البَشْهية *.. للأديب الدكتور موسى نجيب موسى




تلتصق قدماها بأرضية الطابق الثالث من المدرسة .. تستند على السور الحديدي الذي يحول دون سقوط التلاميذ.. تتأمل وتترك عينيها تسبح في الفضاء الواصل بينها وبين البَشْهية .
لا تشعر بوقع أقدامه رغم اقترابه جداً منها .
- أنت أجمل كثيراً بدون النظارة .
حوائط أسمنتية صنعها الصمت المطبق على المكان بين فمه وأذنيها .
أعاد الكلام عليها مرة أخرى :-
- أنت أجمل كثيراً بدون النظارة .
اتسعت شفتاها بابتسامة باهتة وزاغت عيناها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية ... بلا إرادة تملك عليها توجيه أفعالها قامت بنزع نظارتها... ضحك ... لم تشأ أن تعرف لماذا ؟
لكن عيناها امتلأت بالرعب عندما مر من أمام الباب الخارجي أحد أقاربها وأخذ يحملق فيهما ... رجعت عدة خطوات للخلف .
- لماذا تخافين ألا تعصمك هذه " الدبلة " التي تزين بنصرك الأيمن من مجرد الشك ؟
- الشك ملاذ ، وخاصة لأمثالي .
لم يفهم معنى كلامها ولكنها عادت تقول :ـ
- الشك مقبرة – أشارت إلى البشهية – مثل هذه المقابر الكثيرة التي أتمنى أن تحتويني إحداها في يوم قريب جداًً .
- لماذا التشاؤم؟
- ولماذا التفاؤل ؟
عرف بعد ذلك من إحدى زميلاتها القريبات منها أنها مرت بتجربة قاسية ولم تملك حيالها سوى أن توافق على أول من يتقدم لها لتقطع الكثير من الألسنة التي بدأت تلوك سيرتها .. فكان خطيبها الذي ألبسها "الدبلة" ورحل إلى بلاد النفط .. وكانت هي بقايا أنثى تحاول أن تُلَمْلِم رفاتها في أقرب مقبرة .
في صباح اليوم التالي كانت قدماها تلتصقان بأرضية الطابق الثالث من المدرسة .
تستند على السور الحديدى.. تتأمل ثم تترك عينيها تسبحان في الفضاء الواصل بينها وبين البشهية .
شعرت بوقع أقدامه بمجرد أن اقترب منها .
-أنت أجمل بدون النظارة.
لم تتسع شفتاها بأية ابتسامة ولم تزغ عيناها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية ، وملكت أخيراً ارادتها فلم تنزع نظارتها .
لم يضحك .. لم تمتلئ عيناها بالرعب على الرغم من مرور قريبها ذاته من أمام الباب الخارجي للمدرسة وحملقته فيهما .
- أنت أجمل بدون النظارة.
سمعتها للمرة الثانية .. لكنها لم تشأ أن ترد عليه وراحت تتأمل في البشهية بعمق أكثر وأكثر و .......


* البشهية : منطقة تقع أمام المدرسة الإعدادية بقرية منشأة منبال – مركز مطاي – تضم مقابر أهالي القرية .



رؤية نقدية / هشام النجار

هنا أديب محترف متميز يمتلك أدواته جيداً ويتقن توظيفها فى المكان والزمان المناسبين ، برؤية فلسفية خصبة متعمقة ، وبعد انسانى ثرى بالتأملات والتحليلات والتقصى ، وشخصيات مختارة بعناية فائقة ، بل بدأب وشغف وبحرص فنان حقيقى على نموذجه الفنى ليصل الى ذروة الاكتمال والنضج .
وقصة " البشهية " منشورة ضمن مجموعة نصوص قصيرة للكاتب هنا على الواحة الثقافية .
" البشهية " !!
ربما سينشغل الكثيرون بالعنوان أكثر من القصة ذاتها ، وأكثر من أبطالها ، وهذا نادراً ما يقدر عليه كاتب ؛ أن يُشغل قراءَه بعنصر مساعد فى قصته أكثر من انشغالهم بالبطل الرئيسى وأكثر من انشغالهم بالتطور الدرامى وتصاعد الأحداث وتسارعها وصولاً الى القفلة .
عنوان مثير للتأمل ، ووضعه بكل ما فيه من غموض فى المقدمة هكذا ، يجعلنا مع أبطال القصة وفلسفتها ورؤاها الانسانية كأننا فى دائرة مغلقة ، تبدأ ب"البشهية " وتنتهى اليها من جديد ، كما بدأت بها وانتهت اليها بطلة القصة .
الغريب بالفعل والمثير حقاً أننا ما ان نصل الى الكلمة اللغز حتى نعاود البدء من جديد ونواصل القراءة لنستزيد من كشف غموض المصطلح وضبط حقائق المعنى .
لنبدأ أول دورة ومحاولة ، والمدهش – وهذا لا يرتبط فقط ببطلة القصة وحدها انما بنا جميعاً – أنها ربما تكون الفرصة الأولى والأخيرة لاكتشاف اللغز واكتساب التجارب ، فلا نكاد نحظى بفرصة ودورة ثانية لنصبح أكثر دراية وأكثر حنكة وخبرة مع حدث الوجود الكبير الخطير وملحمية تصوراته وأبعاده ، وهذا ما أكده الحدث الرئيسى فى القصة ، وهذا ما قرره كتاب الكون وما تؤكده حقائق الحياة والوجود .
هى مرة واحدة فقط وفرصة واحدة فقط وتجربة واحدة فقط – للجميع فى هذه الحياة - وللمرأة مع الرجل اللذان تتشكل وتتطور فى روحهما وعمرهما وتاريخهما على الأرض صراعات الحياة وتفاعلاتها انتهاءاً بالخاتمة الذى ينظر اليها الجميع ، لكن تختلف نظرة كل انسان عن الآخر لتلك الخاتمة ، فمنهم من يراها صوبه مباشرة قريبة منه كتلك المسافة والمساحة الفاصلة بين المدرسة ومقابر القرية ، ومنهم من يراها بعيدة ومنهم من يهرب من رؤيتها لتتاح له التعددية والتنويع والتجريب فى فرص الحياة بدون قيود ثقيلة من تصورات وأفكار غيبية .
هى مرة واحدة وهى فرصة واحدة ، وتلك هى فلسفة القصة ؛ فاذا ترك الرجل بصمة السعادة على روح المرأة جعلها سعيدة طول العمر وتتشوق للزيادة منها ، أما اذا أنضجها بقسوته وغروره وخيانته وجحوده على نار اليأس والحزن والألم والاحساس بالخزى والمهانة ، فكيف لأحدهم بعد التجربة المريرة أن يغير الواقع ونظرتها للأمور- وهى المجربة الخبيرة – ببضعة كلمات أو لفتات رومانسية أو لمسات انسانية ؟
لا مجال هنا لفرصة ثانية .. فاما فرح دائم من أول لحظة ، واما حزن مقيم .
ولا يقدر أحد على اقناع صاحبات الشأن بأنهن بالفعل قد تغيرن وأن محاولات انتشالهن من هاجس التجربة القديمة قد نجحت ، فحتى لو نجح أحدهم فى ادخال احداهن فى تجربة جديدة ، فان الماضى الأليم يلاحق التجربة الوليدة بتداعياته وموروثاته وظلاله الكئيبة وذكرياته المُرة ، حتى ليكاد يخنقها .
انها تجربة وحيدة مع رجل بلا ضمير طوقت رقبتها بدبلة الشك وجرحت معالم وملامح الأنثى والانسانة بداخلها وأفقدتها " شهيتها " فى " الرجل " و فى " الحب " وفى تلمس وتتبع ملامح ومعالم أنوثتها وجمالها والاستجابة لمحاولات استعادة بريقه " أنت أجمل بدون النظارة " ؛ أى أنها فقدت شهيتها فى " الحماس للحياة " وخوض المزيد من تجاربها ، فلم يعد لديها مزيد !
هل اقتربنا نوعاً ما من كشف غموض العنوان ؟
" البَشْهية " .. هذه ليست مجرد قصة ؛ هذا ليس مجرد اسم منطقة تقع أمام مدرسة اعدادية بقرية منشأة منبال مركز مطاى محافظة المنيا تضم مقابر أهل القرية .. هذه قصة الحياة ، وقصة الوجود .
انها حالة انسانية ورؤية فلسفية ، تلخص مشاعر الانسان ونظرته للأحداث وللماضى وللمستقبل وتحسم قراراته المصيرية على وقع الحدث الكبير المحورى فى حياته .
فان لم يحسم مصيره بين الحياة والموت والسعادة والحزن ، فلا مجال لتكرار التجربة من جديد ؛ لأنها ببساطة حياة واحدة لا تتكرر ، وليس هنا الا ميدان للصراع تواجهه القبور .
هى قصة الرغبة وضدها ، والحماسة والفتور ، قصة الرجل والمرأة فى أعز وأعمق فهم للتفاصيل وصولاً للخاتمة .. قصة الفوران والانطفاء ، اللذة والألم ، والاقبال والاقتحام والاشتهاء ثم الانقطاع والتخلى والذبول والانزواء ، قصة الشهية للحياة والاقبال عليها وعكسها ، ولذلك جاءت " الشهية " هنا مسبوقة بباء البتر ، فظهر هذا المصطلح الغامض ، لتشوش – باء البتر - وتقوض وتعوق فرص الانسان فى التجريب بصدق واقبال وحماسة وتفاؤل وأمل من جديد ، كما لو كانت التجربة البِكْر .
مرة واحدة فقط يحظى فيها الانسان بهذا الترف .. تلك هى فلسفة الوجود ، وعلى هذا ربانا رب الوجود سبحانه وتعالى ، فاما أن نكون أحياءاً بصدق ، تستحقنا الحياة ونستحقها ، نُقبل فيها على الرب المتعال ونشتهى رضاه ولقياه وجنته .
واما أن تسحقنا الحياة ونعيش فيها على حافة الموت بلا روح ولا سعادة حقيقية ، حالنا فيها لا يختلف عن الموتى فى القبور .
" أنت أجمل بدون نظارة " ؛ صيغت هذه الجملة على لسان " رمز المحاولة الثانية ورجل المدرسة " مرتين ، وفصلت بينهما تجربة الخيانة والجحود والشك والألم ، وفى المرتين كانت ردود أفعال البطلة مختلفة تماماً ومتناقضة تماماً تجاه نفس الأحداث والكلمات .
هى لم تشعر بوقع أقدامه فى المرة الأولى رغم اقترابه جداً منها ، وفى الصياغة الثانية تشعر به ، ربما كانت أقرب الى واقعها الحقيقى فى المرة الثانية التى حسمت فيها الأمر وقررت وجهة المسير .
بل ما نفهمه أن المرة الأولى لم تحدث على الاطلاق ولم تضحك ولم تنزع نظارتها ، انما كانت مجرد وهم ، وأن المرة الثانية هى حقيقة ما حدث وانما صاغ الأديب تجريباً للنظر بين الحالتين وليقرر القارئ بنفسه أيهما أقرب للتحقق وأيهما أقرب وألصق بالواقع .
واقع لا تقدر معه على خلع نظارتها لترى الحياة من زجاج آخر غير زجاج التشاؤم والشك والتردد والهواجس والألم الذى نحتته فى روحها التجربة الأولى .
فلا تسمح لأحد أن يراها أجمل ، فمتى استمتعت هى بجمال الحياة وصفائها ليستمتع الآخرون بجمالها ؟
ومتى قدر الآخرون جمالها وأعطوه حقه واحترموا كيانها كانسانة وكامرأة بلا خيانة وبلا ألم وبلا شكوك وظنون سوداء لتسفر عن جمالها وتبتهج وتضحك للحياة وتراها بعيون الأمل والاقبال والتفاؤل لا من عدسات الألم والشكوك .
كانت تقترب هنالك من عالمها الحقيقى .. عالم الموتى ، وان كانوا أحياء .... عالم الب " شهية " .
اللغة شيقة وسلسة وعميقة الدلالة وموظفة بشكل جيد لتناسب مضمون القصة ورؤاها الفلسفية البعيدة ، وجاءت العبارت الوصفية ذاتها لتؤدى ذلك الغرض الفلسفى وتدعم تشريح حالة البطلة النفسية وكشف أفكارها ومخاوفها وهواجسها ، كتلك الجملة الوصفية التى وظفت لغرضين أحدهما وصف سور المدرسة والغرض منه وأيضاً وصف حالة البطلة التى لا يفصلها عن السقوط سوى مجرد سور " تستند على السور الحديدي الذي يحول دون سقوط التلاميذ " .
الزمان الحاضر فى القصة غائب الا من الاشارة للفاصل الزمنى بين المرتين " فى صباح اليوم التالى " والذى شهد حالة المفاصلة والانقطاع ، بينما الزمان الماضى حاضر بقوة ، ليس فقط فى الفلاش باك على لسان الزميلة يحكى خلفية الحدث ، انما حاضر فى كل أحداث القصة ؛ فهواجس وشكوك ومرارات الماضى هى التى توجه الأحداث وتصنع القرارات المصيرية .
المكان ضيق ومحدود المساحات ، فلا رحابة ولا فسحة للانطلاق ، فهى تنتقل بين أرضية الطابق الثالث من المدرسة ، والسور الحديدي ، وتنظر فقط الى الفضاء الواصل بينها وبين البَشْهية ، وعندما يُراد وصف العلاقات وفراغ المساحات بينها وبين الوافدين الجدد على أحاسيسها المضطربة ووجدانها المجروح وكيانها المحطم ، فهى حوائط أسمنتية صنعها الصمت المطبق على المكان ، وأقصى طموح للسياحة وتغيير الجو للخروج من الكآبة والقلق والاحباط ، ف " المقابر الكثيرة التي أتمنى أن تحتويني " .
حالة القصة الفنية بخير ، لكنها لم تكن فى حاجة لتكثيف الصور الفنية غير المرغوب فيها خاصة فى القصص المشحونة بهذا القدر من الترميز والرؤى الفلسفية العميقة ، ولذلك جاءت الصور فى حدها الأدنى ، وجاءت المقابلة الوصفية بين المشهدين الرئيسيين أكثر من رائعة وهى ابتكار ابداعى وتطوير فى فنون السرد ، فالمقابلة السريعة فى جملتين ومشهدين متناقضين أغنت عن الكثير من القوالب التقليدية للتعبير عن ترجيح الانقطاع والترك على الاكتراث والحماسة لأى شئ .. هكذا " عيناها امتلأت بالرعب عندما مر من أمام الباب الخارجي أحد أقاربها وأخذ يحملق فيهما ... رجعت عدة خطوات للخلف " .
" لم تمتلئ عيناها بالرعب على الرغم من مرور قريبها ذاته من أمام الباب الخارجي للمدرسة وحملقته فيهما " .
أما الصور الفنية والجمل والتساؤلات السريعة الخاطفة ، فجاءت دقيقة ومعبرة باحترافية عن حالة البطلة النفسية ، وشكلت ملامح قرارها النهائى ووجهتها الأبدية ..
" الشك ملاذ "
" الشك مقبرة "
" ولماذا التفاؤل "
" راحت تتأمل في البشهية بعمق أكثر وأكثر " .