملني القرب، وهو هنا يشخصن -القرب- فيجعله وكأنه إنسان يحمله على راحتيه أو ربما هي ريح عاتية قوية تحمله إلى أين؟؟؟؟ إلى زمن ضامر الهيكل!!! أي إن ذلك القرب يجعله يتذكر تلك الأيام وذلك الزمن الذي كان هو فيه متعلق جدا بحبيبته عاشق لها ولهان إلى حد الهذيان وهي بعيدة عنه وبسبب ذلك البعد...إلى حد انه كان يمتنع لا إراديا عن الأكل والشرب وكنتيجة لشغفه بها وشدة حبه وتعلقه وهيامه بها...حاله حال العاشقين جميعا..وإلى حد انه كان قد أصابه النحول فأصبح ضامر الهيكل...

    ولكن ذلك الضمور لم يصبه هو فقط وإنما امتد ليصيب أشياؤه كلها وحتى الزمن الذي شهد تلك المشاعر الملتهبة، فأصبح الزمن بدوره ضامر الهيكل مثله تماما...وهو تعبير وتصوير بالغ الجمال والعمق يصف ويصور ما يصيب الشاعر إذا ما وقع في الحب والغرام وقد تمنعت الحبيبة ونأت بنفسها عنه فيصيبه النحول والضمور...

    وفي ذلك شخصنه للزمن أيضا وكأن الزمن الذي شهد حبه لها تحول إلى إنسان ضامر الهيكل هو أيضا إذ تأثر بتلك المشاعر الملتهبة وذلك الألم النابع من بعد الحبيبة.

    وفي البيت حركة نستشفها من استخدام كلمة (يحملني) وهي من المحسنات التي تجمل الفن وتجعله أعظم أثرا على نفس وعقل وقلب المتلقي...كما أننا نستشف الصراع الذي كان يعانيه الشاعر في حبه وهو عنصر آخر من عناصر الجمال التي تجعل النصوص حية بالغة الأثر في نفس المتلقي...ولا ننسى التضاد بين القرب والبعد الذي نستشفه من المعنى وهو الاكثر تأثيرا على ذهن المتلقي... ولا شك ان جميعها عناصر جمال تجعل من هذا البيت بالغ الاثر.

  2. #2
    الصورة الرمزية عبد اللطيف السباعي شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 280
    المواضيع : 52
    الردود : 280
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي


    تَعَـوَّدَ أنْ يَسْتقِـلَّ اللـظـى
    ركَابًا وَيَمْتـارَ مَـنْ حَنْظَـلِ

    هنا في هذا البيت نجد عبقرية فذة وقدرة اعجازية في الصياغة باستخدام كلمة (تَعَـوَّد) فهي من ناحية تَعُودُ على الزمن، ونحن نعرف أن الشاعر كان قد وحد بين نفسه وبين الزمن في صفة النحول، فكلاهما أصبح ضامر الهيكل من شدة الحب حينما كان الشاعر بعيد عن الحبيبية، ولذلك يمكن أن نستشف من المعنى أن الشاعر يقصد في وصفه هذا أن جسده هو الذي تعود أن يستقل اللظى، أي يركب المخاطر أو النار الحامية التي لا دخان فيها وهي شديدة الاحتراق، واللظى هي النار الملتهبة والمتلهفة والتي تجذب أي شيء لأكلهوحرقه (كلا إنها لظى)، وفي هذا تشخيص آخر شبه الشاعر فيه اللظى، أي النار أو حالة الاحتراق التي كان يشعر بها، وكأنها فرس أو ناقة يستقلها ويسافر بها...

    إذ يقول الشاعر بأن جسده وأثناء ذلك الزمن الذي كان يعيش فيه بشوق عنيف لحبيبته يصل إلى حد الاحتراق، لأنها كانت تنأى عنه وتبتعد، كان يستقل اللظى فرسا يسافر فوق صهوتها ربما عبر الفلا والبراح والصحاري الشاسعة في تيه كبير، وهي كناية عن شدة الشوق والحرمان الحارق الذي يكاد يصل لان يكون أشبه بالنار الملتهبة شديدة الاحتراق، ذلك الشعور ساهم لا شك في ضمور جسده أيضا.

    ولم تكن حالة الضياع والاحتراق تلك التي اعتادها الجسد أثناء غيابه عن الحبيبية هي السبب الوحيد في ضمور جسده كما نعلم، بل انه الحنظل الذي تَعْوَدَ ذلك الجسد أيضا على تناوله كطعام، وربما أراد الشاعر هنا أن يقول بأن النزر القليل من الطعام والشراب الذي كان يتناوله في شروده وتيهه وسفره إلى اللامكان وهو يعاني من حالة الهذيان تلك كان مذاقه الحنظل وذلك بسبب بعد الحبيبية وصدودها، فكان جسده يحترق في لظى الحب ويصطلي بنار البعد من ناحية ، بينما كان مذاق ما يأكل ( يمتار ) بطعم الحنظل كنتيجة حتمية لتلك الحالة من الشرود التي أصابته.

    وهنا أيضا نجد أن الشاعر قد ضمن هذا البيت مزيد من الحركة توحي بها كلمات (يستقل و ركابا) وكأننا نحس دبيب الخيل ومشقة السفر، ونكاد نستشعر حرارة الحب الحارقة من خلال استخدام الشاعر لكلمة (اللظى) فهي كلمة توقظ في الذهن موروث ثقافي مؤثر جدا يُذّكرُ بأشد حالة من حالات العذاب بواسطة الاحتراق وهي لفظة توقظ فينا حاسة اللمس بعنف شديد...كما أن كلمة (حنظل) تستفز في المتلقي حاسة الذوق....وقد نجح الشاعر من جديد في اسر لب المتلقي بهذه الصناعة الشعرية المتفوقة والباهرة من خلال تسخير الحركة والحواس والتصوير الجميل والبليغ...فظل المتلقي مدفوعا ليقف على رؤؤس أصابع قدميه يتابع من يجرى باهتمام شديد ويحاول معرفة ما حصل ويحصل للشاعر وقد استُنفِرت حواسه بكامل طاقتها...وكأن في فمه طعم الحنظل وتلفح جلده نار حامية تَصْلي جلده.

    تَوَغَّلَ غَرْبًا وألْقَـى الغِيـابُ
    نِصَالاً أصَابَتْـهُ فِـي مَقْتَـلِ

    ويستمر الشاعر هنا في وصف حاله وهو يعاني من بُعد الحبيب وصدوده...فهو يمتطي صهوة القلق ويسافر مستوحشا وهو يَهذي ويستقل اللظى فيحترق بنار الحب والهجران ويأكل الحنظل فلا طعم لحياته بل هي بطعم الحنظل عندما يكون بعيدا عن الحبيب...

    ولكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد فهو يتوغل في سفره وتيهه إلى جهة الغرب أي جهة الغروب، وكأنه يقارن نفسه بشمس تغرب، وربما في ذلك إشارة إلى اتجاه معاكس لسكن الحبيبة، وهو بذلك الهروب والسفر والتوغل نحو الغرب يبتعد عن الحبيبية، فكان ذلك البعد بمثابة السكاكين التي ألقاها هو فأصابته بمقتل...

    وهنا نجد أن الشاعر شخصن الغياب والبعد وجعله وكأنه في حدته مثل السكاكين القاطعة وقد أصابته هذه السكاكين بمقتل وهي كناية عن شدة الحب والألم من البعد والفراق...والمشكلة هي انه هو الذي تسبب بذلك الألم الذي أصابه حين توغل غربا لأنه هو الذي ألقى السكاكين على نفسه بتوغله غربا مبتعدا أكثر عن الحبيبة.

    وفي هذا البيت أيضا نجد مزيدا من الحركة نستشفها من كلمة (التوغل)، وفيه صورة الغروب وهي صورة رومانسية لافته للانتباه وتعني الأفول والغياب والبعد وهي عكس الشروق وتوحي بما يصاحب الليل من الكآبة والوحشة والوحدة والشعور بالألم.

    وفي الصورة الأخرى نرى سكاكين تتطاير لتصيب ذلك الحبيب العاشق الولهان بمقتل، فنكاد نشتم رائحة الدم الحار المتدفق من جراحه، ونتألم لألمه ونحن نراه وقد انغرست تلك السكاكين في جسده...خاصة عندما نعرف انه هو الذي ألقاها بتوغله غربا وفي ذلك تعبير عن قسوة البعد والفراق....

    وفي ذكر المقتل ذكر للموت وذكر الموت في العمل الفني يذكر بأزمة الوجود والعدم، ثنائية الموت والحياة، وهو الامر الأكثر جذبا لذهن المتلقي لما تثير فيه من وجدانيات ومشاعر ومخاوف والم.

    إذا بريـاحِ المَـدَى أخْتَلِـي
    أشِفُّ وَمَتْنَ الضَّنَـى أعْتَلِـي

    وما يزال الشاعر في هذا البيت أيضا يصف حاله وما أصابه ويصيبه من ذلك الحب الذي وقع فيه ولحظات الغرام التي مر بها بعد أن رأى تلك الجميلة...

    وفي هذا البيت يصف الشاعر لنا ما يحصل له إذا ما اختلى بنفسه أي جلس وحيدا مختليا بنفسه مستذكرا طعم الحب ولحظات الانبهار تلك التي اختبرها وحسن الحبيب وجماله. وقد شبه الشاعر الحب هنا بالريح العاصفة فالحب يعصف به كما تعصف به الريح بل الرياح... وقد شخصن الريح وجعلها كأنها أنثى يختلي بها.

    ويقول لنا أنه في مثل تلك اللحظات من الخلوة يَرِقُ قلبه وحاله ويصبح ضعيفا شفافا، وليس ذلك فقط ولكنه يعتلى (متن الضنى) أي يصبح وكأنه مريض أصابه المرض والهزال الشديد والسقم و(الضنى) هي حالة المريض الذي طال مرضه واشتد، وفي ذلك كناية عن الم الفراق والبعد وصدود الحبيبية...وقد شخصن الشاعر الضنى أيضا فجعله وكأنه كائن يعتلي هو ظهره.

    وفي البيت الكثير من الحركة التي نستشفها من حركة الريح بل الرياح والاعتلاء وفيها تشخيص في موقعين (الريح والضنى).

    ويمكن قراءة البيت من زاوية أخرى إذا ما اعتبرنا (المدى) هو المكان البعيد الذي يقطن فيه الحبيب وكأن الشاعر يقول إذا ما هبت الريح من جهة الحبيب ووصلتني ولفحتني أصابني السقم والمرض...لأنها تذكره بالحبيبة تلك الجميلة التي سلبت علقه فارتحل مذهولا، تائها، مستوحشا وقد اعتلا صهوة القلق الأول موغلا نحو الغرب تاركا خلفه محبوبته تلك التي أصابه جمالها بالذهول حينما رآها.

  3. #3
    الصورة الرمزية عبد اللطيف السباعي شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 280
    المواضيع : 52
    الردود : 280
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    على الطرُقُاتِ أتِيهُ احْتِرَاقًـا
    وهَلْ غَلَيَـانٌ بِـلا مِرْجَـلِ؟

    ليس ذلك فقط بل يخبرنا الشاعر في البيت التالي ان استذكاره للحبيبة واختلاؤه بذكرى جمالها الذي أصابه بالذهول عندما رآها يوقض فيه من جديد تلك المشاعر التي دفعته ليسافر مستوحشا على متن الضنى فيعود ليرتحل من توه ومن جديد لشدة ما يتألم من البعد والصدود وربما من وقع ذلك الجمال الذي أصابه بالهذيان...

    فيدور في الطرقات سائحا تائها وهو في حالة الهذيان والاضطراب تلك التي أصابته من صدود الحبيب...بل هو يتوه في تلك الطرقات وهو يحترق من شدة الحب والم البعد (أتيه احتراقا)، وهنا يطرح الشاعر سؤالا استنكاريا إذ يقول: أي حبيبية ...وهل هناك غليان من دون مرجل؟ أي هو يصرح هنا موضحا إذ يقول بأن تيهه واحتراقه وارتحاله وهذيانه وسقمه وضموره وطعم الحنظل وغليانه وما إلى ذلك من مشاعر جعلته يغلي أنما أصابته حين رأى تلك الجميلة وما تبع ذلك من صدود...

    فهي ليست من دون سبب وإنما هي جميعها نابعة من شعوره العارم بالحب الذي اجتاحه إذ رآها وكنتيجة لصدود الحبيب وبعده.

    وفي هذا البيت يَتضح لنا بأن الشاعر أراد أن يستعطف الحبيبية ويخبرها بأن كل ما أصابه وألم به وآخره احتراقه من حرارة الحب وهو يدور في الطرقات، إنما هو نتيجة حبه لها فهي من أشعل النار تحت المرجل فصار يغلي من شدة الحب وفي ذلك تشبيه القلب بالمرجل ومشاعر الحب والشوق بالغليان.

    وهنا تمكن الشاعر ومن خلال استخدامه لكلمات ( احتراقا وغليان ) من استنفار حواس المتلقي من جديد، خاصة حاسة اللمس هذه المرة...وكأننا نستشعر لظى النار والاحتراق والغليان، وحرارة الحب الذي يغلي في ثنايا قلبه...كما المرجل!
    وهو بذلك ينجح من جديد في إقحام المتلقي فيدفعنا لنحس معه ونستشعر حرارة ذلك الغليان وذلك الاحتراق وذلك الحب الذي زلزل كيانه.

    وفي البيت حركة نستشفها من التيه والارتحال على الطرقات التي يقع فيها الشاعر فيدور في تلك الطرقات على غير هدى وهو في تلك الحالة من الهذيان وألا لم والاحتراق بسبب الحبيب وصدود الحبيب وبعده.

    وَيغْتسِلُ الجَمْرُ مِن ماءِ حَرْفِي
    وَمِن وَدْقِ قافِيَتِـي المُنْـزَلِ


    ويتابع الشاعر في هذا البيت وصف مشاعره وما الم به كنتيجة لتلك الحالة التي أصابته على اثر الحب والغرام الذي وقع فيه... ومن ثم ارتحاله مستوحشا على متن الضنى... بعد أن يأس من الحبيب وبعد أن لاقى منه الصدود...


    فهو يسير في الطرقات تائها محترقا احتراقا شديدا كما اخبرنا في البيت السابق، كما انه يغلي من شدة الحب والشوق كما المرجل، ولكن ذلك ليس آخر المطاف وليس كل شيء...فهو يخبرنا هنا في هذا البيت بأن حب تلك الجميلة وصدودها وما نتج عن ذلك من الم وتشرد، وتيه.. كان ملهما له ففجر في ثنايا عقله وقلبه نبع الشعر ولكن أي شعر ذلك الذي تفجر؟؟؟!!!


    انه الشعر الملتهب، الحار المعبر عما يجول في خاطره والذي يصل في حرارته درجة الغليان أو أعلى من ذلك بكثير كونه نابع من قلبه الذي صار كالمرجل يغلي من شدة الحب ومن احتراقه بنار الحب والشوق والحرمان!!

    ولذلك حينما يفكر الجمر في الاغتسال يكون ماء حرف الشاعر الملتهب، أي أشعاره الساخنة كونها انعكاس لحاله، هو الماء المفضل عند الجمر ليغتسل فيه، وهي كناية عن شدة الحب والحرمان الذي وصل به إلى درجة الاحتراق والغليان، فانعكس ذلك على ما يقوله الشاعر من قصيد، ولذلك يلجأ الجمر لهذه الأشعار ليغتسل فيها إذا ما أراد الاغتسال كونها أكثر منه حرارة!

    ولا أظن أن هناك ما هو أجمل من هذه الصورة الشعرية بالغة الجمال، فمن ناحية يشبه الشاعر أشعاره بماء ساخن بل شديد السخونة، وقد وصل إلى تلك الحالة من السخونة كونه نابع من القلب الذي شبهه الشاعر بالمرجل والذي وصل إلى درجة الغليان أو أكثر لان الشاعر نفسه كان وبفعل الحب والبعد عن الحبيبة سائرا في الطرقات تائها يحترق احتراقا...ولذلك كان هذا الشعر ماءا مناسبا لاغتسال الجمر وهو ما يشير إلى أن تلك الأشعار هي أعلى حرارة من حرارة الجمر الملتهب نارا !!!! وهي تبدو كذلك في تقديري أليس كذلك أيها المتلقي الكريم؟


    ومن ناحية أخرى نجد أن الشاعر قد شخصن الجمر هنا فجعله كإنسان يغتسل وحينما يريد أن يغتسل فهو يختار كلمات الشاعر ليغتسل بها لشدة حرارتها، وربما يكون هذا الوصف والتشخيص والصورة الشعرية الملتهبة سابقه لم يسبق لأحد أن استخدمها في الشعر العربي قبل شاعرنا هنا.


    ولكن ذلك ليس آخر المطاف فالشاعر يخبرنا أيضا في نفس البيت بأن ما أصابه من حب وألم الخ....بعد أن رأى تلك الجميلة جعل الشعر ينهمر من لسانه وقلبه وكأنه المطر النازل من السماء والمنهمر بغزارة شديدة (منزل)، ولا شك أن تلك الأشعار المنهمرة هي بنفس حرارة ماء حرف الشاعر لان الشاعر يخبرنا بأن الجمر إذا ما أراد أن يغتسل فهو يغتسل إما بماء حرفه وإما من أشعاره المنهمرة من السماء كالمطر الغزير.


    وسر الجمال في هذا البيت يكمن في الصورة الشعرية التي هي غاية في الجمال والتي صور فيها الشاعر الجمر وكأنه يغتسل بماء شِعرِه المنهمر كالمطر وهو شديد الحرارة ولذلك كان ملائما لاغتسال الجمر وهو اشد حرارة من الجمر حتما لأنه كان قد تم تسخينه في مرجل قلب الشاعر المحب العاشق الولهان ...الذي كان يدور في الطرقات وهو تائه يحترق احتراقا ويصطلي من صدود الحبيبية وبعدها....ومن الناحية الأخرى يخبرنا الشاعر بأن ما رأى من جمال كان ملهما له فصار الشعر ينهمر من قلبه كما ينهمر المطر من السماء غزيرا بل شديد الغزارة ( الودق ) .


    ولا شك أن هذا الوصف الجميل والصورة الشعرية والعمق في المعنى والقدرة على التعبير بما يجول في خاطر الشاعر من مشاعر تدفعني لان أقف من جديد لأصفق للشاعر ولكن بحرارة شديدة هذه المرة هي ربما اشد حرارة من أشعاره المنهمرة من سحابة مرجل القلب،،

    غَزَلْتُ رداءَ الحِكاياتِ حتَّـى
    تَوَعَّدَنِـي ضَجَـرُ المِغْـزَلِ

    وفي هذا البيت يتابع الشاعر وصف ما فعل به جمال وجه تلك الحسناء حينما رآها ومن ثم صدودها، فقد ألهب جمالها خياله وجعل مُزْن الشعر تنهمر شعرا ساخنا حارا...والحكايات أيضا، ولا بد أنها حكايات كان يقولها الشاعر فيصف فيها جمال وحسن تلك المرأة التي أحبها وما أصابه كنتيجة لما رأى.

    شعر تفجر ينابيع متدفقة من ثنايا قلبه، وانهمر كما المطر الغزير، وحكايات صاغها الشاعر لا بد انه روى فيها قصة غرامه وحبه وكل ما أصابه من غليان وشرود واحتراق الخ...فكان شعره ملتهبا حارا ومنهمرا كالودق لكنه ساخن من حرارة الحب الذي يعتمل في قلبه.

    ويضيف الشاعر هنا بأن قريحته في قول الشعر والحكايات قد تفتقت وعلى أشدها فحاك الكثير من الحكايات، وكأن خياله كان يعمل مثل المغزل وهي كناية عن غزارة ما تفتقت به قريحته من قول وشعر..فشبه نظم القصائد والحكايات بصناعة الغزل، وفي ذلك صيغة مبالغه عن كثرة ما كتب وروى من حكايات حتى كاد المغزل أن يصاب بالملل والضجر.

    وفي هذا البيت تشخيص للحكايات فجعلها الشاعر وكأنها إنسان قام الشاعر بغزل ردءا له، كما شخصن المغزل فجعله مثل إنسان يصيبه الضجر والملل ولكن من ماذا؟! من كثرة الحكايات التي رواها الشاعر عن حبه وعن حبيبتيه...ونجد المغزل يتوعد صاحبنا الشاعر من كثرة ما أنتج من أشعار وحكايات وربما شبه الشاعر هنا القلم بالمغزل.

    وفي البيت وبالإضافة إلى تلك الصور الجميلة والتشخيص نستشف الحركة التي ما تزال تغني أبيات هذه القصيدة وتجعلها حية ذات وقع وتأثير عظيم على المتلقي، وذلك من خلال كلمة (غزلت) بل هي حركة سريعة بسرعة النول أو المغزل الذي يدور على مدار الساعة ولا يستكين ابدا.

    وهل هناك أجمل من هذه الصورة الشعرية التي جعل الشاعر فيها المغزل يضجر وهو الذي يعمل دون كلل أو ملل وبغزارة منقطعة النظير منذ بدء الخليقة؟ فنجده هنا يضجر من غزارة ما أنتج الشاعر من قصائد وحكايات في وصف تلك الجميلة..فهل لنا أن نتخيل إذا غزارة ذلك الإنتاج من الأشعار والحكايات؟ وهل لنا أن نتخيل إذا جمال وحسن تلك الفتاة التي فجرت ينابيع الشعر في قلب الشاعر؟؟؟!!!

    وهـذَا الفـؤادُ فـلاةٌ بَـرَاحٌ
    بهَا غَيرُ خيْلِكِ لـمْ تصْهَـلِ

    في هذا البيت يصف الشاعر قلبه، ذلك القلب الذي أصابه سهم الحب فأصبح ولهان يغلي كالمرجل كنتيجة لحبه لتلك الفتاة فتفجرت من ثناياه ينابيع الشعر الحار الملتهب والغزير.

    ونجد الشاعر هنا يصف قلبه ويشبهه بـ(الفلاة) وهي الصحراء الواسعة أو البيداء، بينما يشبه الشاعر نفسه أو صدره (براح) أي الأرض الأشد اتساعا فتكون الأرض الشاسعة بأتساع الصحراء الغربية، فقلبه واسع بوسع الصحراء في صدر أوسع بكثير.

    أما لماذا يشبه الشاعر قلبه، في وسعه، بالصحراء الواسعة، في هذا التشبيه البليغ والجميل؟!

    الجواب يأتينا في الشطر الثاني من البيت، إذ يخبرنا الشاعر بأنه وعلى الرغم من ذلك الاتساع فأن هذه الأرض لم يمر عليها ولم يصهل بها أي خيل سوى خيل الحبيبة...تلك الفتاة الجميلة ملهمته ومفجرة ينابيع الشعر والحكايات في قلبه وذهنه...وفي ذلك كناية عن إخلاصه لها في حبه فلم يعرف سواها ولم يسمح لأحد غيرها من النساء أن يَعّبُرْ إلى ذلك القلب...وربما جاء التشبيه أيضا ليوحي وليعبر عن الحالة النفسية التي انعكست على الشاعر على اثر الهجران فقلبه أصبح خاليا مثل الصحراء وليس حدائق غناء!

    وكأننا هنا نسمع صوت الشاعر وهو يخاطب حبيبية ربما مستعطفا إياها ومعلنا بأن قلبه لم يعرف حب آخر سوى حبه لها...وربما هو يلومها على بعدها وهجرها وصدودها رغم كل ذلك الإخلاص من ناحيته لها.

    ونجد هنا صورة شعرية جميلة للغاية أيضا، فمن ناحية يشبه الشاعر قلبه بصحراء في وسعها، بينما يوصل لنا ما أراد أن يصفه بأنه حبه الأول والوحيد بصهيل الخيل الأول والأوحد الذي تعرفه تلك الأرض الشاسعة.

    وهنا نجده يعود لاستخدام كلمة الخيل فنكاد نسمع صوت صهيل الخيل وهي تتراكض في ثنايا قلبه...ونكاد نرى صورتها وهي تعدوا في تلك الصحراء الشاسعة لوحدها..وما أجملها من صورة!

    وذلك الاستخدام لصورة الخيل يوقظ فينا موروث ثقافي مرتبط بالخيل ونواصيها وجمالها من ناحية، ويستحضر في ذهننا خيول الشعراء الكبار أمثال المتنبي، كما يحرك فينا بعنف حاسة السمع من خلال استخدام كلمة (صهيل) وهي من أهم الحواس على الإطلاق، كما أنها أول حاسة تتفعل لدى الطفل عند الولادة...فنكاد نسمع صهيل الخيل ...ولذلك كله يكون وقع الصورة الشعرية هنا بليغ الأثر على المتلقي.

  4. #4
    الصورة الرمزية عبد اللطيف السباعي شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 280
    المواضيع : 52
    الردود : 280
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي


    ألمْ يَخْتبِرْ فِيكِ غَيْظَ المَرَايَـا
    وَمَوْجِدَةَ الكـأسِ والمِشْعَـلِ؟


    ويستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته في هذا البيت أيضا وفيه يسوق الشاعر لها ولنا المبررات التي جعلت قلبه الواسع بوسع الصحراء يقتصر في حبه عليها، هي فقط، كونها تلك الفتاة الجملية ملهمته وملهبة نار الحب في قلبه، هي فقط التي مرت بخيلها عبر ارض وصحراء قلبه الشاسعة دون غيرها.

    فمن ناحية يقول الشاعر أن سبب ذلك هو شدة جمال وحسن تلك الفتاة ذلك الجمال الذي أغاظ المرآة والدليل على ذلك انه حينما تنظر تلك الفتاة في المرآة تغتاظ المرآة من شدة جمالها.
    ومن ناحية أخرى يصف الشاعر جمال حبيبته على أنها جميلة بجمال تلك الفتيات التي تكلف عادة بتقديم (الكأس والمشعل) في حضرة الملوك ربما وهي فتيات لا بد بالغة الجمال...
    وقد يكون هذا الاستخدام لكلمات (موجدة الكأس والمشعل) مأخوذة من التراث المغربي وربما من التراث الأدبي العالمي كون الشاعر مطلع على الأدب الانجليزي بحكم تخصصه ...فربما استعار هذه العبارة من مسرحية روميو وجوليت مثلا، لكن السياق يوضح لنا بأن ما هو مقصود بها المبالغة في وصف جمال تلك الفتاة ولذلك فقد اكتفى بحبها.

    ويستمر الشاعر، في البيت التالي، في سوق مزيد من الأدلة والأسباب وهو يخاطب حبيبته، تلك الفتاة التي جعلته يقتصر في حبه عليها ولم يتسع قلبه لأحد سواها فيقول لها:

    ألمْ يَغْفُ فِيكِ؟ ألـمْ يَلْتَحِـفْ
    بِثَوْبِ نَضَارَتِـكِ المُخْمَـلِ؟

    وكأنه يقول ويتساءل... أي حبيبة ...كيف لا يقتصر حبي عليك وقد عشقك قلبي عشقا يصل حد الهذيان، عشق يذهب العقل...

    ثم الم تلاحظي أيضا بأنه ومن شدة حبك كان قلبي يبدو وكأنه يلتحف بثوب نظارتك المخمل؟ وهي كناية أخرى يعبر فيها الشاعر عن شدة جمال فتاته تلك...وهي من المبررات الأخرى التي جعلت قلبه لا يحب سواها...وفي ذلك تشخيص للقلب إذ جعله الشاعر هنا وكأنه إنسان يغفو ويلتحف بجمال وحسن تلك الفتاة ذلك الحسن المخملي الرائع.

    ولولا شُموعٌ بِكَفَّـيَّ يَقْظَـى
    أفَـاقَ قليـلاً ولـمْ يَعْـجَـلِ

    ويستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته بعد أن شخصن في البيت السابق قلبه فجعله كمثل طفل صغير يغفو في حضنها ويلتحف بثوب جمالها الناعم والدافئ وكأنه ثوب من الحرير أو المخمل...فكان نومه وغفوته عميقة في مثل ذلك الجو المريح والدافئ بل المشتعل بالحب.

    وفي هذا البيت يستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته فيقول ..أي حبيبة..نعم ...تأكدي بأن غفوت قلبي في حضن الحب المخملي ( الم يغفو فيك؟ )، حبك أنت لوحدك، كان يمكن أن تطول وتستمر، وكان يمكن لقلبي أن يظل يغط في نوم عميق وهو يلتحف بثوب نظارتك المخملي، لولا أن نيران الحب هذه المشتعلة في كياني جعلت أصابعي تضئ فأصبحت وكأنها شموع مشتعلة فاستفاق قلبي، ولكنه استفاق على مهل ولم يتعجل...حيث كان من الممكن أن يستمر في تلك الغفوة إلى ما لا نهاية وذلك بسبب ذلك الجو المخملي المفعم بالحب الذي يوفره جمالك ونظارة وجهك.

    وهذا البيت كناية أراد الشاعر أن يعبر فيها عن شدة الحب أيضا، وهو ما جعله يقتصر في حبه عليها، وكأنه يقول أن جمال فتاته كان رائعا مخمليا إلى الحد الذي وفر له مكانا مريحا جدا، فغفى قلبه فيه، واستغرق في غفوته، لولا أن حرارة الحب المشتعلة في ثنايا قلبه جعلت أصابعه تضئ فاستفاق من شدة الوهج وحرارة الحب.

    فمن ناحية غفى الشاعر في حضن الحب وتلحف بثوب جمال تلك الفتاة المخملي، وكان يمكن أن يظل يغط في نوم عميق إلى ما لا نهاية بسبب ذلك الجو المفعم بالحب والدفء والإحساس المخملي، ولكنه استفاق كنتيجة لحرارة الحب المشتعل في قلبه، والدليل على ذلك أن أصابعه قد أضاءت من شدة ذلك الاشتعال ( الحب ) الملتهب في كيانه.

    وقد أبدع الشاعر هنا إذ شبه أصابعه بالشموع المشتعلة، وشبه القلب بالطفل الذي يغفو ويستيقظ...وهو ما جعل هذا البيت من الشعر يضج بالحياة...وقد سخر الشاعر هنا التضاد من جديد فمن ناحية تحدث عن النوم واليقظة ومن ناحية أخرى تحدث عن البطء والقلة والعجلة...فتمكن من اسر انتباه المتلقي...من خلال هذه الصورة الشعرية الجميلة.

    فإنْ تسْألِي كَيفَ يَذوِي الرَّبيعُ
    يُنَبِّئْكِ صَيْـفٌ، وَإنْ تسْألِـي
    لِماذا هَوَتْ لَبِنَـاتُ الأمانِـي
    تُخَبِّـرْكِ ذاكِـرَةُ المِـعْـوَلِ

    وما يزال الشاعر في هذين البيتين يخاطب حبيبته مستعطفا إياها راجيا لعلها تحن عليه فتعود إليه أو تتوقف عن مقاطعته والنأي عنه وهو هنا يصف حاله البائس وما حل به بعد أن تركته وحيدا من خلال طرح الأسئلة والإجابة عليها.

    ويشبه الشاعر نفسه بالربيع ويقول مخاطبا إياها: أن تسألي كيف يذوي الربيع، ربيع العمر طبعا، أي كيف انه أصبح شاحبا، بائسا، حزينا، مصفر الوجه ضعيفا؟ يأتيك الجواب بأن الصيف بحرارته هو المسئول عن ذلك، أي أن شدة حرارة الحب والحرمان الذي شبهه الشاعر بحرارة الصيف هي التي تسببت بكل ما أصابه من الم، فذوى جسده وكأنه ربيع ذهبت عنه الخضرة.

    ويستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته في البيت التالي فيسألها مزيدا من الأسئلة الاستنكارية...فيقول وان تسألي لماذا تحطم أملي بالحب وتكسرت الأمنيات وتهدمت؟ (لماذا هوت لبنات الأماني؟)، فيأتي الجواب في الشطر التالي...يمكنك أن تعرفي الإجابة...فأنتِ السبب في ذلك... ونجد الشاعر هنا قد شبه الحب وأحلامه فيه بـ لبنات الأماني، أي الأمنيات،بينما شبه صدودها وبعدها بالمعول الذي تسبب في هدم لبنات الأماني تلك.

    وكأن الشاعر يقول لحبيبته بأن ما أصابني من شحوب وضعف ومن ثم تحطم كل أحلامي وأماني هو في الواقع ناتج عن صدودك وبعدك...وفي ذلك استعطاف لتلك الفتاة بأن تعود له ربما.

    وهنا شخصن الشاعر الربيع فجعله كشخص يذوي وشخصن الصيف فجعله السبب في ذويان الربيع، وشخصن الأمنيات والأحلام فجعلها تتهدم كاللبنات، وشخصن المعول فجعل له ذاكرة وكأنه إنسان يمكنه أن يتعرف على ما فعله.
    والتضاد يظهر من جديد في الربيع والصيف واللبنات والمعول... وطرح الأسئلة هنا والإجابة عليها حواريه تلفت انتباه المتلقي وتقحمه في الحدث.

  5. #5
    الصورة الرمزية عبد اللطيف السباعي شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 280
    المواضيع : 52
    الردود : 280
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي


    وها أنتِ في نَزَقِ الياسَمِيـن
    تعودِيـنَ بالعَبَـقِ الأكْـمَـلِ

    ويستمر الشاعر في رواية قصته مع تلك الفتاة هنا بهذه الكلمات المعبرة والصور الشعرية الساحرة والدافئة، فبعد أن وصف لنا حسنها وحبه الملتهب وما لاقاه ويلاقيه كنتيجة لبعدها من بؤس، وضعف، وألم، واثر ذلك عليه جسديا، فصار كأنه الربيع الذي يذوي، ويخبرنا أن نأيها كان السبب في ما أصابه.

    يخبرنا الشاعر في هذا البيت بأن محبوبته قد عادت إلى المكان الذي يعيش فيه ولكن أي عودة تلك التي يتحدث عنها الشاعر هنا؟ إنها تعود بخفة الياسمين وجماله وعبقه الكامل... فنجد الشاعر هنا يشبه حبيبته بزهرة الياسمين في خفتها، ورشاقتها، وجمالها، ورائحتها العطرية الزكية الطيبة الكاملة....وكأنه قطر عطر الياسمين جميعه في كلمة (الأكْـمَـلِ ) ليصف فيه عذوبة ما هي عليه حبيبته عند عودتها.

    إلَـيَّ فَعُـودِي وَأَلْقِـي إلَـيَّ
    بأجْنِحَـةِ الخَبَـرِ المُهْـمَـلِ

    وبعد أن اخبرنا الشاعر بأنها عادت إلى المكان الذي يسكن فيه، يتوجه إليها في هذا البيت بالحديث، طالبا منها أن تعود إليه شخصيا، ولا تكتفي بالعودة إلي المكان الذي يسكناه أصلا، والذي شاهدها فيه لأول مرة فوقع ما وقع من حب وصل حد الهذيان وأدى إلى كل ذلك الوله والنحول...بل يطالبها وقد أوضح لها ما أصابه من هزال وألم واحتراق وغليان كنتيجة لبعدها ونأيها... فيطالبها بأن تصرح له بحبها الذي أهملته وأنكرته طويلا...بعد أن أورد لها مبررات كثيرة تدلل على مدى حبه لها...وهو يستعجلها بالعودة والتصريح بحبها له ومبادلته الشوق والحب والحنين... فلذلك يطلب منها أن تعود على أجنحة السرعة.. لتخبره بلك تلك المشاعر التي ظلت مهملة لمدة طويلة لأنها تركته وغابت كل تلك المدة...وهنا يشبه الشاعر الخبر وكأنه الطير له أجنحة وفي ذلك تعبير عن شدة الشوق للقاء الحبيبة فهو لا يستطيع الانتظار ونعرف السبب كما يصفه الشاعر في البيت التالي.

    ألـمْ تعْلمِـي أنَّ يَوْمِـي، إذا
    توَارَيْتِ، فِي لَهَبٍ يَصْطلِـي؟

    وفي هذا البيت يعود الشاعر فيؤكد لفتاته مستعطفا أيها وحاثا أيها أن تعود إليه من خلال سؤاله، أي حبيبة، ألم تعلمي أن يومي يكون إذا تواريت عني في لهب يصطلي؟ اي يشتعل احتراقا ...وهو بذلك يستمر في التعبير عن حبه الملتهب واثر بعد فتاته عنه...ولذلك فهو يستعجل عودتها على جناح السرعة...وهنا نستشعر حرارة ذلك الحب من خلال استخدام كلمة (يصطلي).

    إليكِ ـأَقُبَّرَةَ القلـبِ ـأهْفـو
    تعالَيْ وَحُطِّي على كَلْكَلِـي

    وفي البيت الأخير من القصيدة نجد الشاعر يصرح بحبه لها بصورة جليه واضحة ومباشره، فمن ناحية يشبهها بطائر القبرة الجميل...لكنها قبرة قلبه هو، وذلك تعبير عميق عن الحب لها... ومن ناحية أخرى يطلب منها وإذ هي عادت إلى المكان الذي يسكن فيه أن تعود إليه هو فتصل ما انقطع، لكل تلك المبررات التي ساقها، لا بل هو يطلب منها أن تعود إليه بسرعة الطير مرة اخرى، فهو إذ شبهها بطائر القبرة يطلب منها أن تطير لتحط على صدره فيضمها إليه.

    وفي هذه الأبيات الأخيرة الكثير من الحركة والتي توحي بها كلمات (تعالي وعودي) والصور الشعرية الجميلة (أجنحة الخبر، أقبرة القلب) والتعابير التي تدغدغ المشاعر والأحاسيس ومنها حاسة الشم واللمس والسمع ( عبق، لهب، يصطلي، الخبر)...وهو أسلوب بالغ التأثير يمتاز بالقوة والصور الجميلة والبلاغة الساحرة....أسلوب يأسر لب المتلقي ويجعله يصفق بحرارة للشاعر على قدرته الفذة على النظم الجميل والأصيل الذي يضج بالحياة.

المواضيع المتشابهه

  1. الجَرَسُ الخَفِيُّ.. للشاعر عبد اللطيف السباعي.. قراءة معمقة
    بواسطة عبد اللطيف السباعي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 26-02-2022, 06:51 PM
  2. تعالي .... تعالي
    بواسطة مصطفى سالم سعد في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 17-09-2015, 07:43 PM
  3. تعالَيْ وَحُطِّي على كَلْكَلِي!
    بواسطة عبد اللطيف السباعي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 08-06-2015, 10:09 PM
  4. قراءة فكرية لقصيدة ( إزار العفو ) لسمير العمري
    بواسطة خليل حلاوجي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 06-10-2008, 04:18 PM
  5. قراءة الممكن وإمكانية القراءة ( قراءة لقصيدة لي ما يبرر وحشتي للشاعر يحيى السماوي )
    بواسطة هشام مصطفى في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 09-06-2008, 08:46 PM