أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قراءة فى قصة " اللحظة الفاتنة " للأديب على أحمد معشى

  1. #1
    الصورة الرمزية هشام النجار أديب
    تاريخ التسجيل : May 2013
    المشاركات : 959
    المواضيع : 359
    الردود : 959
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي قراءة فى قصة " اللحظة الفاتنة " للأديب على أحمد معشى

    اللحظة الفاتنة .. على أحمد معشى


    على جبينه تتلألأ قطرات من عرق ، تنشد انعكاسات الشمس عليها نشيد الفرح

    حين يغالب حرارة الصيف الحارق عاملاً لسد جوع صغاره المنتظرة أفواههم داخل كوخ الفقر

    فتتمايل أمام عينيه اللحظة الفاتنة إذا تبسم الصغار شوقاً لوجبة الغداء

    يطلق بعدها تنهيدة الارتياح بعد نفس عميق يروي قبله من هجير الحاجة المحرق

    وهو ينتظر يوماً آخراً ليبدأ رحلته الممتعة من جديد .

    رؤية نقدية / هشام النجار

    لقد أزعجنى هذا الأديب بالفعل ، ولا شك فى أننى أؤمن تماماً بما أكده الناقد الانجليزى الشهير ت . س اليوت بأن الأديب الحقيقى هو من يملك المقدرة الفائقة على ازعاج المتلقى .
    أزعجنى لأنه اضطرنى من خلال سطور قليلة الى استعادة أحداث رواية ملحمية طويلة بحجم " عناقيد الغضب " لروائى كبير بحجم جون شتاينبك ، فما كانت الرواية فى الأساس الا وصولاً لمعايشة ومعانقة وتقبيل " اللحظة الفاتنة " ، ولا يهمنى ان كان كتب قصته الفاتنة على ضوء الرواية الشهيرة ، يهمنى فقط أننى قرأتها على ضوئها وهذا ما ضاعف متعتى وسعادتى وأشبع ذائقتى الفنية الى أبعد مدى .
    الهدف أمامى يبدو متقارباً ، فالأديب " معشى " يسكب الهدوء والراحة والسعادة فى أقداح العناء ويهدهد أرواح الشقيانين والتعبانين والمساكين والفقراء والمهمشين والمستضعفين فى الأرض ؛ فما يلاقونه فرح وما يعانونه غناء وعرقهم لؤلؤ تغازله الشمس فى سعادة وبهجة اذا كان حديث النفس عند مباشرة الجهد والعناء والعنت هو انتظار وترقب ابتسامة الصغير ورضاه عندما يشعر بالشبع ، ويظل البطل يرضى بهذا الحال وواقع القسوة ويصاحب المعاناة ويصادق التعب ويتمنى العيش فيه الى الأبد ما دام صنيعه يرضى صغاره ويسعدهم ويشبعهم .
    وشتاينبك فعل كل شئ فى " عناقيد الغضب " لكى يحطم أعصابنا الى أقصى حد ويجعلنا غير راضين كما قال فى تقديمه للرواية ، ولكننا عندما نعيد قراءة تلك الملحمة الانسانية فى ظروفنا التى نعيشها اليوم ، وعندما نعقد مقارنة سريعة بين واقعنا وواقع الأمريكان فى ثلاثينيات القرن الماضى ، نكون أكثر رضا وأكثر قناعة وأكثر شكراً لأنعم الله علينا ونكون أيضا - بخلاف ما أراد شتاينبك – أروق مزاجاً وأهدأ أعصاباً وأكثر رضا وسعادة كحال بطل قصة " معشى " .
    يفاجئنا شتاينبك - وهو عندى أهم وأعظم وأروع الروائيين الأمريكان - فى مقدمة روايته المثيرة ، بفصل تحت عنوان " الغبار " وقد أبدع الرجل - بلغته الأدبية السهلة وبأسلوبه السردى القائم على الوصف الدقيق الذى تميز به - فى وصف العواصف التى ضربت أوكلاهوما والتى أدت مع ندرة المطر الى قحط المحاصيل فى أراضى المزارعين والى جفاف التربة وتفككها وتحولها الى " غبار " يملأ الجو ويحمله الريح العاصف ؛ يقول " فى كل مكان ، كان يتناثر الغبار ، وكل شئ يتحرك كان يثير سحباً من هذا الغبار ، تظل عالقة فى الهواء لفترة طويلة " ، ويقول : " واشتد هبوب الريح فتصاعد الغبار من الحقول ، واستمرت الريح تعصف بشدة وبشكل متواصل ، فتطاير الغبار حتى ملأ السماء " ، ويصف ما فعله الغبار قائلاً : " وجاء يوم احتجبت فيه الشمس ، وبدت كقرص أحمر ، حتى أن الرجال والنساء كانوا يربطون المناديل لحماية وجوههم عندما يخرجون ، أما الليل فكان حالك الظلام ، لأن الغبار أخفى النجوم ، وأغلقت البيوت أبوابها ونوافذها فى وجه الغبار ، لكنه كان يتسرب ليحط على المقاعد والمناضد " .
    ثم يصف آثار العاصفة وما خلفته " انتهت العاصفة وتركت الأرض فى حالة موات ، وفى الصباح كان الغبار يغطى القمح ، والأسوار والأسطح والأشجار ، وخرج الناس من بيوتهم وهم يتنفسون هواءاً ساخناً ، ووقف الرجال بجوار أسوار مزارعهم صامتين يتطلعون الى محاصيلهم الميتة ، وخرجت زوجاتهم ووقفن الى جوارهم يتطلعون الى وجوههم ، ووقف الأطفال بالقرب منهم وأخذوا يتطلعون أيضاً " .
    فى الفصل الثانى من الرواية " الجرارات والأرض " يصور شتاينبك حال المستأجرين وهم يطردون من أراضيهم بعد أن استولى عليها الملاك بالقوة ، يقول شتاينبك واصفاً سائق الجرار الذى جاء ليحل بآلته محل المستأجرين : " ظهرت الجرارات فوق الطرق وفى الحقول ، وأثارت سحابات كثيفة من الغبار .. لم يكن الرجل الجالس على مقعد قيادة الجرار أشبه بالرجال العاديين ، فقد كان يرتدى قفازاً ونظارة واقية وقناعاً من المطاط ، كان بمثابة جزء من الجرار ، قاد الرجل الجرار دون هوادة عبر عشرات المزارع ولم يكن يهتم اطلاقاً برؤية الأرض أو يشمها أو يستشعرها ، لقد كان الرجل يحب الجرار ، وليس الأرض " ، وهذا مشهد قصير آخر يصور فيه شتاينبك الأطفال الجوعى وهم ينظرون الى سائق الجرار وهو يلتهم ساندوتشاته : " عند الظهيرة توقف سائق الجرار ، أحياناً كان يتوقف بالقرب من بيوت المستأجرين ، فكان الأطفال الجائعون يندفعون لمشاهدته وهو يخرج الساندويتشات ويأكلها " .
    لم يستمع الملاك ولا سائقوا الجرارات لاستغاثات وتوسلات المستأجرين وعائلاتهم ، يقول أحدهم : " ماذا تريدون منا أن نفعل ؟ نحن الآن على حافة الموت جوعاً ، الأطفال يتضورون جوعاً طوال الوقت ، وملابسنا قديمة متهرئة " ، ويقول آخر : " لقد أخذ جدى هذه الأرض من الهنود ، ولقد ولدت هنا ، وأطفالنا ولدوا فى هذا البيت ، انها أرضنا لأننا ولدنا فيها وعملنا فيها ومتنا فيها " .
    أفراد عائلة جوود التى كانت ضمن آلاف الأسر الأمريكية المعدمة التى اضطرها الجفاف والجدب والكساد الاقتصادى والجوع والفقر ثم الطرد القسرى الى ترك بيوتهم وأراضيهم فى أوكلاهوما والاتجاه غرباً الى كاليفورنيا بحثاً عن لقمة العيش والستر والأمان ، والعائلة مكونة من الأب توم جوود ، ويدعى أيضا : توم العجوز ، يصفه شتاينبك بقوله : " كان رجلاً نحيفاً قوياً ، ساقاه قويتان قصيرتان ، له لحية بيضاء ، ويتسم وجهه وعيناه باللون البنى " ، والأم التى يصفها بقوله : " لم تكن عينا الأم تتسمان بالحزن ، لكنهما عرفا طريق الحزن والألم ، كانت مركز العائلة القوى ، وهى تدرك ذلك ، فطالما قامت بحماية الأسرة من كل الأحداث الضارة التى كانت تقع لهم ، ولو أن الأم فقدت قوتها لتحطمت العائلة على الفور " ، ثم الابن الأكبر تومى جوود وكان قد دخل السجن لقتله رجلاً دفاعاً عن نفسه وخرج من السجن بعد فترة لحسن السير والسلوك ، ثم الابن آل الذى يصغر تومى ، ثم الابنة روزا شارون وزوجها كونى ، وهى حامل فى شهورها الأولى ، ثم روث التى تبلغ الثانية عشرة وأيضاً وينفيلد الذى يبلغ العاشرة ، ثم الجد والجدة .
    حوار دار بين تومى وأمه بعد غياب طويل أعقبه لقاء يصفه شتاينبك بقوله : " اندفعت نحوه ووجهها ملئ بالسعادة ، وتحسست يدها الصغيرة ذراعه ووجهه ، عض توم شفته ، وما ان رأت الأم ذلك حتى ابتعدت فجأة ، قالت وهى تبكى : كنا على وشك الرحيل دونك .. أود أن أسألك سؤالاً يا تومى : أعتقد أنك لا تكره كل الناس ، أليس كذلك ؟ لأنهم لم يعلموك فيما أظن الكراهية داخل السجن ؟ قال توم ببطء : كلا ، كلا ؛ كنت لفترة ما مشاكساً ، لكنى بعد ذلك التزمت الهدوء وأصبح كل شئ على ما يرام ، أنا لا أكره أى أحد ، لكن عندما رأيت ما فعلوه ببيتنا ..
    اقتربت الأم من تومى وقالت : تومى ، ليس فى استطاعتك مقاومة الملاك وحدك ، لأنهم سيتصيدونك ، لكننى أتصور وهناك آلاف من المشردين أمثالنا طردوا من بيوتهم ، لو أننا جميعاً قاومنا ، فلن يكون باستطاعة الملاك أن يقهرونا ، لكن الناس لا تعرف ماذا تفعل ، قال تومى : أمى ، لم أسمعك تتحدثين على هذا النحو من قبل أبداً ، كست وجه الأم مسحة من الصلابة ، وقالت فى هدوء وحزن : لأنه لم يحدث لبيتى أن هدم على هذا النحو ، ولم تضطرنى الظروف أبداً لبيع كل حاجياتى " .
    مشهد آخر عندما اجتمعت العائلة كلها عند السيارة القديمة التى اشتروها للرحيل بها الى كاليفورنيا " بعد ذلك وبتلقائية وهدوء اجتمعت الأسرة عند السيارة ، فقد أصبح هذا المكان من أكثر الأماكن أهمية حيث تلتقى الأسرة فقد حل الموات بالبيت والأرض ، فى حين أصبحت هذه السيارة القديمة مركزالالتقاء الحيوى للعائلة .. تمشى الأب حول السيارة ، ثم جلس القرفصاء والتقط عصا صغيرة وشرع يرسم دوائر فى التراب .. خرج الجد ، وجلس مستندا بعناية الى جانب السيارة ، فى حين جلس تومى وآل وكونى فى صف مواز للأب مكونين نصف دائرة .. ووقفت النساء خلف الرجال ، وأخذ الأطفال يداعبون التراب بأقدامهم دون جلبة ، أما كاسى الواعظ ، فقد وقف بعيداً عن الأنظار لأنه لم يكن فرداً من أفراد العائلة .. خاطب الأب الجميع بصوت هادئ وقال : ان كل ما لدينا من نقود هو مائة وخمسون دولاراً ، وآل يقول اننا فى حاجة الى اطارات جديدة للسيارة .. تحدث آل ببطء وعناية ؛ لأنه لم يسبق له أن تحدث فى اجتماع عائلى : السيارة قديمة ، ولا تبدو على ما يرام ، لكننى فحصت كل جزء فيها قبل أن نشتريها ، وهى من طراز منتشر ، وبالتالى يمكننا الحصول على قطع الغيار بثمن رخيص ، وسوف يكون من السهل الحصول على الاطارات كذلك .. قال تومى : لقد تعلمت شيئا عن ميكانيكا السيارات فى السجن ، وكل ما قام به آل صحيح ، والآن لدى شئ أود أن أقوله لكم ؛ كاسى الواعظ يريد أن يذهب معنا الى الغرب ، وهو انسان طيب .. قال الأب : لكننى أتساءل : هل بامكاننا ركوب السيارة جميعاً والواعظ كذلك ؟ وهل فى امكاننا اطعام فم آخر ؟ هل يمكن يا زوجتى ؟ قالت الأم بوضوح : المسالة ليست " هل بامكاننا ؟ " بل " هل نحن على استعداد ؟ " ، وأنا أقول اننا على استعداد ؛ فعائلة جوود لا يمكن أن ترفض تقديم الطعام أو ركوب السيارة لأى انسان يطلب ذلك "
    على الطريق المؤدى الى الغرب حدثت لهذه العائلة الفقيرة المطرودة التى تبحث عن لقمة تأكلها ومسكن يؤيها مفارقات ومواقف نحو تحقيق حلم الوصول الى كاليفورنيا ، تلك الجنة الموعودة التى سيعوضهم العيش فيها ما لاقوه من فقر وجوع واذلال .
    حوار قصير معبر بين الأم وابنها ( آل ) الذى كان يتولى قيادة السيارة " سألها آل : هل أنت خائفة يا أمى من الذهاب الى مكان جديد ؟ هل تخشين ألا يكون بنفس الصورة التى تخيلناها ؟
    اتسعت عينا الأم وأخذت تفكر فى هدوء ، وقالت : أنا لست خائفة الى حد كبير ، فأمامنا فرص عديدة للحياة من الممكن أن نحياها ، لكن فى اللحظة الراهنة ليس أمامنا سوى الطريق والرحلة ، وسرعان ما يطلب الجميع الطعام ، هذا كل ما أفكر فيه " .
    ولكن هل تملك العائلة أى اختيار ؟ فليس أمامهم الا المسير الى مكان يجدون فيه مقومات الحياة ويوفر لهم عملاً وسكناً ، ومهما سمعوا على طول الطريق من كلمات تثبط هممهم وتشوه فى خيالهم صورة كاليفورنيا ( الحلم ) ، فسيواصلون السير حتماً ، لسبب بسيط : وهو الذكرى السيئة التى خلفتها سنوات العيش فى أوكلاهوما ؛ تلك الذكرى التى تجعل العودة الى الوراء من المستحيلات .
    تتعرف العائلة بأخرى على الطريق الى كاليفورنيا ؛ ورغم ما يلاقيانه من متاعب ومصاعب الا أن أفراد العائلتين يجلسون معا ، يمنون أنفسهم بغد أكثر أمنا ورغدا .
    يقول شتاينبك فى وصفه لواحد من آلام عائلة جوود على الطريق الى كاليفورنيا : " ودون سابق انذار بدأ الجد يبكى ، اندفعت اليه الأم وأحاطته بذراعيها ، قالت سارى : أدخلوه الى خيمتنا ، بامكانه أن يستريح قليلا . ساعدت الأم الجد فى الدخول الى الخيمة ، ثم خرجت ونظرت الى كاسى ( الواعظ ) ، قالت : الجد مريض ، تعال وألق عليه نظرة .
    كان الجد راقداً على ظهره ، عيناه مفتوحتان ويحملق الى أعلى ووجهه أحمر ويتنفس بصعوبة . وضع كاسى يده على جبهة الجد ، وبينما كان يتطلع الى وجهه المربد اللون ، دخلت الأم . قالت : ماذا به ؟
    أعتقد أنه سيصاب بنزيف فى المخ .
    صاحت الجدة خارج الخيمة : أريد أن أراه ، انه ليس مريضاً ، لكنه متضايق بعض الشئ . خرج كاسى من الخيمة ، وقال : انه ليس متضايقا يا جدة ، لكنه مريض ، مريض فعلا .
    قالت الجدة : لماذا لا تصلى من أجله اذن ؟ ألست واعظا ؟ . بدأ الجد يصارع الموت ، وفجأة انتفض جسده ورقد ساكنا . "
    ثم يختم شتاينبك حادثة وفاة الجد بمأساة ؛ حيث احتارت العائلة كيف ستدفن الجثة خارج وطنه وبأى طريقة : " قال الأب : يجب أن نفكر فيما سنفعله بالجثة ؛ فليس معنا سوى مائة وخمسين دولاراً ، واذا بلغنا بوفاته سوف يأخذون أربعين دولاراً لدفنه !
    سأل آل : وماذا سوف نفعل ؟ قال الأب بهدوء : سوف ندفن الجد هنا ، ونكتب بياناته فى ورقة نضعها فى زجاجة ندفنها معه ؛ بيانات تفصح عنه ، ولماذا دفن هنا . أحضر الرجال الأدوات للحفر ، وقام الأب بوضع علامة على الأرض وقامت الأم بغسل الجثة وكتب توم بياناته بعناية على قطعة من الورق ، وعندما أصبح كل شئ جاهزاً ، وقفت العائلتان حول القبر ، وألقى كاسى موعظة قصيرة ، وردد الجميع : آمين " .
    وبعد الانتهاء من دفن الجد تجلس العائلتان للعشاء ، ولندع شتاينبك يصف حال العائلتين وقد جلستا تتناولان البطاطس واللحم وتسردان الأمنيات والأحلام : " عادت النساء الى الخلف ناحية النار لاعداد العشاء ، فى حين قام الرجال بردم الحفرة بسرعة . ركعت روزا شارون بجوار النار وتطلعت الى أمها :
    أنا مرتعبة يا أمى ، هل سيؤذى ذلك الجنين ؟ قالت الأم : مرتعبة ؟ لابد أن تتماسكى خلال الأشهر القادمة ، انسى نفسك والجنين لفترة .
    عندما انتهى طهى اللحم والبطاطس ، جلست العائلتان على الأرض لتناول الطعام ، يخيم عليهم الصمت ويحملقون فى النار .
    فى الفصل السابع تواجه الأم بحزم خطة لتفريق العائلة بسبب عطل أصاب السيارة ؛ فقد اقترح توم هذا الاقتراح ، فقال موجها حديثه الى ويلسون : سيارتك تسير ضعف سرعة السيارة النصف نقل ، فلنخفف حمل السيارة نصف النقل بعض الشئ وتنطلقون أنتم ، وسأبقى هنا أنا وكاسى لاصلاح السيارة ثم نلحق بكم .
    قالت الأم بقلق : وكيف يتسنى لكما معرفة مكاننا ؟
    قال توم : لا تشغلى بالك ، سوف نعثر عليكم ، فكاليفورنيا ليست العالم أجمع .
    قال الأب : لا بأس ، ومن الأفضل أن ننطلق الآن ، فمن الممكن أن نقطع مائة ميل قبل حلول الظلام . خطت الأم خطوتين لتقف أمامه وقالت : لن أذهب ، وهنا فوجئ الأب تماما ، وقال : ماذا تقصدين ؟ ومن ذا الذى سيرعى شئون العائلة ؟
    توجهت الأم ناحية السيارة ، التقطت عصا رافعة السيارة وأمسكتها بيدها وزمت شفتيها فى غضب وقالت : السبيل الوحيد لتحملنى على الذهاب هو أن تضربنى ، هيا ، حاول أن تفعل ذلك . تطلع الأب حوله وقد أسقط فى يده .
    راقب الجميع الأب متوقعين أن يفقد أعصابه ، أو أن يصرخ أو أن يضربها ، لكنه أمسك أعصابه ولم ينفعل ، وتدلت يداه فى استسلام الى جانبيه ، تيقن الجميع أن الأم انتصرت ، وتأكدت الأم من ذلك أيضا .
    قال توم : أمى ماذا جرى لك ؟ قالت : أنت لم تفكر بشكل جيد ، أما أنا فقد فكرت ؛ ما الذى بقى لنا فى هذا العالم ؟ لم يبق لنا سوى العائلة ، النقود لن تكون ذات فائدة لو تشتتت العائلة ، أنا لا أخشى شيئا عندما نكون معا ، وأنا على استعداد لأن أضرب أى أحد بهذه العصا لو أن عائلتى تشتتت . "
    نجحت الأم بمنطقها وعصاها فى اقناع الجميع ، ولكن السؤال هو : هل ستنجح الأم فعلا فى الابقاء على العائلة متماسكة رغم كل ما يواجهها من تحديات ومخاطر ، وبعد أن بدأ اليأس يتسرب الى النفوس خاصة بعد الحديث الذى دار بينهم وبين أحد الرجال داخل احدى المعسكرات التى نزلوا فيها للمبيت ؛ كان – كما يقول شتاينبك : " رجلا نحيفا يرتدى ملابس رثة يحدق فى الأب . ضحك ضحكة غبية بصوت عال وقال : الى أين أنتم ذاهبون ؟ الى كاليفورنيا لجمع البرتقال أو الخوخ ؟
    قال الأب : سوف نقوم بأى عمل
    ضحك الرجل ذو الثياب الرثة ثانية . التفت اليه توم وقال له : ما الذى يضحك فى ذلك ؟
    قال الرجل : لأن الجميع متوجهون الى كاليفورنيا ، وأنا عائد من هناك ، لقد كنت هناك !
    التفتت كل الوجوه اليه بسرعة ، وتسمرت أجساد الرجال فى مكانها .
    قال الرجل : أنا عائد الى بلدى ، وأعلم أننى سأعانى من الجوع ، لأنه من الأفضل لى أن أعانى من الجوع فى بلدى على أن أعانيه فى أى مكان آخر .
    قال الأب بغضب : لكن الاعلان الموجود معى يقول أنهم فى حاجة الى مزيد من الرجال .
    قال الرجل : لقد رأيت ذلك الاعلان ، ان صاحب هذا الاعلان يطلب ثمانمائة عامل ، لكنه طبع خمسة آلاف اعلان ، وربما قرأه عشرون ألفا .
    صاح الأب : لكن ذلك شئ غير معقول .
    قال الرجل : لكنه معقول بالنسبة للرجل الذى طبع هذه الاعلانات ، لأنه استغل حاجة الناس الى الطعام ، لذا فقد كان يقول لهم : سأدفع عشرين سنتا فى الساعة .. من الممكن أن نقول أن ألفاً توجهوا اليه ، نصفهم لن يقبل القيام بالعمل بمثل هذا الأجر ، لكن الخمسمائة الآخرون فى منتهى الجوع ، وسيقومون بالعمل حتى مقابل البسكويت ، وكلما جاءه مزيد من الرجال الجوعى ، كلما قل ما يدفعه من أجر .
    تلفت الرجل ذو الثياب الرثة حوله ، واستطرد قائلا : أنا أقول لكم ما استغرق منى عاما حتى اكتشفته ، ومات منى طفلان وزوجتى ، وأنا ألهث هنا وهناك لأحاول العثور على عمل ، ليس من أجل النقود ، لكن لمجرد قليل من الطعام ليبعد عنهم الموت جوعاً "
    هنا اكتفيت من الرواية فيكفى ازعاجاً الى هذا الحد ، لكن هل ترانى ذهبت بعيداً عن القصة ؟
    نعم .. وبعيداً جداً عبر الزمان والجغرافيا معاً ، لتدركوا الى أى مدى أزعجنى هذا النص ، ولابد من الانزعاج والشحططة والمرمطة ومعايشة معاناة الشعوب والأمم فقط من أجل لقمة عيش وعائلة ومسكن ومجتمع فيه سلام وأمن ، لنعود راضين سعداء كحال هذا البطل السعيد الذى يشتاق كل ليلة الى صباح شاق يطعم فيه أولاده ويجمعهم حوله ويشعرهم بوجوده وبتماسك العائلة ويصنع فيهم الأمل فى البقاء والاستمرار والمستقبل ، فتلك هى لحظته ولحظتهم الفاتنة .
    عائلة جود مثلها مثل آلاف الأسر الأمريكية المعدمة التى دفعتها الظروف الاقتصادية القاسية هرباً من الموت جوعاً أو جفافاً الى ترك وطنها بأوكلاهوما بعد أن أصابها الجدب والجفاف خلال فترة قصعة الغبار والسفر غرباً الى كاليفورنيا سعياً وراء حياة أكثر أماناً ، فمن يشاهد الغبار والقسوة والموت والجوع فى تفاصيل " عناقيد الغضب " يدرك معنى كيف تفرح الشمس بمغازلة العرق على جبين الأب الذى يعانى ويتعب ويكابد المشقة فى سعادة ورضا ليطعم أبناءه ، ومن يقرأ التيه والضياع والشعور بالتمزق والتشتت فى " عناقيد الغضب " يعى جيداً كيف ارتسمت " عناقيد الرضا " على محيا بطل القصة وهو يوفر الأمان والأمل لعائلته رغم شح الامكانيات .
    ملحمة شتاينبك نقد حاد للمجتمع الأمريكي فى تلك الحقبة وفضح للتناقض بين الأفكار التي قام عليها المجتمع الأمريكي مثل العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وبين الواقع الأليم لأسرة بسيطة تعاني من أجل الوصول إلى الحد الأدنى من سبل المعيشة فقط بيت وعائلة ووظيفة آمنة ، وكل دولة ونظام ومجتمع عرضة لهذا النقد وهذا الفضح اذا لم تتوفر للأسر البسيطة الحد الأدنى لتشعر بقدر من السعادة ، وهو لا يتوفر الا اذا كان هناك قدر من الأمان والشبع والأمل والشعور بالوجود والحياة .
    شتاينبك يقول – كما أسلفنا - : " لقد فعلت كل ما في وسعي لأحطم أعصاب القارئ إلى أقصى حد ، ذلك أنني لا أريده أن يكون راضياً " ، و " معشى " أزعجنى فأزعجت القارئ معى بالعودة الى التيه والتشتت والجوع والفقر المميت والى قدرات شتاينبيك بالفعل فى تحطيم أعصاب القارئ ، لكن لنعود مرة أخرى بعد جولة من السخط والغضب والانزعاج ، لنعرف قيمة السعادة ومعنى الرضا فى قلب وعلى ملامح بطل هذه القصة ولو فى مساحة ضئيلة محدودة من الأمان وتماسك العائلة وتوفر المقومات الضرورية للحياة .

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,110
    المواضيع : 317
    الردود : 21110
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    اللحظة الفائتة .. هو انتظار وترقب ابتسامة الصغير ورضاه عندما يشعر بالشبع ، ويظل البطل يرضى بهذا الحال
    وواقع القسوة ويصاحب المعاناة ويصادق التعب ويتمنى العيش فيه الى الأبد ما دام صنيعه يرضى صغاره ويسعدهم ويشبعهم .
    قراءة جميلة من حلال استعادة أحداث رواية ملحمية لكاتب كبير ( جون شتاينبك ) ـ والتي كانت تسعى للوصول لمعايشة
    وتقبيل اللحظة الفائتة.

    (لقد فعلت كل ما في وسعي لأحطم أعصاب القارئ إلى أقصى حد ، ذلك أنني لا أريده أن يكون راضياً " ،
    و " معشى " أزعجنى فأزعجت القارئ معى بالعودة الى التيه والتشتت والجوع والفقر المميت والى قدرات شتاينبيك
    بالفعل فى تحطيم أعصاب القارئ ، لكن لنعود مرة أخرى بعد جولة من السخط والغضب والانزعاج ، لنعرف
    قيمة السعادة ومعنى الرضا فى قلب وعلى ملامح بطل هذه القصة ولو فى مساحة ضئيلة محدودة من الأمان
    وتماسك العائلة وتوفر المقومات الضرورية للحياة .)


    شكرا لقراءة جميلة راقت لي فاستعدت النص في ضوء ما كشفت القراءة هنا من جمالياته.
    بوركت ـ ولك تحياتي.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة في قصة " الرحلة " للأديب يوسف إدريس
    بواسطة دينا نبيل في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 21-10-2022, 08:29 PM
  2. "البائـس" ...قراءة نقدية تحليلية فى قصة "الانتقام الرهيب " للأديب : محمد نديم
    بواسطة د. نجلاء طمان في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 07-07-2022, 11:34 PM
  3. اللحظة الفاتنة..
    بواسطة علي أحمد معشي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 09-11-2014, 12:42 PM
  4. قراءة فى قصة " اتجاه " للأديب حسام القاضى
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 14-10-2014, 06:05 PM
  5. ترنيماتٌ نيلية ٌفى قصر ِ الرشيد...!!
    بواسطة عبدالوهاب موسى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 30-11-2011, 09:39 PM