هناك قضية مهمة جداً فى ضبط الحركة ومسيرة المنهج الى الأمام وهى كيفية التعامل مع الزعامات والقيادات من الخصوم ، وعلى اعتبار أن هناك مسارات زاعقة منفلتة تسير وفق رؤية استئصالية ترى أنه لا استقرار للقيادة الموازية فى وجود زعامات أخرى فلا مفر من طمسها ومحو ، لكن ماذا كان تأثير هذا السلوك المعادى على مسيرة المنهج ولا نسأل هنا عن حال الخصوم ولا أوضاع ومستجدات الأمور فى ساحة الأعداء ، فما يهمنا هو الثمار فى أرض الدعوة بعد كتابة العناوين الاستئصالية ؟ هنا لابد من العودة الى فكر وتخطيط القائد المنهجى الرائد صلى الله عليه وسلم حيث كانت له رؤية استراتيجية جديرة بالدراسة ، وهى رؤية أكثر انفتاحاً وتخلياً عن الحذر المرضى الذى ينتج خصوماً جدداً ويكثر من الأعداء مع عدم الانجاز فى طريق صناعة حلفاء وأصدقاء ومتعاطفين مع الدعوة ، وهذه الفلسفة الرسولية تتلخص فى طمأنة قيادات الخصوم بادئ ذى بدء أن الحركة الجديدة لا تمثل تهديداً على امتيازاتهم ومكتسباتهم السياسية والاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية ، بل هى داعم لتحصيل مزيد من المكاسب والامتيازات وهى باب آخر للوجاهة وان كانت وجاهة أعلى وأغلى من وجاهة المال والنسب والمنصب فهى متعلقة بالعزة الرسالية واستصحاب المكانة الذاتية فى الارتفاع مع قيم الاسلام وفتوحاته الروحية والانسانية ، ونلمس ذلك من سلوك القائد المنهجى الرائد مع أبى سفيان ودقة التعامل مع تلك الزعامة الكبيرة وهو ما نلمسه فى هذا التأصيل المنهجى الجدير بالتأمل لكل من يتبنى مساعى الاصلاح والتغيير عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " والحديث فى البخارى " : " الناس معادن ، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الاسلام اذا فقهوا ".
المنهج ليس غريباً على الأرض والكون المحيط وعن التاريخ فهو قبل مجيئ رواده ورموزه مرتبط بالحياة وبالتاريخ وبالوجود ولذلك ففى المجتمعات وعند الناس وفى أعرافهم وتقاليدهم وقوانينهم بل وعند حضارات وثقافات الخصوم الكثير جداً مما يفيده ويدعمه ويتكامل معه ، فالسلوك الصحيح اذاً ليس المفاصلة التامة عن الوجود والمجتمع أو حتى الخصوم مما قد يعتبرهم البعض أعداءاً يجب منابذتهم ، وليس الانقطاع عن الواقع بزعم ضرورة هدم القائم ثم البناء من جديد ، انما البناء على ما هو قائم من خير والتواصل والاستفادة مما عند الخصوم من مشتركات ومما تتيحه قوانين وأعراف المجتمعات لضمان حماية المنهج وتوسيع دائرة مريديه ، فالمنهج بطبيعته تكميلى وليس انقلابياً " انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، والقائد المنهجى البصير هو الذى يخوض تجربة التكامل مع الماضى والتراث والتاريخ والحاضر والمحيط حوله من تيارات وأصدقاء وأقارب وحلفاء وأعداء وخصوم بعد فرز دقيق وموازنات متقنة بين المضار والمنافع والمصالح والمفاسد واستقصاء النفع والفائدة فى العلاقات مع الكيانات والأشخاص والأنظمة والدول دون خوف من دخول تحت هيمنة قوى تناصب المنهج العداء فالتفاصيل تحت هذا العنوان العريض والهاجس العام كثيرة تتيح التمكن من خيوط تفيد الحركة ولا تضرها وتقويها ولا تضعفها ، كما فعل القائد المنهجى الرائد صلوات الله وسلامه عليه عندما أقبل على حماية عمه أبى طالب له بالرضا والحرص على الاستفادة من تلك الحماية الى أبعد مدى ، وكذلك عدم استنكافه صلى الله عليه وسلم من نشدان العدل عند ملك نصرانى وهو النجاشى ملك الحبشة رغم أنه مسيحى ، فالعدل من المشتركات التى قربت بينهما وصنعت هذا التحالف الذى ما كان ليتم اذا كان النظر فقط الى مناطق الخلاف ومساحات دواعى الخصومة والمفاصلة ، وكذلك طلبه حماية المطعم بن عدى على كفره عندما خشى منع قريش له من العودة الى مكة بعد أحداث الطائف ، وخروجه الى المواسم والحشود واتصاله بالقبائل ومناداته " من يأوينى من ينصرنى حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة " ، بل واستفاد من أعراف وقوانين القبائل العربية قبل الاسلام وضمنها دستور دولة المدينة .. أما سلوك المفاصلة مع الواقع ومعاداة كل شئ والمفاصلة مع الجميع بزعم التميز أو أنه لن ينصر المنهج الا ذووه ، فهذا قصور خطير فى ذهنية القيادة وخلل كبير يؤدى الى العزلة والضعف ولا يجنى سوى الخسائر ، وتبقى منهجية التكامل وخلق مسارات للاستفادة والتفاعل مع ما هو قائم هى الطريق الآمن والنافع للدعوة والحركة والمنهج ولرواده وقادته أيضاً .