لابن خلدون أهمية رمزية في الوجدان العربي و المسلم و بالأخص في وجدان من قرأ عنه و لم يقرأه, فارتأيت أن اقدم لمحة قد لا تتناسب بل قد تتناقض مع هذه الرمزية لدفع من لم يقرأه الى قراءته و من كان قرأه الى اعادة القراءة بروح لا تهاب النقد.
نورد هنا بعض الملاحظات على فكر ومنهج ابن خلدون, ونبدأ أولاً بالكيفية التي تتحدد فيها الرؤية والمنطلقات الفكرية عند هذا الفيلسوف. يقول في المقدمة مصنفا النفوس البشرية (إنَّ النفوس البشرية على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة "أي الذاكرة والقدرة على استنباط المعاني الكلية م.ي." على قوانين محصورة وترتيب خاص يستفيدون به العلوم التصويرية والتصديقية التي للفكر في البدن وكلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبدأه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها وإن فسد فسد ما بعدها وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري في الجسماني وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم. وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل النوراني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأوّل للبشر ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية وهي وجدان كلها نطاق من مبدأها ولا من منتهاها وهذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدينية والمعارف الربانية.... وصنف مفطور على الانسلاخ عن البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم...) –المقدمة- ثم يستفيض بعد ذلك في تبويب وتمييز أصناف الكهانة والوحي والعرافة. من الاقتباس السابق يتضح جليا أنَّ مصادر المعرفة وعلى ترتيب الأولوية هي الوحي ثم العرفان الباطني ثم البرهان العقلي, فما جاء في الأولى والثانية لا تقوى الثالثة على مناقضته, وهذا واضح في الأمثلة التي يضربها لنا في سياق المقدمة, فنجده مثلا عقلانيا برهانيا حين يفند قصصا من مثل مدينة النحاس والمدينة ذات آلاف الأبواب, في حين أنّه لا يعترض على وجود الشياطين في قصة الإسكندر بل يقتصر اعتراضه (العقلي) على عدم تمظهر الشياطين في مظهر واحد وهو ما يخالف طبعهم, وكذلك تصديقه لرواية الرؤية لعمر بن الخطاب في بعثة سارية وقولته المشهورة يا سارية الجبل, فهذه أمور واردة في الأولى والثانية والعقل يقف منها موقف المبرر لا غير. وهكذا نفهم قوله (داخلا من باب الأسباب على العموم على الأخبار الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا... وأعطى الحوادث علة أسبابا) , ومنها تبريره العقلي لقصر السور والآيات المكية بالمقارنة بالمدنية نتيجة لحاجة الرسول أنّ يعتاد المشقة في نزول الوحي, نعم علية وسببية ولكن في نطاق منطلقات ورؤية عرفانية وبتوظيف تبريري. كما أنّه يوظف البيان أيضًا في أحيان مثل تفسيره قوله تعالى: ( الم ترى كيف فعل ربك بعاد, ارم ذات العماد) الفجر: 6 و7 وسبب سوء الفهم لما عنته الآيتان بناء على قراءة ابن الزبير. إذن مرة أخرى نرى كيف أنّ الموضوع يحدد نمط التوظيف للعقل الأداة, فهو و باستعارة منا لمصطلحات الجابري تارة برهاني وتارة بياني وأخرى عرفاني في شخص واحد.
من جهة أخرى تقوم فلسفة ابن خلدون حصرا على تجربته الشخصية مع الدويلات التي قامت وسقطت في المحيط الأمازيغي البدوي في المغرب العربي, ولم تزد زيارته للمشرق العربي في ذخيرته شيئا لم يكن يعرفه أصلاً, وملاحظاته من تجاربه قادته إلى استنباط نمط يخص الدويلات المذكورة في تلك الحقبة الزمنية, فنظريته تقوم ببساطة على تناقض العصبية البدوية أي عصبية الدم اللازمة لنشوء الدولة وحمايتها والعصبية السياسية اللازمة لإدارة الدولة (الطور الأول طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع.... أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد من دونهم بشيء لأنّ ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب... الطور الثاني طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك.... ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك لجذع الموت أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه الضاربين في الملك بمثل سهمه...) ومن هنا لاحظ ابن خلدون نمط الدورة القائمة على هذه الثنائية في الدولة البدوية, فمن قيام بالعصبية البدوية إلى انهيار بالعصبية السياسية, وإنْ كان قد قال بإمكانية التنبؤ فهي ضمن تمديد هذا النمط على المستقبل. توقف ابن خلدون عند النمط لأنّه لم يلحظ حالة تاريخية انحلّ فيها التناقض البدوي – السياسي في مفهوم الدولة القومية المزدوج, وقد داهمت العالم العربي التأثيرات الخارجية الجارفة مانعة عملية التطور الطبيعي إلى مرحلة الدولة القومية وهو ما حظيت به مناطق شمال غرب أوروبا المعزولة نسبيا عن التأثير الخارجي. ما كان لابن خلدون أن يتجاوز هذا التناقض إلى القومية وهو البدوي – السياسي الذي واصل ترحاله من دويلة إلى دويلة يساهم في إنشائها كبدوي مخلص تارة ويساهم في اندثارها كسياسي محترف تارة أخرى. يقول طه حسين في رسالته عن ابن خلدون والتي حصل بها على درجة الدكتوراه من السوربون (...فغرض المؤرخ الحديث إذاً أنْ يقرر ويعرض الحوادث التاريخية بطريقة دقيقة واضحة على قدر الإمكان. أمّا ابن خلدون فيرى أنَّ قواعد الفحص والتحقيق ترجع إلى أصل واحد هو وجوب البحث بطريقة نظرية عما إذا كانت واقعة من الوقائع ممكنة في ذاتها وعما إذا لم تكن مناقضة لطبائع العمران, وما إذا كانت تتفق مع الزمان والمكان اللذين حدثت فيهما, فأمّا أنْ يستكشف الأثر المادي للوقائع ثم يمتحنه ويستجوبه فإنّ ابن خلدون لا يفكر في ذلك وربما لم يعتقد أنّ ذلك في حيز الإمكان) - طه حسين, فلسفة ابن خلدون الاجتماعية, رسالة دكتوراه ترجمة محمد عبد الله عنان, مطبعة الاعتماد، 1925- وهذا يلخص ما لمح إليه ابن خلدون نفسه بتأثره بعلوم البيان وتشربه للقواعد البيانية وخاصة أصول الفقه. وإن كان ابن خلدون يدعو للتجريح والتعديل في السند وفي المتن, إلاّ أنَّ تجريحه لا يطال المنطلقات والرؤية, المؤسسة لديه على الوحي والعرفان كما فصَّلناها أعلاه, فالتجريح بالمتن يتم بمرجعية الوحي والعرفان وأمّا التجريح بالسند فهو أصلاً قائم على روايات تتطلب نفس النظر المطلوب أصلاً لتعديل وتقييم وقائع التاريخ الأخرى.
التحليل أعلاه يتطلب منّا إعادة النظر في الدعوة القائلة بضرورة العودة إلى تراث وفكر ابن خلدون والدعوات المماثلة لإحياء أجزاء من تراثنا الميت لنبني عليها فكرا وحضارة موازية ومنفصلة عن الفكر والحضارة الإنسانية, والتي يشعر أصحاب هذه الدعاوى بأنهم متطفلون عليها. وما هذه الدعاوى سوى مظهر من مظاهر رد الفعل المرضي الناتج عن قبول نموذج مركزية الفكر الأوروبي و الارتهان للتنميط الغربي لعقل الشرق.