قراءة نقدية لقصيدة ( قراءة جديدة في أيام العرب) للشاعر عبد اللطيف السباعي
بقلم: الأستاذ محمد ثلجي

قراءة جديدة في أيام العرب
عبد اللطيف السباعي

ذِلَّةُ الحالِ واقعٌ ملموسُ = عِبَرٌ مُستَـجِدًَّةٌ وَدروسُ
أسْبَلَ الحُزْنَ منْ أساهُ يراعِي = في ندى الحِبْرِ حَرُّهُ مَحسوسُ
كلَّما رُمْتُ صَدَّهُ بالقوافي = خانني الحَرْفُ.. خاصَمتْني الطرُوسُ
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ = بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟
نحنُ قومٌ بالنائباتِ عُرِفْنا = في الترَدِّي تاريخُنا مدْروسُ
حظُّنا منْ وجودِنا ثوبُ خِزْيٍ = ورغيفٌ في علْقمٍ مغْموسُ
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ = "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!
إخْوةٌ دبَّتِ العداوةُ فيهمْ = بأسُهمْ بينهمْ شديدٌ ضَروسُ
غَزواتٌ تخَبَّطَ العقْلُ فيها = منْ زمانٍ كأنَّهُ ممْسوسُ
فإذا عَنَّ في دُجانا غريبٌ = في إهابِ العَداءِ جاءَ يَجوسُ
خرَّ في الصمتِ عَزْمُنا المُتداعي = ضَجَّ في الليلِ خوْفنا المهْموسُ
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ = ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها = فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
أمَّةٌ تحْسبُ الوهادَ جبالاً = في المهاناتِ أنْفُها مدْسوسُ
قائدٌ يُغْمِدُ السلاحَ انْقِيادًا = ورئيسٌ في حُكْمِهِ مرْؤوسُ
وشعوبٌ تثاءَبَ العزْمُ فيها = هَدَّها العيشُ.. أثْقلَتْها المُكوسُ
دَجَّنَ القهْرُ وعْيَها ليسَ تدْري = أبَشوشٌ مصيرُها أم عَبوسُ؟
وهَلِ الحُكْمُ بينهمْ مَحْضُ شورى = وهَلِ الشعبُ سائسٌ أم مَسُوسُ؟
كمْ زعيمٍ تقلَّدَ الأمْرَ فرْدًا = قمَرٌ حولهُ تدورُ الشموسُ
حدَّثَ النفْسَ قائلاً: أتُراني = أحْكمُ الشعْبَ أمْ عليهِ أدوسُ؟
مَرْجِعُ الأمْرِ لي وإنِّي لمُبْدٍ = منْ قِوَى الحزْمِ ما تهابُ النفوسُ
يُرْسِلُ الخُطْوةَ اخْتيالاً كما قدْ = تاهَ عُجْبًا بريشِهِ الطاووسُ
سِمةُ اليعرُبيِّ همٌّ قديمٌ = سَمْتُهُ فيهِ بائسٌ منْحوسُ
واقعٌ لا يُعيذنا - لو عَلِمْنا- = منهُ إلا المُهَيْمِنُ القُدُّوسُ


آيت اورير _ المغرب
15/11/2014

1- الفكرة والبنية العامة للنص

تعتبر قصيدة الشاعر عبد اللطيف السباعي المعنونة بــ ( قراءة جديدة في أيام العرب) من القصائد البارزة في مسيرة الشاعر الإبداعية. فهي فضلا عن كونها تؤكد سطوة الذاكرة المشبعة - على النص الشعري - بموروث أخلاقي مضطرب لأمه سقطت لعقود في دهاليز التردي والظلمة فضلا عن نعرات ونزاعات قبلية أهرقت خلالها أرواح وسكبت دماء وأشيعت الفرقة والانحلال الأخلاقي والديني حتى وصل ذروته قبل أن تجتاحها العناية الإلهية برسالة الإسلام السمحة والتي قدمها نبينا الأمين محمد عليه الصلاة والسلام على طبق من نور وهدى. ناهيك عن قدرة هذه الذاكرة على تشكيل النص بقالب أبداعي يجسد المحسوس باعثا الحياة مجددا في أماكن قديمة ومهجورة عسى أن يؤخذ ويستفاد منها العبر والدروس. كما أشار الشاعر في مطلع النص:
ذِلَّةُ الحالِ واقعٌ ملموسُ \ عِبَرٌ مُستَـجِدًَّةٌ وَدروسُ

من جهة أخرى ينقد النص واقع الحال العربي بلا نكران أو تحيز نقدا لاذعا وعنيفا بربطه مباشرة بتلك الأيام الغابرة متخطيا المساحة المضيئة كونها بعيدة عن مخيلة الشاعر حين الكتابة وهي أشبه ما تكون بقعة نور وضاءة داخل نفق مظلم مكفهر. وقد نجح الشاعر - تماما - بعملية الربط حيث أتم توظيف المفردة اللغوية الدالة والقادرة على استنطاق واستحضار تاريخ وفكر أمه في نص معاصر وحديث مصورا - إذ ذاك - تلك المأساة بإشارات ودلالات تضرب في العمق . بل في أعماق الأعماق.
يقول الشاعر معلنا عن ذلك الحال:
نحنُ قومٌ بالنائباتِ عُرِفْنا \ في الترَدِّي تاريخُنا مدْروسُ
حظُّنا منْ وجودِنا ثوبُ خِزْيٍ \ ورغيفٌ في علْقمٍ مغْموسُ
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ \ "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!

الشاعر هنا حاله كحال غيره ممن ينذر بخطورة ما آلت إليه الأمور حيث أبصر ببصيرة الشاعر وفكره سوء الحال وترديه فجاء صوته عاليا رافضا للواقع معلنا انسحابه الكامل منه ونأيه بعيدا عنه رغم ما يعتصر قلبه من الم وحرقة.
فيقول :
كلَّما رُمْتُ صَدَّهُ بالقوافي \ خانني الحَرْفُ.. خاصَمتْني الطرُوسُ
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ \ بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟

بما أن الشاعر شاهد على الواقع - كما ذكرت - وحاله من حال غيره ممن يستظلون في ظلاله وتحت أفيائه رغم رفضهم له كان لا بد أن يعمل على نقده ومجاراته ما أمكن ذلك. ليبرئ بنفسه - لاحقا - عن المسائلة التاريخية, وهذا أمر طبيعي قد تسرّ أو تعلن أي ذات رافضة عنه بما تستطيعه أو تراه مناسبا ومتفقا معها .. والشاعر هنا جزء من الكل تماما كأن يبتدع الرسام لوحة تتضارب فيها الألوان وتتزاحم بأشكال ورسوم تعبر عن رفضه ونقده .. أو كأن يطرق - المؤرخ أو الروائي أو الكاتب أو أي صاحب موهبة - أبوابا ثمة من يضع خلفها الحواجز والعوائق لتظل مغلقة ومظلمة لا يعبر منها ولو بصيص ضئيل من أمل وحياة. يقول الشاعر معلقا:
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ \ ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
أمَّةٌ تحْسبُ الوهادَ جبالاً \ في المهاناتِ أنْفُها مدْسوسُ


2 - البلاغة والإحالات التعبيرية في النص

يستمد النص بلاغته من لغة جزلة عميقة تتكئ على دراية ومعرفة تامة بأدق التفصيل فضلا عن كونها مشبعة حتى العظام بالحداثة والصور المبتكرة بعناية شديدة ورماية سديدة. فالشاعر كما يبدو جليا لنا.. بأنه يقسو كثيرا على نصه قبل موعد إطلاقه بل ويعمل على تشذيبه وتتميمه ليظهر - لاحقا - بأبهى وأتم صورة وهذا بالطبع من المهم والضروري بما أن البلاغة في اللغة وظيفتها " استدراج القارئ إلى الإذعان والتسليم لأنه لا انتفاع بإيراد الأفكار المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها " كما أشار ابن الأثير .. والنص الذي نحن بصدد الحديث عنه لا يكاد يخلو بيت واحد فيه من حسن تدبير وطلاوة تعبير . فاللغة حاضرة بكامل أناقتها وجزالتها .. والدلالات في أعلى مراحل النضج والنمو. يقول الشاعر:
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ \ بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟
دلالة الكروان وشدوه بفرح يتناقض تماما مع كونه محبوس داخل علته أي مصابه .. ولو أحلنا ذلك إلى واقع الحال لوجدنا أن الشاعر أثار قضية الكروان في سجنه ليأخذنا مباشرة للشاعر أو من هو على شاكلته ممن يصبون للغناء والإنشاد رغم كونهم محرومون من كامل حريتهم فثمة عائق يقف بينهم وبين المزيد من إبداعهم وانطلاقهم على نحو مكتمل.


3- البنية الموسيقية في النص

جاءت القصيدة على بحر الخفيف على الرغم من ثقل مضمونها وعبئ ما كان يشغل بال الشاعر ساعة كتابتها.. وهذه المفارقة الجميلة أسبغت على النص مزيدا من الأهمية والأحقية.. للبحر الخفيف ميزة ينفرد فيها عن باقي البحور الخليلية .. ويبدو أن هذا البحر كما أراه - دون أن ألزم فيه غيري - بأنه قادر على إراحة بل وترويض الذاكرة المتخمة بالصور والأخيلة والرؤى لسهولة جريان المفردات على لسانه وذوبانها داخل تفعيلاته وانسجامها أكثر مما يحتمله بحر آخر .. كما أنني أرى أن هذا البحر بتفعيلاته السلسة والطيعة يملك موهبة ربط الصور والابتكارات على نحو بديع وملفت ولنا في قصيدة المعري خير دليل وبرهان وهو ينشد:
غير مجد في ملتي واعتقادي \ نوح باك ولا ترنم شادي
أبكت تلك الحمامة أم غنت \ على فرع غصنها المياد
وشبيه صوت النعي إذا قيس \ بصوت البشير في كل وادي

هذا الربط الآسر بين المفردات والجمل الشعرية كان في غاية الأناقة والبلاغة ناهيك عن الحزم والقوة .. وهذا ما تضمنته قصيدة الشاعر عبد اللطيف السباعي .. حيث عجنت القوة والجزالة مع الحزم والإحاطة وامتزجت الصورة المكثفة مع الإيقاع الهادئ السلس الطيع. يقول الشاعر:
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ \ ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ

4- الاستحضار والتقمص الفني داخل النص

تعتبر التجربة الشعرية الطويلة والحصانة المتمثلة بالخبرة والجزالة والرشاقة فضلا عن الموهبة عوامل مهمة وفاعلة في عملية الاستحضار والتقمص في اللحظات الأولى للكتابة ويمكن اعتبارها مجازا الآلام الدقيقة التي تصاحب المخاض قبل الولادة الفعلية للنص. تختمر الصور والمدخرات الرؤيوية بأشكال مموهة وغير مفهومة على الأغلب قبل انتقالها لمرحلة البناء والإثراء والتي تكتمل مراحلها لحظة الكتابة الفعلية على الورق قبل تشذيبها وتنقيحها على النحو الذي يضمن لها موضعا ومتكئا مريحا في الجملة الشعرية. ولمزيد من التوضيح والإحاطة بهذه الثيمة يقول الشاعر:
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ \ "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!
أيضا قال:
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
ويقول كذلك:
يُرْسِلُ الخُطْوةَ اخْتيالاً كما قدْ \ تاهَ عُجْبًا بريشِهِ الطاووسُ
داحس \ البسوس \ النعامات \ الطاووس .. ليست مجرد مفردات أو مسميات عابرة لوقائع تاريخية أو أسماء طيور.. لكنه استحضار عميق وتقمص أنيق لحدث ما لتكثيف المعنى وصبغه بتلك الميزة لتحقيق الدهشة والإفاضة لمزيد من وضوح الصورة إزاء فكر خاص أو عام أو حالة نفسية تجاه موقف أو حالة أو واقع. لذلك أمكن القول أن هذا الاستحضار - المكاني والزماني لموروث ديني كان أو تاريخي أو أسطورة أو فعل غريب كدفن النعام لرؤؤسها في الرمل لحظة شعورها بالخطر- يعتب محاولة جادة لدى الشاعر الفذ لتأصيل مفهوم القراءة الواعية للأحداث وبالتالي وصولها للذائقة المتطلعة للبيان المختلف والأنيق والآسر.

5- الانزياح الدلالي في النص

بديهيا يمكن القول أن أهم ما يميز لغة الشعر هو انزياحها عن الاستخدام النثري للسياقات الأدبية السائدة.. وهذا يعمق من أصالة الشعر وتفرده وانجذاب الذائقة إليه على نحو أعمق واشمل. لكن يظل ثمة ما يمنع من شمولية تلك الثيمة الأساسية في بعض من المناسبات الشعرية مثل الشعر الخطابي الموجه أو الشعر المغنى أو شعر المقاومة أو الشعر المؤرخ للأحداث والوقائع .. وذلك أن الانزياح بطبيعة يتقمص جانبا من الغموض في سياقه الدلالي بعيدا عن الإبهام في الشعر والذي يعتبر مثلبة يعمد إليها كثير من الكتاب بحجة أن المعنى في بطن الشاعر مع التأكيد أن ليس هنالك من شاعر حقيقي سيعمل على دفن وإغلاق نوافذ إبداعه عن القارئ بشقيه العادي والمثقف. من هنا اوجب القول أن عدم تطبيق مبدأ الانزياح على بعض المناسبات الشعرية لا يتعارض كما ولا نوعا مع قوة النص ورغبته في قول ما يتحتم على الشاعر قوله وإيصاله بلغة شعرية سلسة أنيقة وصورة فنية ملفتة جديرة بالاهتمام والإشادة.


محمد ثلجي
17\11\2014