الخلل فى الخلط بين الفتوى الزمانية وبين أصول المنهج ، فأصول المنهج ثابتة والمتغير هو تنزيل الأحكام على الوقائع وفقاً لتلك الأصول وباعتبار المقاصد والنظر الى المآلات بحسب اختلاف البيئات والأزمنة .
الفقيه المنهجى الرائد الكبير ابن تيمية رحمه الله تعرض لظلم من بعض الحركات التى حاولت نصرة المنهج وفق اجتهاداتها باغفال قيمته المنهجية الرائدة ؛ باقتلاع بعض فتاويه الزمانية من بيئتها ومحاولة لصقها بالبيئة المعاصرة ، ولو اطلع شيخ الاسلام على بعض ما أصاب فكره من تشويه لتبرأ .
هو من أوائل من وضعوا الاجتهادات والفتاوى الفرعية الزمانية فى موضعها المرتبط بمتغيرات وأحوال المجتمعات ، وأعطى اهتماماً خاصاً للسنن المجتمعية ، وأثرت طبيعته المنهجية فى طبيعة فهمه للاسلام وفى كيفية تعاطيه مع واقعه الثقافى والاجتماعى والسياسى.
ابن تيمية رحمه الله هو الداء اذا عمد البعض للاجتزاء والترقيع ، وهو الدواء ويرسم خريطة الانجاز والارتقاء اذا أعدنا قراءته من جديد كرائد منهجى وضع بدقة أصول المنهج وقواعده العامة ، ليأتى دور المجتهد المعاصر ليذاكر جيداً تلك القواعد ويستصحبها معه وهو يعالج قضايا عصره .
الخلط بين الفتاوى الزمانية والقواعد الكلية ، وعدم الارتقاء لمستوى لعب دور الفقيه المنهجى المعاصر والاكتفاء بدور الناقل للاجتهادات والآراء الفرعية من عمق الحقب التاريخية دون مراعاة للقواعد المنهجية ، يؤدى لتشويه المنهج ذاته وتقديمه كعاجز وحائر وبليد أمام المستجدات والتحديات الضخمة .
وصف العلامة ابن القيم رحمه الله هذا السلوك بالضلال فى الدين ، عندما قال " لا تجمد على المنقول فى الكتب طول عمرك ، بل اذا جاءك رجل من غير اقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك ، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور فى كتبك ، قالوا فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبداً ضلال فى الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ، وهذا محض الفقه ، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول فى الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم ، بما فى كتاب من كتب الطب على أبدانهم ، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتى الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان " .
هذا أصل الاشكالية التى خلقت هذا الخلل فى العلاقة بين كثير من الحركات والتنظيمات المعاصرة من جهة وبين الفقيه المنهجى الرائد شيخ الاسلام بن تيمية ، ومن جهة أخرى أسهمت بشكل كبير فى تقديم الرجل الكبير صاحب التأصيل المنهجى الرائع الفريد - كما سنرى - كأنه أصل الانحراف فى الفكر والتطبيق - حاشا لله - ؛ فالرجل فكان منسجماً ومتوافقاً فى التنظير والتطبيق بين ما وضعه من قواعد منهجية عامة وبين اجتهاداته وفتاواه الزمانية المرتبطة بواقعه ، وهو لا يُسأل بطبيعة الحال عمن دأبوا على نسخ الفتاوى والآراء والاجتهادات الزمانية ووضعها ولصقها بصورة آلية بزمان وبيئة ومناخ وظروف وتاريخ وأحوال وملابسات وتحديات مختلفة .
بل الأمر يتجاوز الفتاوى الزمانية ويشمل أيضاً المكانية بمعنى أن الرأى والاجتهاد لا يختلف فقط بحسب تغير الزمان وطول المسافة التاريخية التى تفصلنا عن الاجتهاد والرأى الفرعى القديم ، انما يتغير بتغير المكان والبلد والبيئة والفقيه المنهجى الرائد رحمه الله أول من يدرك ذلك ويحرره ويؤصله ، ويحضر هنا ما قاله القرافى ( الاحكام فى تمييز الفتاوى عن الأحكام ) " اجراء الأحكام التى مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الاجماع وجهالة فى الدين ، بل كل ما هو فى الشريعة يتبع العوائد ؛ يتغير الحكم فيه عن تغير العادة المتجددة ، ولا يشترط تغير العادة بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد الى بلد آخر ، عوائدهم على خلاف عادة البلد الذى كنا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم ، ولم نعتبر عادة البلد الذى كنا فيه ، وكذلك اذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذى نحن فيه لم نفته الا بعادة بلده دون عادة بلدنا "