أحدث المشاركات

نسجل دخولنا بذكر الله والصلاة على رسول الله» بقلم عوض بديوي » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»»

النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: في العقل-حوار مع الجابري

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2014
    المشاركات : 9
    المواضيع : 5
    الردود : 9
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي في العقل-حوار مع الجابري

    العقل هو أولاً (بالاضافة وبالتوازي مع العمل) وسيلة الإنسان للتفاعل مع محيطه بأبعاده الثلاثه: الإنساني (المجتمع), الطبيعي والماوراء الطبيعي. هذه هي الأبعاد التي ينشط فيها العقل البشري, وبتفاعله معها جدليا ينتج ما نسميه الفكر, وما تنوع أشكال الفكر البشري هذا إلا انعكاس لتنوع البيئة التي يفعل بها العقل البشري, تنوعا عبر الزمان وعبر المكان.
    ثانيا: إنّ هذا العقل-الوسيلة يحوز على قدرات ذهنية تشكلت عبر التطور والانتقال الجدلي من الإحساس إلى الفكر حسب بافلوف (من خلال المنعكسات اللاشرطية المنظمة بشكل غرائز, النظام الأوّل للتنبيه بالإشارة الذي يتشكل بالحواس, والنظام الثاني للتنبيه بالإشارة الذي يتشكل بالنطق وهو النظام الخاص بالإنسان ), وتخصصت بهذه القدرات أجزاء من الدماغ من ذاكرة ولغة واستقبال للمعلومات وتحليل وتركيب وتجريد. ومن الأهمية الإشارة هنا إلى أنَّ هذه القدرات لا ترتبط فقط بفاعلية الدماغ الفيزيولوجية وإنَّما تطورت وبشكل أساس كنتيجة للفاعلية الاجتماعية (العمل) وأخذت تتشكل كمستوى أوّل للعقل منذ بدايات ظهور الوعي.
    إذاً فالعقل البشري (في مستواه الأوّل) هو مجموع هذه القدرات الذهنية التي اكتسبها الإنسان خلال مسيرة تطوره الطويلة والتي ترسخت في تركيبة جملته العصبية وبالأخص دماغه, وهي التي تحدد فعله ورد فعله على البيئة الخارجية ومؤثراتها. والعقل كأي شرط إنتاج, يتطور ويعيد إنتاج نفسه, ونتاج تفاعل هذا الشرط مع شروط الإنتاج الطبيعية المحيطة (المجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة) هو الثقافة, وكما أسلفنا, فإنَّ تنوع الثقافات هو نتيجة طبيعية لتنوع شروط إنتاجها.
    هذا المستوى الأوّل للعقل, هو ما يقابَل عند البعض بالعقل المكوِّن وهو برأينا الشكل الوحيد من أشكال فعاليات وتجليات النشاط الذهني البشري الذي يستحق هذه التسمية (تسمية العقل). أمّا ما يسمى بالعقل المكوَّن أو ما نقابله في هذا الكتاب بمصطلح المستوى الثاني للعقل, أي (مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا) حسب التعريف الذي يعتمده الجابري وينسبه إلى لالاند, والذي سنوضح ما يعنيه بهذا التعريف لاحقا, (انظر اعتراض ج. طرابيشي على نسبة المصدر والتعريف في: جورج طرابيشي, نقد نقد العقل العربي, نظرية العقل, دار الساقي, بيروت) فليس سوى لحظة ثقافية (طالت أم قصرت) في جدلية العقل-البيئة المحيطة كما سنفصل لاحقا.
    إنّ القدرات الذهنية والتي أشرنا إليها بالمستوى الأوّل للعقل, تتميز بالثبات النسبي, إذ يتطلب تطوير هذه القدرات آلاف بل ملايين السنين, والأهمّ أنّه يتطلب تغييرا نوعيا في مستوى تفاعل العقل مع عناصر البيئة المحيطة, كأن نطور حاسة جديدة تنقل لجهازنا العصبي معلومة جديدة نوعيًا عن البيئة المحيطة, أو اكتشاف نظام ثالث للتنبيه بالإشارة مما لم نشهد له دليلا حتى الآن. وهذا الثبات النسبي يجعلها القاسم المشترك الأعظم بين البشر عبر الزمان والمكان, فلا عقل غربي ولا عقل عربي (حسب الجابري) ولا عقل الحسن البصري وعقل ابن خلدون وعقل محمد عبده وعقل طه حسين (حسب أركون). وبهذا المعنى يكون العقل في مستواه الأول تاريخيا ولكن بالإطار التاريخي البشري ومقياس تاريخ ظهور وتطور الإنسان أي ملايين السنين, أما المستوى الثاني للعقل فهو تاريخي ضمن الإطار التاريخي الحضاري ومقياس تشكل الحضارات وتفاعلها أي بآلاف ان لم يكن بمئات السنين.
    يتمثل المستوى الثاني للعقل ولفاعليات الدماغ البشري في (الأنماط المعرفية) التي نعتمدها في استدلالاتنا. وتتشكل هذه في أنماط محددة ومتميزة عن بعضها نتيجة لتراكم الخبرات الفكرية, وبما يتناسب مع تنوع هذه الخبرات, وتنوع أشكال البيئة المحيطة التي يتفاعل معها العقل البشري. ومبدئيا ينقسم الفكر إلى تيارات أساسية على أساس من الموقف من أبعاد الواقع الموضوعي وعلاقتها ببعضها البعض. فنجد مثلا أن الفكر اللاهوتي بشكل عام, يدمج البعد الإنساني بالطبيعي في مواجهة البعد الماورائي (الله), فتقوم مثلا نظرية أن الإنسان قد سقط من البعد الإلهي إلى البعد المادي الطبيعي لسبب من الأسباب (الخطيئة الأولى) وأن هدف الإنسان الأوحد في حياته هو الإفلات من هذه الطبيعة المادية والعودة لطبيعته الإلهية الأصلية, فمصدر الحقيقة هو الإلهي, أما الصوفي وكحالةٍ متطرفة لهذا الفكر, فهو يلغي البعد الطبيعي نهائيا ولا يبقى في الكون سوى الله وهو.
    ومن جانب آخر, نجد أنَّ الفلسفات المادية المثالية تدمج البعد الماورائي (الله) بالبعد الإنساني (العقل) في مواجهة البعد الطبيعي وتجعل من العقل الكوني سيدا للوجود, ويصبح العقل هو مصدر الحقيقة. أما التيار العلماني الامبيريقي, فيقوم على أدماج البعد الماورائي بكل غموضه بالبعد الطبيعي في مواحهة البعد الإنساني, فينتفي وجود أي مصدر مطلق للحقيقة وتصبح الملاحظة الإنسانية بمحدوديتها مصدرا للحقائق النسبية. في حين يقوم التيار المادي الجدلي بدمج الأبعاد الثلاثة بعضها ببعض في بعد مادي واحد, ويميز الإنسان كنتيجة لاحقة لتطور الوجود المادي إلى (المادة التي تعي نفسها) أي أن الممارسة الإنسانية هي مصدر الحقيقة. هذه أنماط عامة لتوظيف العقل, نفس العقل, في مواضيع متباينة.
    أمّا تعريف الجابري للعقل (العربي) بواسطة مفهوم الثقافة المذكور سابقا فهو التالي (الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها, هي الثقافة العربية بالذات الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر في ذات الوقت عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن. أنظر: محمد عابد الجابري, تكوين العقل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية). هكذا تتداخل تعريفات العقل بالفكر بالثقافة لدى الجابري بشكل عملية دائرية تسمح بتمرير النتائج والمصادرة على المطلوب.
    أما ما يدعوه الجابري أيضًا بالعقل السائد فما هو إلاّ نمط معرفي واحد من عدة أنماط تتداخل مع بعضها, أما شكل تداخل هذه الأنماط مع بعضها والكلية العضوية لهذه الأنماط في لحظة تاريخية معينة, فهو ما يعرف بالنظام المعرفي. إنّ توظيف هذه الأنماط قد يكون انتقائيا كما هو في توظيف الجابري في نقده للعقل العربي , وحسب ما تفرضه انتماءات الباحث العقائدية أو السياسية, وهو ما يكون جليا عند البحث في المجتمع أو ما وراء الطبيعة, وبدرجة أقل في العلوم الطبيعية.
    تعريف العقل باختصار عند الجابري هو العقل المكوَّن (بتشديد وفتح الواو) والذي ينسبه إلى لالاند على أنه (مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا. أنظر: المصدر السابق) بمعنى المستوى الثاني للعقل, مع الإشارة إلى أن الجابري ينسب إلى لالاند وإلى جانب هذا التعريف , تعريفا للعقل في مستواه الأول أي العقل المكوِّن (بتشديد وكسر ألواو) على أنه (الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية وهي واحدة عند جميع الناس. المصدر السابق). (انظر مؤاخذة طرابيشي لنسبة هذا التعريف أيضًا إلى لالاند في كتابه المذكور). ولكن الجابري يقفز عن هذا التعريف للعقل في مستواه الأول ويستعير من ليفي شتراوس تعريفا لهذا العقل والذي يقول بأن المكوِّن (بالتشديد والكسر) يفترض المكوَّن (بالتشديد والفتح) (وهذا يعني أن النشاط العقلي – الفاعل – إنما يتم انطلاقا من مبادئ وحسب قواعد , أي انطلاقا من عقل سائد, الشيء الذي يغرينا بالقول إنَّ العقل العربي هو, حتى في مظهره الفاعل, من إنتاج الثقافة العربية وكذلك الشأن بالنسبة لأي ثقافة أخرى والعقل المنتمي إليها الشيء الذي يخفف من الاعتراض القائل بـ "كلية العقل" أو "كونيته". المصدر السابق). الجابري يصادر على المطلوب من خلال قفزه من لالاند إلى شتراوس ويستثني تعريف العقل على أنه العقل في مستواه الأول بحجة إغلاق الباب أمام التعريفات المثالية للعقل. أي أن الجابري قد حول العقل السائد أو العقل في مستواه الثاني من نسبي إلى مطلق, ويعيد هذا العقل إنتاج نفسه من نفسه وبنفسه في معزل عن الواقع الموضوعي. هذا عندما اقتضت الحاجة مثل هذا التعريف الذي يجعل العقل عقولاً متباينة, أمّا عندما اقتضت الحاجة أنْ يكون العقل واحدا و(مشتركا بين الناس) نجده يقول (من خصائص الفكر الفلسفي أنّه يقبل التلخيص و"التمطيط" والشرح والتعليق, والحكاية والتأويل... سواء باللغة التي كتب بها أو بأي لغة أخرى... ذلك لأنه خطاب عقل- والعقل مشترك بين الناس أنظر: د.محمد عابد الجابري, الخطاب العربي المعاصر, مركز دراسات الوحدة العربية) .
    الفرضية البديلة التي نتبناها هنا, هي أنَّ هناك علاقة جدلية بين العقل في مستواه الأوّل والعقل في مستواه الثاني, وأنَّ هذه العلاقة تتحدَّد بالوظائف المناطة بهذين العقلين. فالعقل في المستوى الأوّل يصنع العقل في مستواه الثاني من خلال تفاعله مع الواقع بجميع أبعاده التاريخية والطبيعية, أمّا العقل في مستواه الثاني, فيقوم بصياغة هذا الواقع على شكل مادة عمل للعقل في مستواه الأوّل. وبهذا المعنى يكون نقد العقل هو نقد يمارسه العقل في مستواه الأوّل على مستواه الثاني, وبهذا المعنى أيضًا, فإنّ ظهور (أزمة عقل) يعني انقطاع هذه العلاقة الجدلية بين العقلين. نجد عند ج. طرابيشي تعاملا مع هذه الفرضية ولكن من خلال دائرة (العقل العربي) بمقابل (العقل الغربي), ومن خلال الزوج عقل مكوَّن وعقل مكوِّن عربيين مختلفين عن نظيريهما الغربيين. فمشروع طرابيشي هو توحيد العقل العربي بعد تشطيره من قبل الجابري في مقابل الغربي, وليس توحيد العقل البشري: (فالعقل العربي الإسلامي قد تكون بصورة نهائية في تراث. بينما لا يجوز الحديث عن "تراث الغرب" إلا على سبيل المجاز, فالعقل الغربي بشقيه المكوَّن والمكوِّن ما زال في فاعلية لا متناهية أنظر: جورج طرابيشي, نقد نقد العقل العربي, نظرية العقل, دار الساقي, بيروت)
    ننتقل هنا إلى (الطرف الآخر) من ثنائية العقل العربي-العقل الغربي إلى مفهوم العقل كما يقدمه جون هرمان راندال في كتابه تكوين العقل الحديث, وذلك لأغراض المقاربة مع الجابري. راندال وإنْ كان لا يقدم تعريفا مباشرا للعقل أسوة بالجابري, إلا أنَّ منهجية البحث لديه تمكننا من رسم صورة واضحة الحضارة اليوم في معرض الثناء, فالذي نعنيه بالحضارة هو ذلك المجموع من الاعتقادات والعادات السائدة في أوروبا وفي أجزاء الكرة الأرضية التي يقطنها أناس من أصل أوروبي. وإذا توخينا من هذا التحديد بعض الغايات وجدناه مرادفا للعالم المسيحي. وإذا توخينا غايات أخرى غيرها وجدناه مرادفا للبلدان التي حسنتها الثورة الصناعية) . إذن فعناصر (الثناء) في هذا العقل هي الأوروبية-المسيحية العلمية. بالإضافة إلى هذه المقدمة, فإنَّ راندال يبتدئ التأريخ لهذا العقل من القرن الثاني عشر ميلادي, أي مع أفول العصر اللاهوتي وبداية العصر الميتافيزيقي في أوروبا ثم مرورا بوضعية القرن الثامن عشر وانتهاء بعلمانية العصر الحديث. أي أنَّ راندال اختزل الجهود والمؤثرات الحضارية الأخرى والتي أوصلت أوروبا إلى بدايات عصور العقلانية, إلى عصر أشبه بعصر الجاهلية لدى مُدوِّني التاريخ من منظور إسلامي. من هذه الملاحظات وأخرى عديدة موزعة على مدى العمل المذكور, نستنتج أنَّ تعريف راندال الضمني للعقل هو العقل السائد وهو بالإضافة إلى ذلك مبني على نموذج المركزية الأوروبية وتميز العقل الأوروبي نوعا عن العقول الدائرة في أفلاك حوله وبتأثيره.
    للخروج من هذه الثنائية المبنية على مركزية العقل الغربي, نعرف العقل من خلال دوره في عملية إنتاج المعرفة. عملية الإنتاج, أي عملية إنتاج تتشكل من أداة وموضوع, ونمط توظيف الأداة في الموضوع. الفأس هي أداة, والتربة هي الموضوع, والنمط الزراعي يحدد توظيف الفأس في معالجة التربة. واضحة هي العلاقة الجدلية بين الموضوع والنمط, وبالتالي تغير النمط مع تغير الموضوع بالمقارنة مع الثبات النسبي للأداة (سبق وأن أوضحنا أسباب الثبات النسبي للعقل في مستواه الأول على الرغم من تاريخيته). فإذا ما شاء أحدنا اليوم أن يبحث في علوم الكلام من الأمس وأن يغرق نفسه فيها, كان ولا بد أن يسود عليه النمط البياني, أي النمط العقلي الذي ساد في ذاك الأمس, فالموضوع يفرض النمط, وإن شاء أن يتوه في علوم العرفان ساد عليه وبالضرورة النمط الباطني أي العقل العرفاني حسب الجابري, وكذلك إذا ما أراد التأمّل السكوني في ألموجودات, طغى عليه النمط البرهاني أي عقل أرسطو حسب الجابري أيضًا. ولكن وفي كل الحالات, سيوظف العقل نفسه, العقل في مستواه الأول أو العقل المكوِّن.
    إذا ما تماشينا مع رغبة الجابري وراندال, وألزمنا أنفسنا بتعريف العقل من خلال النمط أي العقل السائد كشرط ضروري, توجب علينا عندها أن ندخل في حد التعريف الموضوع أيضا كشرط كاف. فالنمط الفكري أو العقل السائد في بحث الرياضيات مثلا يختلف تماما عن النمط الفكري أو العقل السائد عند البحث في الشعر. فالحالة الأولى يسود فيها توظيف جانب الفكر الموزون وفي الثانية يسود جانب الفكر الباطني الحدسي من نفس العقل, وهكذا ينتهي بنا الأمر إلى عقول متعددة في العقل الواحد العربي أو غيره. إذن إن أردنا تعريف العقل, فلا بد وأن نحده بالعقل في مستواه الأول كشرط ضروري, وأن نبين مكوناته (مبادئه) التي فيما بينها تحدد فاعليته كأداة كشرط للكفاية.

  2. #2
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    مرور أولي للترحيب ..


    ولنا عودة تفصيلية .. مع موضوع شائك ومحوري .




    تقديري.
    الإنسان : موقف

  3. #3
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2014
    المشاركات : 9
    المواضيع : 5
    الردود : 9
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي المقال الثاني في الحوار مع الجابري الأنماط المعرفية

    نستكمل في هذا المقال جزءا من الحوار الذي بدأناه في مقالنا المنشور على نفس الموقع و المعنون (في العقل-حوار مع الجابري) على أمل ان تسنح الفرصة لمتابعة نشر سلسلة المقالات لنستكمل الحوار بمجمله و بما يوضح موقفنا من مشروع الجابري.
    نشير بداية إلى أنّنا اخترنا مصطلح نمط للتمييز والقطع مع ما قد يحمله من دلالات مصطلح (العقلية), فالأوّل لاشخصاني إن صح التعبير على عكس الثاني الذي يفيد بدلالات شخصانية تصنيفية بحق البشر إذ تربطه بمفهوم العقل في مستواه الثاني أواصر قربى. في حين أنّه يمكن للبعض إطلاق المقولة التالية عن العقلية, إلا أنّها لا تستقيم في حق النمط: (وفي الوقت الذي لا نقتدر على تغيير عقليتنا بإرادتنا, فإنّها غير قابلة للتحطيم من الخارج. فقد نجبر على أداء أعمال معاكسة لاقتناعاتنا, أو على إظهار عقيدة معينة, ولكن لا يمكن أنْ نُكره على الاعتقاد حقا وعلى استبطان العقيدة المفروضة علينا من الخارج وتحويلها إلى اقتناع داخلي) - جورج طرابيشي, نقد نقد العقل العربي, نظرية العقل, دار الساقي بيروت -
    من مناقشات سابقة للآليات العقلية المتاحة للإنسان في إنتاج المعرفة, وجدنا أنَّ النمطين الرئيسين اللذين يسودان النماذج المعرفية هما النمط الحدسي أو الباطني العرفاني والنمط العقلي الموزون. ومع ظهور المدارس الفكرية, وأهمية المنطلقات المؤسسة لهذه المدارس والتي تناقلها الأعضاء من جيل إلى جيل, نصا شفهيا أو مكتوبا, ظهر النمط البياني (حسب تعريف الجابري) متداخلا حينا ومتوازيا أحيانا مع النمطين الأوليين. وعليه يمكن تصنيف الأنماط مبدئيا إلى:
    أ*- النمط المعرفي المدرسي-البياني
    ب*- النمط المعرفي الحدسي – الغيبي
    ت*- النمط المعرفي الموزون أو ما اصطلح عليه بالعقلانية
    بخصوص التسميات, فقد آلينا اختيار تسميات (المدرسي, الحدسي - الغيبي, الموزون) لكشف الطبيعة العمومية لهذه الأنماط, والتنبيه إلى حقيقة أنَّ العقل البشري قد وظف هذه الأنماط الأساسية بالتزامن والتوازي, بدرجة أو بأخرى, ضمن أنظمة معرفية تحددها الشروط الموضوعية والتاريخية المحيطة, فإذا ما ساد أحد هذه الأنماط على النتاج الثقافي الرسمي في مرحلة معينة, وطبع العقل في تلك المرحلة بطابعه لأسباب تاريخية وموضوعية خاصة (مثال النمط المعرفي المدرسي-البياني الذي ساد على النظام المعرفي العربي الإسلامي للفئة الموالية للنظام السياسي القائم في الإمبراطورية الإسلامية , أو النمط الحدسي - الغيبي الذي ساد على النظام المعرفي المؤسس للمعارضة لذلك النظام) - الجابري, تكوين العقل العربي - فإنَّ هذا لا يبرر تعميم هذه الأنماط واعتبارها نظاما معرفيا خالصا وخاصية من خواص العقل المعني, فليس هناك في تاريخ البشرية جمعاء نظاما معرفيا نقيا يقوم بمجمله على نمط واحد, والأمثلة التي سنستعرضها لاحقا ستؤكد هذه الحقيقة. وعليه, فالتعريف التعسفي للعقل على أنّه أحد هذه الأنماط السائدة في مرحلة ما, يعكس موقفا مسبقا مبنيا على نظرة إيدولوجية عنصرية, فوقية أو دونية نسبة لانتماء الكاتب. وكنا قد وضًحنا في سياق تعريف العقل (أنظر مقالي المعنون في العقل-حوار مع الجابري), العلاقة الجدلية ما بين النمط الذي يوظف فيه العقل-الأداة وبين الموضوع.
    إنّ تجاهل حقيقة وحدة العقل البشري في مستواه الأوّل (أو ما يسمى بالعقل المكوٍن بتشديد و كسر الواو) كمعطى ثابت, وحقيقة تنوع المستوى الثاني (العقل المكوٌن بتشديد و فتح الواو) بتداخل الأنماط الثلاثة المذكورة بتشكيلات مختلفة تحدد شكل النظام المعرفي السائد في مكان وزمان محدد, تشكيلات متغيرة تحددها الظروف التاريخية والموضوعية, يؤسس لنظرة أحادية تهدف لحجب الحقائق وتبرير أوضاع تاريخية قائمة مؤقتة بطبيعتها, على أساس أنَّ هذا النمط لهذا العقل هو ثابت من ثوابت كونية إلهية وأن تقدم بعض المجتمعات وتخلف البعض الآخر, وحتى التمايز بين الطبقات في المجتمع الواحد هو مشيئة إلهية مقررة ومن العبث أن نحاول تغييرها.
    يتمحور مشروع الجابري و مريديه من بعده و آخرون من قبله حول كون العقل العربي مدرسيا بيانيا في جوهره, وأنَّ إنتاجه الثقافي لا يتجاوز علوم اللغة والدين (إذ إنَّ العقل المدرسي العربي يقتصر تعريف العلم على هذين المجالين فقط), وأنَّ الغيبية-العرفانية والعقلية- البرهانية (حسب تسميات الجابري) هي غزو من الخارج, وبناء على هذا التعريف النمطي الأحادي, تتحدد أشكالية العقل العربي بصراع هذه العقول النمطية الثلاثة التي تتقاذف العقل العربي كالكرة فيما بينها. كما يُنعم هذا التعريف بالصفة العقلية - البرهانية على العقل الأوروبي من خلال مقارنات للحظات معرفية منزوعة من سياقها التاريخي.
    وبهذا الخصوص, أي بخصوص (عقلانية) العقل الإغريقي – الأوروبي, فان التخريجات المقترحة من قبل الجابري في كتابه تكوين العقل العربي لمفاهيم العقل الكوني عند الإغريق والإله عند المسيحيين الأوروبيين, لا تعفي (العقل الإغريقي – الأوروبي) من كون المدرسية, والحدسية - الغيبية, عناصر أصيلة في تشكيل النظم المعرفية لهذا (العقل) في مراحل تاريخه المتعددة وحتى اليوم. فهذه التخريجات تعكس انتقائية يفرضها موقف إيديولوجي ينكره ويستنكره الجابري ولكنه حاضر على مدى مشروعه.
    إنَّ الظروف التاريخية والموضوعية المصاحبة لظهور الفكر الحدسي - الغيبي الإغريقي, وكذلك تلك المصاحبة لظهور وانتشار المسيحية في أوروبا, والأدوار التي لعبتها, تختلف اختلافا جذريا عن ظروف ظهور وانتشار الإسلام والأدوار التي لعبها في المجتمعات العربية الإسلامية. فالمسيحية التي ابتدأت في فلسطين كحركة سياسية, ومطالبة شخص يسوع بالحكم كونه من بيت داود - د. كمال الصليبي, البحث عن يسوع, قراءة جديدة في الأناجيل, دار الشروق للنشر والتوزيع - اندحرت وانكفأت إلى الخارج, وتحولت تدريجيا من حركة سياسية قائمة على دعوى إصلاح المؤسسات الإجتماعية-الدينية القائمة في حينه, بالعودة إلى الدين القومي اليهودي, تحولت دعوى ألإصلاح هذه إلى دعوة لديانة أممية ترفض أو على الأقل لا تشترط الإيمان بالتمايز اليهودي (شعب الله المختار), وبالأخص على أيدي أتباع يسوع ممن نشأوا في بيئة غير يهودية (القديس بولص وقد نشأ في الأناضول التي سادت فيها الثقافة الهيلينية) - من أجل رؤية مغايرة للعالم والإنسان, حميد باجو, شبكة المعلومات الدولية -
    وخلال رحلتها الطويلة عبر الشرق الهيليني والإمبراطورية الرومانية, وصولا إلى أوروبا, شكلت المسيحية مضمونها الفكري بتشرب خليط من العقائد والفلسفات من عبرانية وأفلاطونية وأرسطية, التي عايشتها هذه الحركة المسيحية, فتحت عنوان المحبة الهيلينية للحكمة - تكوين العقل الحديث, جون هرمان راندل - نقرأ النص التالي (أصبح حبّ اليونان للمعرفة من مقومات التقليد المسيحي ولكنه انعكس كتعقيد فكري عقائدي أكثر مما أخذ شكل إيمان قوي بالذكاء الإنساني) وتحت عنوان الأفلاطونية نقرأ من المرجع نفسه (وبالرغم من أن مفكري القرون الوسطى عرفوا ما كتبه أرسطو أكثر بكثير من معرفتهم لما كتبه أفلاطون, فقد كانوا مع ذلك أفلاطونيين أكثر منهم أرسطوطاليسيين.) وأيضا تحت عنوان الزهد الديني الشرقي نقرأ (تعاقب آباء الكنيسة فيما بعد ووضعوا اللاهوت المسيحي بجميع تفاصيله تحت تأثير متزايد للأفلاطونية المحدثة). أي أن الأنماط المعرفية الثلاثة (كما سنرى بمزيد من التفصيل لاحقا) تداخلت في تشكيل النظام المعرفي للعصور ألوسطى في اوروبا حسب ما أملته ألظروف التاريخية والموضوعية للمرحلة, تماما كما تتشكل كافة النظم المعرفية الانسانية.
    أمّا الإسلام, فكان بالأساس ومنذ نشوئه, مشروع دولة أممية قائمة على مرجعية دينية بسيطة ومعروفة (الحنيفية), والمضمون الفكري للإسلام تطور وتشكّل كما هو معروف كضرورة تاريخية في ظلّ الدولة الإسلامية, وبجزء كبير منه, لخدمتها في إدارة هذه الإمبراطورية المتوسعة بسرعة البرق (تطوير علوم الشريعة والفقه), هذا من جانب, ومن جانب آخر للحفاظ على شرعية النظام الجديد (علوم العقيدة) أمام الهجمات السياسية المستترة بغطاء فكري فلسفي.
    ومع اشتراك المنابع بين الفكرين, إلا أنَّ الأدوار التاريخية والاجتماعية التي لعبتها (المؤسستان) كانت مختلفة.
    ما نود قوله هنا, أنّ مقارنة تجليات العقل البشري في الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وكذا الإغريقي في لحظات تاريخية مختلفة (العربي الإسلامي في الفترة القروسطية مع الأوروبي في العصور الحديثة, والإغريقي في العصور القديمة), وبمعزل عن النسق التاريخي, تحجب وبالضرورة وحدة العقل البشري, وتؤدي لتشكيل انطباع خاطئ مؤداه اختلاف العقل باختلاف البشر.
    الهدف من هذه السلسلة, هو إثبات حقيقة وحدة العقل البشري من خلال إثبات وحدة المستوى الأوّل للعقل ولاتاريخيته النسبية ومن ثم, اثبات نسبية تداخلات أنماط المستوى الثاني في لحظة ثقافية معينة, وطبيعة هذه التداخلات التاريخية, ترسيخا للحقيقة القائلة بأن أي شعب, إذا أراد, يستطيع أنْ يتطور وأنْ يتقدم بلا حدود بشرط استيعاب حقائق التاريخ وتفهم واقعه التاريخي, وطبيعة القوى الداخلية والخارجية الفاعلة والمحددة لهذا الواقع, وأنّه غير محكوم عليه مسبقا بمكانة محددة على سلم الأمم.
    في مقالات قادمة سنقوم بتقديم بعض الأمثلة من مناحي مختلفة للثقافة الإنسانية, قديمها وحديثها, عربية وأوروبية, ونقوم من خلال تشريح هذه الأمثلة بتوضيح وإثبات ما نرمي إليه.

  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2014
    المشاركات : 9
    المواضيع : 5
    الردود : 9
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي المقال الثالث من الحوار مع الجابري-النمط البرهاني

    النمط المعرفي البرهاني - أرسطو
    يقدم الجابري النمط المعرفي الأرسطي أو البرهاني كنظام معرفي مستقل بذاته أوجده و طوره و سار عليه العقل الغربي و ذلك كنقيض لنظامي المعرفة العرفاني و البياني اللذان اختص بهما العقل العربي, فما هي حقيقة هذا الادعاء و هل يرقى هذان النمط كما ندعوه إلى مستوى نظام كامل و مستقل؟
    أولاً: كون منهج أرسطو سكونيًّا فهو واضح من مبادئه الثلاث, الهوية والتناقض والثالث المرفوع, هذه المبادئ تحيل الشيء إلى أحد قطبي الثنائية- الأشكال, ولا تسمح لأي تفاعل جدلي أو حتى انتقال من النقيض إلى النقيض, وبالتالي لا يمكن لها أن توصل العقل إلى حل إشكالات الثنائية من خلال إحالتها إلى الطبيعة الازدواجية الجدلية للموجودات. ولو أنّ فيزيائيي القرن العشرين التزموا بهذه المبادئ, لأصبح لدينا الآن فيزيائان اثنتان, واحدة مبنية على الطبيعة الجسيمية للجزيئات وأخرى مبنية على الطبيعة الموجية لهذه الجزيئات.
    ثانيا: يعلمنا أرسطو بأن الاستدلال (القياس الجامع) لا يوجب ضرورة أن تكون المقدمات صحيحة, المهم أنْ تقود عملية الاستدلال إلى نتائج تترتب منطقيا على المقدمات بطريقة تحتمل الحكم بالصدق أو الكذب عليها (قياسا بالمقدمات). فالمقدمات إمّا أن تكون بديهيات صحيحة (الكل أكبر من الجزء مثلا) عامة عند كل العلوم, أو أصول موضوعة خاصة في كل علم, (وهي قضايا يضعها المعلم ويسلم بها المتعلم) وهذه كما نعلم هي الخاصية الأساسية للنمط المعرفي المدرسي, فهنا سلطة النص وسلطة السلف الذين أسّسوا المدرسة الفكرية المعنية واضحة. الأسس والرؤية معطاة, والمنهج هو آلة (أورغانون) تصنع النتائج بناء على هذه الأسس ولا تحاكمها, ومن هنا وانطلاقا من الولاء الأيديولوجي, تنبع انتقائية العقل المدرسي في اختياره للظواهر والنصوص بما يتلاءم مع منطلقاته, والتعريفات التي تحدد الماهية (من الواضح أنّ المتعلم لن يستحضر تعريفات من خارج نصوص المدرسة التي ينتمي إليها).
    بالنتيجة، نجد أنَّ القول الصحيح عند أرسطو هو تماما كما عند ابن تيمية (الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول)‏ - مجموع فتاوى ابن تيمية, المجلد الثاني عشر, وذلك في سياق تصديقه لقول الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن - هكذا يبدو أرسطو لنا بيانيا. بالنتيجة, يمكن توظيف آلة أرسطو لخدمة أي فكر مدرسي سواء بياني أو عرفاني بالصيغة الموزونة لمبادئ العقل (القياس, العلية,..) في مرحلة نمو وتأسيس الفكر إيّاه (وهو ما أمله أرسطو دون أن يقدم له الضمانات الكافية) أو, بالصيغة الباطنية لهذه المبادئ (المماثلة, العادة,..) وهو ما نراه في الواقع عند استهلاك المدارس الفكرية لإمكاناتها وتحوصلها (نتيجة انحصار العقل في دورته الداخلية وعجزه عن الدخول في الدورة الخارجية للتفاعل مع الواقع من خلال العمل).
    البديهيات هي من إنتاج العقل في مستواه الأوّل ما يجعلها مشتركة لكل العقول البشرية, إذ إنّ المعارف والخبرات المتوافرة لحظة الحدس في أي زمان ومكان كافية لتشكيل البديهيات (من مثل علاقة الجزء بالكل), في حين أنّ المقدمات والمسلمات التي يضعها المعلم هي عرضة للاختلاف والتفاوت ما بين معلم وآخر وحسب الظروف الخاصة بكل منهم وتتجاوز المستوى الأوّل للعقل إلى مستواه الثاني, وبالتالي يمكن لآلة أرسطو أن توظف في خدمة أي مدرسة فكرية.
    من الواضح هنا أنَّ منهج أرسطو هو نفس منهج العقل البشري المدرسي السكوني, فهو (عقلي) بنفس درجة عقلانية أي منهج مدرسي آخر, ولا يتمايز إلا بكونه يصف آلية العقل قبل تطبيقها, في حين أنّ مناهج مدرسية سكونية أخرى تطبقها ضمنًا دون وصفها كونها تنطلق من مقدمات ومسلمات المعلم لا من البديهيات, فالحاجة للانطلاق من البديهيات لدى أرسطو تمليها احتياجات (تدريسية) أكثر منها معرفية. الأنظمة المعرفية العقلية (التي يسودها النمط البرهاني) المثالية بما فيها ما يمثله أرسطو, تنطلق من هذه المقدمات بصفتها حقائق كونية لا تحتمل النقد, فتستنفذ وبسرعة إمكانات التقدم والإبداع التي تتيحها هذه المقدمات كون العقل المدرسي يبقى محصورا ضمن دورته الداخلية لتشكيل للفكر دون التفاعل مع الواقع من خلال الدورة الخارجية, فتتكلس هذه الأنظمة على قالب ثابت وتتضخم كمّا من خلال إضافة طبقات جديدة من الكلس الواحدة فوق الأخرى. فنجد مثلا أنَّ كتابًا أصيلاً واحدًا يستولد سلسلة من الكتب كهوامش وشرح وشرح لشرح.
    بفهم طبيعة الفكر الأرسطي كما ورد أعلاه, يتبين لنا كيف عمدت انتقائية الفكر البياني الإسلامي إلى انتقاء وتوظيف منهجه بمواجهة الفكر العرفاني المعارض. فبغض النظر عن الرؤية المؤسسة لفكر أرسطو في تفصيلاتها, فهي مشابهة من حيث مرجعياتها للرؤية المؤسسة للفكر البياني, وبالتالي فإنّ المنهجية الأرسطية تخدم هذه الرؤية البيانية وبنفس الكفاءة.
    وتبتعد الأنظمة المعرفية المذكورة كذلك سريعا عن تطبيق مبادئ العلية والقياس المنطقي (الصيغة الموزونة لمبادئ العقل), وتلجأ بدلا من ذلك للغائية والمماثلة (الصيغة الباطنية) لتجاوز تناقضات رؤيتها مع الواقع. فنجد أنّ الحدسية الغيبية تتأصل في هذه الأنظمة وتبدأ بفرز عرفانيات صوفية كتناقض داخلي يعكس تناقضها الخارجي مع الواقع (الاتجهات الصوفية السنية).
    واضح أنَّ العقلانية هنا تعني توظيف المستوى الأوّل للعقل, في حين أنّ (العلمية) هي منهج من المستوى الثاني للعقل يوفر مسارا للتغذية الراجعة من خلال التجربة, يعيد تشكيل الأسس والمقدمات لتتواءم مع نتائج التجربة في الواقع, فلا قدسية للمنطلقات والمفاهيم الأساسية ولا كهانة في العلم.
    وعليه, فإنّ وصل المنهج العلمي الحديث (بعقلانية) أرسطو بخط مستقيم غير مبررة بتاتا, وسنرى ضمن هذه الدراسة, أنّ امتداد هذا الخط لم يتجاوز فكر الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا القرون الوسطى. فلا رؤية أرسطو ولا منهجه يمكن أن يكونا البذرة التي أنبتت العلم الحديث القائم على المنهجية العلمية والتي هي نتيجة مباشرة للتقنية وتطورها التي كما ذكرنا سابقا تتبنى مبدأ التجربة والخطأ. إنّ فكرة التطور لا يمكن أن تنبع من النظرة السكونية للعالم, كما أنّ مفاهيم عدم التعين UNCERTAINTY والاحتمالية (وليس الصدفة) كما هي في ميكانيكا الكم, هي أبعد ما تكون عن النظرة الأرسطية السكونية للكون القائمة على مقولات وصفية محددة.
    ثالثا, يصنف أرسطو الأسباب إلى أربعة, المادة, الفاعل, الصورة والغاية. هناك مادة (موجودة) وصورة (موجودة), والمادة (تتوق) للصورة فيحقق الفاعل (غاية المادة) وتتخذ المادة الصورة.
    لا يمكن تبرير هذه الغائية على أنها علية بالمفهوم العقلي-العلمي باعتبار أنّ الصورة موجودة في ذهن الفاعل, كما تكون صورة التمثال في ذهن النحات, فيحقق الغاية باعطاء المادة الصورة التي يتوق (هو) إليها, فالغاية هنا ليست في ذهن النحات, بل في (نفس) المادة. تماما كما أنّ المحرك الأوّل الذي لا يتحرك لدى أرسطو, هو الغاية الأسمى في (نفوس) الأشياء تحاول أنْ تتقرب منه عن طريق أخذ الحركة منه بواسطة المتحرك الأوّل (فالمحرك الأول كالمعشوق يحرك عاشقه دون أن يفعل) والخلاف مع ابن تيمية مثلا لا يتجاوز شكل مصدر هذه الغائية (وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا‏:‏ إن لها (الأفلاك) علة غائية تتحرك للتشبه بها في تحركها، كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعًا موجبا ولا موجبًا قائمًا بذاته) - مجموع فتاوى ابن تيمية, المجلد الثاني عشر - إذن هناك غائية واضحة تتجاوز إرادة الإنسان, ويبدو فيها (الإنسان) أقرب إلى الوسيلة التي تحقق فعل فاعل أسمى منها.
    رابعا: أضف إلى ما سبق, أنّ أرسطو يرضى للعالم الأرضي (مقارنة بعالم الأفلاك السماوية) بأنْ تفعل به المصادفة فيما يخص الجماد والحظ فيما يخص الإنسان, وذلك لتفسير الظواهر التي يعجز عن تحديد أسبابها العقل (وهذا بالطبع بسبب المعرفة المنقوصة والخبرة المحدودة), وهذا شكل آخر من أشكال الغائية, فالصدفة والحظ هما في الواقع تحقق لغاية ما عليا مجهولة لدينا.
    خامسا: وبخصوص لحظة الحدس لدى أرسطو كرؤية مبنية على معرفة ناقصة ومعلومات وخبرة شحيحة, تكاد لا تتجاوز المراقبة السلبية للعالم المحيط, شأنه شأن أرستقراط الإغريق المتبطلين والذين يحتقرون العمل اليدوي بأشكاله, فتتجلى بوضوح في توظيفه للمماثلة في الطبيعة, فالخواص عنده أربعة, البارد والساخن واليابس والرطب. أمّا العناصر فهي أربعة أيضًا: النار والماء والهواء والتراب, تتشكل هذه العناصر باتحاد خاصيتين وعلى النحو التالي: عنصر النار من اتحاد اليابس بالحار وهذه نتيجة مماثلة مع ظاهرة احتراق الخشب (مثلا) عند التقائه بمصدر حرارة, وعنصر الهواء من اتحاد الرطوبة والحرارة, وهنا أيضًا مماثلة مع ظاهرة تبخر الماء عند التقائه بمصدر حرارة وتحوله إلى بخار غير مرئي, العنصر الثالث هو الماء, والمتشكل من التقاء الرطوبة مع البرودة, وهذه مماثلة أخرى مع ظاهرة تكثف الأبخرة, وأخيًرا التراب من التقاء اليابس والبارد, فهو لا يحترق (بارد) ولا يتبخر (يابس).
    سادسا وأخيرا, التبريرية, فهي ظاهرة وجلية في استنساخه للنظام الاجتماعي السائد في زمانه والقائم على ثلاثة أركان رئيسة, أسياد وعبيد وجيش, إلى صورة العالم الطبيعي, فنجد محركًا أولاً لا يتحرك (وهل كان أسياد اليونان يتحركون؟), ومتحركًا أولاً ثم الأشياء الناقصة.
    إذن فالفكر الأرسطي مدرسي, مبني على رؤية حدسية غيبية, يتعاطى مع العلية بانتقائية ويوظفها تبريريا, ويتبنى الغائية كمكمل للعلية, والمماثلة كمنهج. وعقلانية أرسطو تتمثل في وصفه لمنهج العقل البشري السكوني لا في ابتداعه, وبما أنَّ كل الأنماط المعرفية تتضمن توظيف العقل وآلياته, إذن فكل الأنماط بهذا المعنى هي (عقلية) بنفس الدرجة.
    ماذا عن مقولة الجابري المركزية, وهل حقا أن برهان أرسطو كان المحرك الأول للتطور العلمي والتقني الذي حققته أوروبا حين تبنته (زعما) دونا عن كل التأثيرات التي حملتها المسيحية معها في رحلتها من الشرق إلى الغرب؟
    في الفقرات السابقة جهدنا في تبيان حقيقة أن فكر أرسطو هو مدرسي وأنه سكوني بعيد عن جدلية الفرضية – التجربة وأنه مناقض للفكر العلمي بمفهومه الحديث والذي طورته أوروبا في عصر التنوير. أما المؤرخ والمفكر الغربي جون هرمان راندال في كتابه تكوين العقل الحديث , فإنّه يفصّل الدور المعيق الذي لعبه الفكر الأرسطي في وجه الانتقال من فكر العصور الوسطى إلى فكر النهضة والتنوير, فعند إشارته لتبني توما الإقويني فيلسوف الفكر اللاهوتي الأول في القرون الوسطى لمنهج أرسطو وتعليقا على أقوال توما من مثل (أن صانع الكون الأوّل ومحركه هو عقل و...أن سعادة الإنسان الصحيحة هي في تأمل الحقيقة لا في فضائل العقل العملي التي نسميها فنا واعتدالا) يقول راندال (أن ما يجب ملاحظته في هذا النص البليغ هو أن الهدف ليس في البحث العابر اللامتناهي عن الحقيقة ولا في دراسة الطبيعة التي هي هدف العلم الحديث, وأنما في تأمل حقيقة ساكنة ثابتة, تامة كاملة منذ الأزل. إنّ النتيجة لا العمل المؤدي للنتيجة هي التي تولد الفرح. وهذه الفكرة التي أخذها توما الأقويني عن أرسطو, شأن الكثير من أفكاره وحججه, تعبر عن أعمق جوانب الروح العلمية في القرون الوسطى وهي تفسر لنا لماذا كانت طريقة البحث العلمي جدلية استقصائية, تنهج الى الاستنتاج من الحقائق المعروفة أكثر من البحث عن الحقائق الجديدة) وفي موقع آخر يقول (كان العلم اليوناني مهتما بالدرجة الأولى بالحياة الإنسانية فكان علم حياة بيولوجيا لا علما رياضيا... ويتضح هذا التباين عند أرسطو, فكتبه في علم الأخلاق والسياسة من المعجزات غير أن كتابه في علم الطبيعة مثار للسخرية والهزء), (إنّ خطيئة أرسطو والأقويني بالنسبة لطريقتنا الحديثة في التفكير, لم تكن في بحثها عن الغايات والأهداف ولكن بجعل تلك الأهداف والغايات في غاية التبسيط والجمود) وأخيرا (ولكن إذا بحثنا عن جذور عالم النهضة الحديث في الأحوال الاقتصادية, فإنَّ تبريرها ومعناها يقومان على الروح والعلم الجديدين اللذين هدما الرهبانية والعلم الأرسطوطاليسي, كما هدمت الرأسمالية الإقطاع والنقابات) كما وينتقد راندال (رجعية) فكر أرسطو الذي يجعل الأولوية للنوع على الفرد وبالتالي تحديد هوية الفرد من خلال طبقته الاجتماعية والذي أسس للفكر الاستغلالي الطبقي. ومن قبل راندل, سبق وأن حوربت الأرسطية بصفتها معيقا لتطور الفكر من قبل مفكرين آخرين مثل فرانسيس بيكون فيلسوف الثورة العلمية الكبرى وهكذا تسقط دعوى الجابري القائلة بأنّ الثورة العلمية وسيادة الفكر العلمي في الغرب هو نتيجة (لعقلانية) أرسطو, وأنَّ المشروع البرهاني الرشدي (نسبة لابن رشد) بانتمائه لمدرسة أرسطو, كان البوابة التي لو بقيت مفتوحة لعبر الشرق العربي المسلم نحو التطور والنهضة. إنَّ فكر أرسطو وكما رأينا في فقرات سابقة, وفي الفقرة الأخيرة, ما هو إلاّ فكر سكوني يمجد المقدمات التي ينطلق منها ويقدس مصادر هذه المقدمات, وبالتالي هو فكر معيق للتطور ومنافٍ للمنهجية العلمية.
    إنّ ما يسمى بالنظام المعرفي البرهاني والمنسوب لأرسطو, وكما توضح لنا أعلاه, ما هو إلا نظام معرفي مختلط يتواجد فيه بالتوازي والتزامن, الأنماط المعرفية الثلاثة التي حددناها بداية البحث. وأن السائد من هذه الأنماط في هذه الحالة هو العقلي السكوني, وذلك كنتيجة لطبيعة الموضوع قيد البحث وليس كخاصة للعقل الإغريقي الذي يمثله أرسطو في مثالنا.
    أخيرًا نستطيع القول بأنَّ أسطورة البرهان الأرسطي وكونه الدليل القاطع على الطبيعة المادية العقلانية للعقل الإغريقي-الأوروبي (في مقابل العقل الإسلامي العربي القيمي) تسقط ويسقط معها نموذج المركزية الغربية للعقل والحضارة.

المواضيع المتشابهه

  1. حوارٌ مع العقل..
    بواسطة عبد اللطيف السباعي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01-01-2015, 09:43 PM
  2. حوار بين العقل والقلب
    بواسطة جلال طه الجميلي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 33
    آخر مشاركة: 01-04-2013, 07:46 PM
  3. قليلات العقل وكاملو العقل..
    بواسطة نبيل عودة في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-08-2012, 07:44 PM
  4. رحيل المفكر العربي عابد الجابري
    بواسطة عبدالصمد حسن زيبار في المنتدى الحِوَارُ المَعْرِفِي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-05-2010, 12:35 PM
  5. حوار بين العقل و العاطفة .. !!
    بواسطة نور جمال الخضري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-01-2006, 09:59 PM