أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: تلك الــرائــحــــــــــة...

  1. #1
    الصورة الرمزية خالد بناني شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 527
    المواضيع : 73
    الردود : 527
    المعدل اليومي : 0.10

    افتراضي تلك الــرائــحــــــــــة...




    "مسك الليل".. لست أدري ما إذا كان هذا اسمه حقا، إن كان هذا اسمه العلمي على الأقل، كل ما كنت أعرفه هو أن أمي هكذا كانت تسميه: مسك الليل. ذلك أننا نسكن عند طرفي الشارع، نحن هنا، وعمتي هناك، وعلى سطح بيتها ثمة دالية عنب لا أحد يدري كيف نشأت، وزهرة مسك الليل التي ما عدت أشم عبقها بعدما ظل يصلنا إلى حيث نحن والريح تهب باتجاهنا. صغارا كنا، وكانت الرائحة تلك ذاكرة أخرى للصبا توازي ذاكرتي المحملة بأشياء كثيرة. في رمضان كان الشارع يتلاشى المارون به شيئا فشيئا بعيد العصر، يمضون إلى ديارهم متعبين من طول النهار، من العمل، محملين بمستلزمات البيت، شيئا فشيئا ينسحبون ليحتل الخواء مكانهم، فيم نحن الصبية – على غير صيام – ما يزال بنا من الطاقة ما يكفي لنواصل اللعب ركضا بين الهنا والهناك حتى أذان المغرب، لنقاسم الكبار إفطارهم سريعا قبل أن نعود للعب ثانية. مسك الليل كان يقوى في المساءات الحارة، ويخبو في أمسيات الشتاء البارد، فظل منزل عمتي – على بساطته – قصرا فخما نستنفذ الذرائع كلها حتى نزوره فقط كي نقتص من شذاه. كنت طفلا متوحدا أكره الاختلاط بالناس، وكانت المناسبات العائلية تشعرني بالكآبة والاغتراب. لم أكن أحب مرافقة أمي لزيارة المعارف، لا من الأهل ولا من الأصدقاء، ربما لأنه حيث يسكن هؤلاء وأولئك لم يغرس أحدهم مسك الليل، فكانت أماكن إقامتهم تشبه الورود الاصطناعية: كلاهما بلا رائحة. برغم هذا كان يعوضني عن مسك الليل ذاك العطر الغامض في ثيابها، في لحافها أكثر، ذلك أن الأمهات لكل واحدة منهن عطرها الخاص بها، فكانت أمي مميزة بالقرنفل والورد الأحمر اليابس، والأمر أن ثيابها تبقى في الدولاب مدفون بينها كيس القرنفل الذي يأتينا هدية أعياد وعطل من بعض الأقارب، وصرة الورد اليابس الذي تقتنيه من العطار بين وقت وآخر. عند عودتنا من الزيارات كان يكفي هبوب ريح خفيف على مدينتنا المشبعة بالتراب حتى تترمد عيناي وأنا أتلمس طريقي، بينما أمي التي تضع النقاب على وجهها تعرف جيدا كيف تتفادى حبيبات التراب الصغيرة والغبار الدقيق. "تعال اختبئ".. تقولها وهي تشدني من معصمي لتلصقني بها وتغطيني بإزارها، فكنت – وأنا في شبه ظلمة منه – يصلني صوت الريح والعربات والمارين، فيم أحاول أن أدوزن وقع خطواتي على خطاها. مرورا بمسارات مختلفة كل مرة، كان مسك الليل دليلي الوحيد على اقترابنا من البيت، أنا الذي لطالما تعودت تفادي الأسئلة.
    في الثلث الأقصى من الشارع ثمة فرن شعبي قديم ظل يعمل بالحطب، وقت اختار أصحاب الأفران الأخرى تطويرها لتعمل بالكهرباء، وكنا – كما الكثير من الجيران وعائلات أخرى بعيدة – نأتي بصينيات الخبز حتى يطهى بالطريقة التقليدية، وبالرغم من حرص صاحب الفرن على عدم الخلط بين خبز هذا وخبز ذاك، إلا أن أمي كثيرا ما كانت تعيدني إليه على أساس أن الذي معي ليس خبزنا، لأجد غيري يشتكي من ذات الأمر، بل ولربما أعادتني لأن كل ما معي ليس لنا، لا الصينية ولا الخبز، فكان هو المتعود على الأمر يضحك قليلا باحثا عن ترضية سريعة لتسوية الأمر، أدناها أن يهبنا رغيف خبز أو رغيفين إذا كان الذي معي محترقا ولم نجد خبزنا، وأقصاها أن يتم استبدال الصينية عصرا أو في اليوم الموالي.
    على كبر أدركت جيدا أن الروائح فصول الذاكرة الأربعة، وأنها توثيق للزمن الممتد. عرفت هذا وقد استحال على أمي أن تمسك ثلاثين سنة من معصمي لتخبئني تحت اللحاف، وقت صار علي أن أواجه حصى الحياة وأحجارها بعينين مفتوحتين. عرفته يوم انقطعت عادة الورد اليابس والقرنفل الذي صرت أشتريه أحيانا بعد أن ما عاد يأتينا على سبيل الهدايا، عرفته وقد مرت سنوات لم نذكر خلالها مسك الليل إلا على سبيل الذكريات وقد خبا أريجه نهائيا... عرفته وقد بقي الفرن الوحيد المحتفظ برائحة الحطب المشتعل والخبز المحروق شيئا ما كل هذا العمر... عرفت كل هذا وقد مرت بي أوقات لم أجرؤ خلالها على البوح لأحد بأنني فقدت قدرتي على الشم، غير متوقع أن الآخرين هم مثلي تماما، كلنا ما نزال قادرين على التقاط الروائح، لكن الأشياء أكثرها.. صارت بلا رائحة.

  2. #2
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    المشاركات : 6,061
    المواضيع : 182
    الردود : 6061
    المعدل اليومي : 0.91

    افتراضي

    كلنا ما نزال قادرين على التقاط الروائح، لكن الأشياء أكثرها.. صارت بلا رائحة.

    السلام عليكم
    الطفولة عادة لها قدرة عجيبة على تخزين اللقطات والروائح وربطها ريطا وثيقا بالأحداث من حولها ,
    وعادة تكون هي الأروع في حياة كل شخص إن كانت ذكريات جميلة ,وهي الأفظع إن كانت ذكريات مؤلمة .
    وكلما تقدمت الأيام بنا نعجز عن الاستمتاع بتلك المناظر واللقطات والروائح حتى نظن أننا قد فقدنا حاسة الشم والذوق والبصر .
    وطالما نستحضرها لنستعيد تلك الحميمية الغريبة بها ولكن لا فائدة ,ليست هي .
    الحياة تتغير كل يوم ,هذا مجراها الطبيعي ,ونحن أيضا نتغير ,
    وأطفال كل زمن سيجدون أشياء يحبونها ويتعلقون بها ,ثم يفتقدونها مع الأيام ويعيدهم الحنين لها ,
    نثر جميل أخي ,بأسلوب محبب ولغة جذابة ,
    انتبه للشّدات
    شكرا
    ماسة

  3. #3
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    عبقت الكلمات بشذا الماضي وجاءت صادقة بأسلوب بسيط ولغة معبّرة
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  4. #4
    الصورة الرمزية خالد بناني شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 527
    المواضيع : 73
    الردود : 527
    المعدل اليومي : 0.10

    افتراضي

    الرائعة اختي فاطمة عبد القادر
    شكرا لمرورك الجميل ولتعليقاتك الورود
    ظلي بكل الخير
    رعاك الله

  5. #5
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 2.00

    افتراضي

    ويبقى السؤال هل فقدت الأشياء رائحتها حقا
    أم نحن اللذين فقدنا حاسة الشم
    أم كلاهما
    نص يسحبك بهدوء الى أطياف الماضي لتكتشف أن هناك رائحة ما زالت عالقة في مخيلتك
    جميلة وعميقة وموجعة
    كل التقدير
    التعديل الأخير تم بواسطة خلود محمد جمعة ; 03-11-2014 الساعة 08:10 AM

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.72

    افتراضي

    تسبح بنا الذكريات في بحور نظننا نعرفها، لنجد مع كل موجة تستعيد طيفا من الوراء البعيد، أن له معنى مختلف المذاق والرائحة عما كنا نجد، فنغوص حالمين نحو أعماق مأمل أن ترشدنا إلينا
    بعفوية وصدق همى البوح محملا بحنين الأرواح لحيث تجد عطر زهورها فتسلل للقلوب مترعا بالجمال

    دمت بخير أيها المبدع

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Aug 2014
    المشاركات : 842
    المواضيع : 4
    الردود : 842
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي

    هذا هو السهل الممتنع الذي يجعل الأدب بديعا
    أعجبتني العفوية والبساطة واللغة الجميلة في نصك

  8. #8
    الصورة الرمزية د. سمير العمري المؤسس
    مدير عام الملتقى
    رئيس رابطة الواحة الثقافية

    تاريخ التسجيل : Nov 2002
    الدولة : هنا بينكم
    العمر : 59
    المشاركات : 41,182
    المواضيع : 1126
    الردود : 41182
    المعدل اليومي : 5.27

    افتراضي

    لغة جميلة معبرة ووصف اتسم بالبساطة والتمكن ، وحرفك دوما مميز وجميل وفيه عبق مسك الليل.

    دمت مبدعا!

    تقديري
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9

  10. #10
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,113
    المواضيع : 317
    الردود : 21113
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    أن الذاكرة البشرية قادرة على تخزين وربط الروائح مع المواقف التي عاصرتها،
    تماماً كما تتعامل مع الأصوات والصور،
    فإذا اشتم الإنسان الروائح التي يحبها، انعكس الأمر عليه إيجابياً،
    فيما ينعكس عليه سلباً إذا ما اشتم روائح منفرة تذكره بمواقف سلبية مرّ بها.
    جميل منثورك وسامق شعورك بأسلوب سهل ميسور
    دمت ودامت حروفك ناطقة بالجمال.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. فى تلك الخيمة .. اغتصاب فتاة مسلمة
    بواسطة اروى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 26-04-2006, 10:18 AM
  2. على أبواب موسم الحج ... :" قصيدة " كم أشتاق إلى تلك الديار ؟؟؟
    بواسطة إيمان رمزي بدران في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 27-01-2006, 03:55 PM
  3. ما زلت تلك الطفلة
    بواسطة صدق الحروف في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 28-11-2004, 01:35 PM
  4. ~ تلك رسالتي تركتُ فكّ شفرتها لذكائِك! ~
    بواسطة كلمات في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 16-11-2004, 10:32 PM
  5. °¨™¤¦¤™¨° تلك كانت حبيبتي °¨™¤¦¤™¨°
    بواسطة بيت الحزن في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 21-05-2003, 08:56 AM