منطق الفكر ومنطق الصور*
للفكر منطق قد لا تُوفّيه الصور حقّه، ولذلك قد تقع المبالغة في العناية بصورة القول ولا يتحصّل من ذلك طائل. وقد يقع التدقيق والتحقيق في صيغة الكلام ولا نقف على ثمرة تستفاد. نودّ أن نكشف ما بين الفكرة وصورتها من فروق تنتهي إلى استبعاد كل مطابقة أو تماثل بينهما، حيث تغدو الصورة وسيلة لبيان المعنى غير مقصودة لذاتها، ولاسيما إذا تعلق الأمر بقول علمي يأبى أن يجري عليه ما يجري على القول الأدبي. ولذلك قد تعجز صورة القول الفلسفي أو القول العلمي عن الوفاء بمطلب التدقيق دون أن تخلّ بمطلب البيان. وتجليةً لهذا الأمر سنقيم تقابلا بين منطق الفكر ومنطق الصور طلبا لأوصاف كل منهما، مستعينين بشاهد فلسفي جعل الفكرة رهينة الصورة. ولما كان نقلُ المعاني من لسان إلى آخر لا يكون إلا بتوسط المباني، وقفنا عند الترجمة الفلسفية لننظر أيّ ترجمة تَفي بالغرض، وعلى أي نحوٍ ينبغي أن تكون صورة القول الفلسفي في اللسان المنقول إليه.
منطق الفكر
الفكر يعالج قضية، وللقضية منطق، وحين نُغيّب منطق القضية نتيه في تَيهاء لغوية. لا يعني ذلك أن ما أدركناه باللغة خاطئ، بل قد يكون صحيحا لا شائبة فيه، لكنه غير مناسب. لكن ماذا نقصد بقولنا إن للقضية منطقا؟ المقصود أن هنالك سياقا للقضية ينبغي مراعاته، للقضية تاريخ وأسباب موضوعية. ونجد في هذا المقام ترجمة طه عبد الرحمن للكوجيطو الديكارتي مبينة للمقصود، فقد اقترح ترجمة له فقال: "انظرْ تجدْ!". فما المسوّغات الصورية لهذه الترجمة الإبداعية عند الفيلسوف؟ نبّه طه عبد الرحمن إلى أن الكوجيطو الديكارتي يحتوي دلالة اقتضائية لا قضائية، وأنه من شروط الدلالة الاقتضائية أن النفي لا يبطلها، فلا يمكن أن يكون ديكارت قد استنتج الوجود من الفكر حقيقة. كيف وقد استعمل ديكارت نفسه بدائل تعبيرية تُجلّي الصفة الحدسية في الكوجيطو وتدفع الاستنباط بطريق القياس؟
ذلكم هو منطق الصورة، ولقد يبدو منطقا سليما لا غبار عليه. لكن حين غاب عن الفيلسوف -أو غيّب هو- سياق الكوجيطو الديكارتي وضع ترجمة غير دقيقة، إذ أغفلت صلة الكوجيطو بفيزياء كوبرنيك. كان كوبرنيك يبحث عن مركز الكون، وكان ديكارت يبحث عن نقطة ارتكاز الفكر (fulcrum). وهل يفوتنا أن ديكارت لم يكن يتفلسف إلا بالقرب من العلم(1). أليس قد أبان في رسالة إلى مِرسين (Mersenne) أن أساس فلسفته يكون باطلا لو ثبت بطلان حركة الأرض؟(2) وليس سرا أن مصنّفات ديكارت الفلسفية ظهرت في سياق الفتوح العلمية في أوربا، ولاسيما مواجهة نظام كوبرنيك الفلكي لنظام بطليموس.
كان ديكارت يبحث عن المَعلم الذي ينظم شتات الفكر كله، وكانت هذه النقطة هي الفكر ذاته. ذلك الجوهر غير الممتد غير القابل للانقسام. فهل نلمس هذا المعنى في "انظرْ تجدْ"؟ لا يكون ذلك إلا بمعجزة من التأويل والمجاز. يغيب أصل الكوجيطو الذي هو "فعل الشك" في ترجمة طه، وتُبطل الترجمةُ اليقينَ الممكن بفضل "الأنا أفكر" الكانطي (ich dinke). ذلك الكوجيطو الذي يثبت "الأنا" ويثبت "الفكر"، ما دام أن اليقين يخرج من الأنا لا من الموضوع، فكل من "الأنا" و"الفكر" مقصود. أما طه فقد خشي أن يركز المتلقي العربي انتباهه على الذات المفكرة أكثر من تركيزه على التفكير إذا لم يرجع إلى اللغة الفرنسية. "الأنا" عند طه فضول من القول، مخالف للمقام الذي قيل فيه الكوجيطو. يقول طه: «إن الذي يقول "أنا أفكر" لا يكون في مقام الإخبار ابتداء، وإنما في مقام البناء على الاستخبار، أي في مقام المجيب كما إذا علم أحد بحصول التفكير، ولكنه لم يعلم بصاحبه، فيسأل: "من يفكر؟"، فيتلقى الجواب من أحد المستمعين إليه: "أنا أفكر"»(3).
حينما تقرأ نقد طه عبد الرحمن لما سمّاه الترجمة التحصيلية والترجمة التوصيلية للكوجيطو فلا ريب أنك واجد القضية أضحت جملةً وجب أن تُقال بلسان عربي مبين. واقرأْ إن شئت استغراق الفيلسوف في بيان مخالفة شرط الجواب، ومخالفة شرط الجزاء، ومخالفة شرط التوكيد، ومخالفة شرط الفور، ولِمَ اختار ديكارت لفظ "penser" وترك ما يدخل في حقله الدلالي من الألفاظ نحو "raisonner" و"refléchir" و"contempler" و"méditer"! فعلى امتداد مائة صفحة لا تكاد تظفر بما يُشعرك أن الجملة تعبير عن قضية عند ديكارت، وليست مقصودة لذاتها(4).
أحسب أن ترجمة طه عبد الرحمن شُغِلت بالنتيجة عن السبب، وكأن الفيلسوف راعه منظر ثمرة فشُغل بها عن رؤية الأطوار التي تقلبت فيها قبل أن تصير كذلك. فحالُه كمن شُغل بالفرع عن الأصل. أرأيتَ لو أنك زرعتَ بذرة في الأرض ثم تعهّدتها بالسقي والرعاية، حتى إذا أينعت واستوت على ساقها جعلتَ لها حاجزا يوجهها ذات اليمين أو ذات الشمال أليست تذهب مع الحاجز أينما ذهب؟ ولو أنك جعلتَ الحاجز فوقها أوليس تذهب فروعها مذاهب شتى لكنها لا تتوقف عن النمو؟ ثم إذا صارت شجرة واشتد عودها أليس يصير العِوج لها أصلا أصيلا؟ لكن أيغيّر العوج من حقيقتها شيئا؟ كلا، فإنها تظل شجرة كيفما كان اتجاهها وعوجها. وكذلك لا تُغيّر صيغٌ متشابهة من حقيقة الكوجيطو شيئا. ولا أحسب أن ديكارت نفسَه كان يرى أن صورة الكوجيطو نهائية غير قابلة للتبديل(5). ولو اجتهد ديكارت الاجتهادَ كله وأفرغ وُسعه للتعبير في جملة عن قضيته لوجد أن ما انتهى إليه قابل لأن يصاغ على نحو مختلف. ومكمن الصعوبة في محاولة الجمع بين لفظ ومعنى، ولا نتصور إمكان المطابقة بينهما إلا تواضعا واصطلاحا، وإلا كيف نجمع بين طبيعتين مختلفتين؟ ولذلك لن يستفيد المتلقي العربي شيئا ذا بال من الرجوع إلى الكوجيطو كما صيغ باللغة الفرنسية للوقوف على مُراد ديكارت كما يرى طه عبد الرحمن، وإنما المطلوب أن يدرك القضية التي شغلت ديكارت واجتهد أن يعبّر عنها بألفاظ. ودليل ذلك أن الفرنسي نفسَه لا يتأتّى له فهمُ الكوجيطو إلا إذا أحاط بسياقه وتتبّع كيف استشكل ديكارت الموضوع. أما الوقوف عند اللفظ وحده ابتغاءَ الفهم فأمر لا يُعقل. ومن يفعل ذلك فلعَمري كمن يريد أن يقف على تصوّر ليبنتز (Leibnitz) لمبدأ العطالة دون أن يقف على تصوره لمبدأ السبب الكافي.
ليس مبنى الكوجيطو إلا محاولة للتعبير عن معنى، أو قل عن فكرة وقضية. وكل سعي إلى تشريحه والاستغراق في تفاصيله مبالغة وتحميلٌ للمبنى أكثر مما يحتمل. ولله درّ أبي سليمان حين قال بعدما حكى له أبو حيان التوحيدي بهرجةَ النحويين حين عرض عليهم جملة حدود: "إذا استقام لك عمود المعنى في النفس بصورته الخاصية فلا تكترث ببعض التقصير في اللفظ"(6). وهو ما دفع التوحيدي إلى نثر حدوده مستبشرا بمقالة الشيخ: "متى جمح اللفظ ولم يوات، واعتاص ولم يسمح، فلا تفت نفسَك خصائصُ المطلوبات وغايات المقصودات، فلأن تخسر صحة اللفظ الذي يرجع إلى الإصلاح أولى من أن تعدم حقيقة الغرض الذي يرتقي إلى الإيضاح"(7). ولك أن تقارن قول أبي سليمان هذا برأي طه عبد الرحمن في الترجمة الفلسفية التي غرضها عنده تحصيل القدرة على أن نتفلسف فيما ننقل، سواء وافقناه أو خالفناه، حتى ولو بلغت هذه المخالفة مرتبة التناقض!(8)
أحسب أن الذهول عن المعنى افتتانا بالمبنى ليس من الفلسفة في شيء، وإلا فإنه يرِد من الأسئلة على ترجمة طه عبد الرحمن المقترحة "انظر تجد" ما لا تجد له جوابا شافيا. فلَك مثلا أن تتصور وجود ما لا ينتهي بعد النظر. فهل المراد: انظر تجد الله؟ أم انظر تجد العالم؟ أم انظر تجد نفسك؟ فيكون هذا المعنى أقرب إلى قول سقراط: اعرف نفسك بنفسك! أم انظر تجد الحقيقة! أم انظر تجد ذلك كله؟ بيْد أن الفيلسوف يرى أن صيغة "انظر تجد" امتازت بكونها تثبت الوجود على وجه العموم، وهو ما يفتقده الكوجيطو، غافلا عن أن ديكارت ما كان يقصد مطلق الوجود، وإنما وجوده هو. وأنّى له أن يثبت مطلق الوجود وهو ما أثبت ذاته بعد؟ ثم ألا يُخشى أن ينصرف ذهن المتلقي العربي إلى ضمير المخاطب "أنت" بدل أن ينصرف إلى "فعل النظر"؟ فيكون اليقين حينئذ خارجا من الذات الناظرة لا من الموضوع محل النظر، فمَن نظر وجد، ومن لم ينظر لم يجد! أم يا تُرى لا يقين إلا بذات تَنظر وموضوع يُنظر؟ ثم أيكون النظر أوْلى من التفكر حقا؟ أرأيتَ لو قلت: تفكّر تجد! أو: تأمّلْ تجد! أو: فكّر تجد! أو: اعقلْ تجد! أو: افطنْ تجد! وماذا لو استبدلنا بالوجود معرفة أو فهما أو إدراكا أو بلوغا أو نيلا؟ فتصير ترجمتنا: اعقلْ تُدرك! أو: تَفكّر تعرف! أو: فكّر تنل! ونحو ذلك.
ثم إنه لا دليل على أن لفظ "التفكر" اختص في الممارسة العقدية الإسلامية العربية بالدلالة على النظر في ظواهر المخلوقات وحدها لا في حقائق الخالق معها، كما توهّم طه عبد الرحمن(9). ففي "الصحاح في اللغة": أفْكَر في الشيء وفكّر فيه وتفكّر بمعنى(10). أما اعتبار الخصوصية العقدية في لفظ "التفكر" فلا مسوّغ له، ولا يصح أن يُمنع استعمال لفظ "التفكّر" لسبب عقدي كما يرى الفيلسوف. كيف والحديث ضعيف السند؟ أوَتُستخرج العقيدة من الضعيف؟ فكيف نذهل عن ذلك تعويلا على تداوله وحسب؟(11) هذا لو سلّمنا أن التفكر تفكّرٌ في الخالق!
هذه بعض أسئلة خصّت ترجمة طه عبد الرحمن للكوجيطو، لم نبتغِ بها استقصاءَ حجاج الفيلسوف ومتابعته، وإنما أردناها شواهد على أن هاجس التأصيل اللغوي حجب المعنى الفلسفي.
أيعني ما تقدّم أن لا داعي لاستفراغ الجهد لتحصيل ترجمة تَفي بمراد ديكارت؟ كلا، ليس ذلك ما نقصد، كيف وكثير من سوء الفهم في تفلسف العرب سببُه ترجمات سيئة؟ وإنما نقصد أن كل ترجمة تغفل سياق القول الأصلي تجانب الصواب. فلا غرو أن وجدنا ترجمة طه عبد الرحمن حافلة بالقضايا اللغوية، غافلة عن القضايا الفكرية إلا قليلا. ولذلكم وجب في زعمنا أن تتحلّى لغة الفكر بجملة أوصاف، نذكر من ذلك:
1/ الوظيفية: لغة الفكر لغة وظيفية، بمعنى أنها وسيلة للتعبير عن قضية، وليست مقصودة لذاتها. والعجب كل العجب كيف يتنبّه طه إلى صيغ تعبيرية بديلة للكوجيطو عند ديكارت، نحو "أنا أوجد مفكرا" (ego cogitans existo)، و"أنا مفكرا" (je suis pensant)، ثم بدل أن يستدل على أن الصيغة المشهورة "أنا أفكر، إذن أنا موجود" ليست مقصودة بحَرفيتها وإنما لِما وراءها من معنى، تراه يستدل على كون الترجمة العربية "تؤكد الذات" وليس ذلك مراد ديكارت في نظره. وليت شعري هل ألجأه إلى هذا الضيق غيرُ الافتتان باللغة؟ كيف وقد قرّر من قبل أن المقصود الأصلي هو "حصول التفكير"، والمقصود التبعي هو "وجود الذات المفكرة"؟(12) ولا بد من الإقرار هنا بأنه لا مسوّغ لما سمّاه طه عبد الرحمن معيار الإمداد في مظهره التصحيحي، الذي ابتغى به صرف الالتباس الذي شاب صيغة الكوجيطو، ومن ثم إخراجه من بنية استدلالية إلى بنية حدسية. ذلك أن ديكارت لم يَلزم صيغة واحدة، وإنما استعمل صيغة أخرى لا تفيد الاستدلال، إذ نجد في "التأملات" الصيغة التالية:
Je suis, j’existe (ego sum, ego existo)
فلا نعثر على فعل التفكير أصلا (13). على أن الصيغة المشهورة "أنا أفكر، إذن أنا موجود" وردت في "مقال في المنهج"(14)، وليس في هذا الكتاب بنى ديكارت الكوجيطو بناء فلسفيا، وإنما كان ذلك في "التأملات" الذي جاء بعد. لكن طه عبد الرحمن انتقى الصيغة المشهورة، وعليها بنى نقده كله.
2/ الوضوح: لغة الفكر لغة الوضوح، ولذلك لا تسعفها البلاغة، ولا تناسبها الخطابة. مما لا يتبيّن إلا بقرائن وتأويل. والغموض حرج يُرجى رفعه، لا مطلب يُراد تثبيته.
3/ الإقناع: لغة الفكر تستهدف الإقناع لا التأثير، ولا تَلازم بينهما. فقد يقع التأثير ولا إقناع معه، ذلك أن التأثير قد يحصل بما ليس من صميم القضية، ولا من ذات الفكرة.
4/ الاختصار: لغة الفكر لغة الاختصار، وأقول الاختصار ما استطعتَ إلى ذلك سبيلا، وإلا فإن الإيجاز فنٌّ قلّ من يُتقِنه(15). وإذا لم يكن للاختصار مقياس مخصوص، فالمفكر هو من يتخذ قرار التوقف متى ظهر له أنه قد أبان وأوضح. وهنا لا يصلح إلا نصل أوكام (Occam’s razor) الذي يقضي بأن تكثير الفروض لا يكون إلا بحسب الضرورة (Numquam ponenda est pluralitas sine necessitate) وأن ما أمكن تفسيره بأقل الفروض فلا يفسر بأكثرها. ولذلك يكون الكم على قدر الكيف في لغة الفكر. ولا تَناسُبَ بين الكم والكيف في لغة الأدب. ولعل ما نقرّره هنا يكشف سبب وَلع الفلاسفة بأقوالٍ عظيمةِ المغزى على قِصرها. والألمان يقولون: ربّ قولة أبلغ من ألف كلمة(16).
وحاصل القول أن المطلوب في لغة الفكر مراعاة التناسب بين الأشياء والكلمات، لأن المراد أن نفهم الأشياء، ولهذا الغرض نتوسّل بالكلمات. فيكون من العبث إذاً إطالة الكلام إذا حصل الفهم. تلك أوصاف لغة مخصوصة اقتضت منطقا مخصوصا.
منطق الصور
لا جرم أن القول الأدبي أكثر الأقوال عناية بالصور والمباني، ففي رحاب الأدب نحتفي بالكلام البليغ، وتُصافحنا العبارة الأنيقة وهي تنتقي لفظا شريفا لمعنى لطيف. فلْنُجمِل أوصاف لغة الأدباء فيما يلي:
1/ القصدية: لغة الأدب تُقصد لذاتها وليست مجرد وسيلة للتعبير. ولذلك لا تخلو لغة الأدب من جمال. وهل يُتّخذ الجمال وسيلة لغيره؟
2/ الإمتاع: لغة الأدب لغة إمتاع، والإمتاع يستلزم الإبداع. ولا إبداع إلا باستعارة ومجاز وخطابة تطيلُ القول. وليس من شرائط الإمتاع قول الحقيقة، فقد يَحصل الإمتاع ولا حقّ معه ولا حقيقة.
3/ التأثير: لغة الأدب تطلب التأثير لا الإقناع. وإن اجتمعا معا فهو الكمال، وإلا فإن الأصل في الأدب التأثير.
4/ الإطالة: لا حرج في الإطالة ما دام شرط الإمتاع متحقّقا. وليس القول "ما قلّ ودلّ" شرطا في لغة الأدب. وسينكسر نصل أوكام حتما لو أُعمِل في لغة الأدب. فلا ضرورة للتناسب بين الكم والكيف. وحينئذ لا حرج أن نردّد مع هاملت مخاطبا هوراسيو: "يوجد في السماء والأرض من الأشياء أكثر مما تحلم به فلسفتك هوراسيو"(17).
وحاصل القول أنه لا مراعاة في لغة الأدب للتناسب بين الكلمات والأشياء لأن المراد الاستمتاع. فإطالة الكلام هنا إطالة للمتعة. ولئن كانت تلكم أوصاف لغة الأدب، فلا ريب أنها لا تصلح لأن تكون أوصاف لغة الفكر. إذ لا يروم الفكر الإمتاع الصوري أو التأثير الوجداني، ولا كانت لغته مطلوبة لذاتها حتى يشفع ذلك لإطالة القول. فها هنا لغتان ومنطقان، تقوم الصورة في أحدهما مقام الركن الركين، في حين لا تكون في الآخر سوى مَعبر للمقصود.
في الترجمة الفلسفية
الترجمة نقل معنى من لسان إلى لسان. ولذلك لا مسوّغ للحديث عن ترجمة تأصيلية بالمعنى الذي وضعه طه عبد الرحمن. إذ الترجمة التأصيلية عنده "تورث فلسفة حية، والمراد بالفلسفة الحية... الفلسفة التي تنقل عن الغير المضمون الفلسفي، ناظرة في أسبابه التداولية، ومستبدلة بها الأسباب التداولية للغة المنقول إليها متى خالفت اللغة اللغة"(18). وليس الاعتراض هنا على نقل المضمون الفلسفي، وإنما هو اعتراض على العلاقة اللزومية التي نلحظها في ربط مضمون فلسفي بأسباب تداولية، لأن ذلك يعني أنه لا وجود لمعنى مستقل بذاته، يكون النظر فيه نظرا موضوعيا. وها أنت ترى ديكارت يعقّب على اعتراض هوبس بقوله إن الأفكار نفسها يُعبَّر عنها بلغات مختلفة. فالإله موضوعُ فكرة وليس موضوع صورة(19). أما عند طه عبد الرحمن فلا حرج أن يتلبّس المضمون الفلسفي بمجال تداولي، ثم يَخرج بعد ذلك إلى معنى غير المعنى الذي وُضع في الأصل ما دام أن المطلوب هو تحصيل ملكة التفلسف. لا ريب أن هذا الرأي يقوم على نفي وجود حقيقة موضوعية يرومها العقل. أليست الحقائق العقلية تستمد بداهتها من ذاتها، وفي غنى مطلق عن الواقع؟ كيف نُقحم مجالا تداوليا بمكونات عقدية ولغوية ومعرفية ونحن نعالج قضايا عقلية؟
إن تصور الفيلسوف للأسباب التداولية التي تبيح التصرف في الأصل من شأنه أن يقطع كل تواصل بين بني آدم، وأن يستنبت الخلاف مع عدم التوارد. وإلا كيف نناظر ديكارت وقد ذهبتْ بقصده الأسباب التداولية؟ وأيّ نقاش هذا ومحلّ النزاع لم يُحرَّر؟
ولذلك لا نرى شروطا للترجمة سوى موافقة أساليب اللسان المنقول إليه في التعبير وقواعد الإبلاغ. ولسنا نشترط في الترجمة -كما قال دفيد بِلو- أن تكون استنساخا، وإنما أن تشبه الأصلَ كما يشبه الابن أباه وحسب(20). ولا تروم الترجمةُ التأثير والشاعرية، وإنما فهم المعنى الأصلي، ولذلك ينبغي أن يُستفرغ الوسع لتكون صياغتها أقرب إلى الأصل(21).
ولعلنا بذلك نقف على ما بين الترجمة الفلسفية والترجمة الأدبية من فرق. ذلك أن ترجمة العمل الأدبي من لغة إلى لغة لا تقتصر على نقل المعنى والموضوع وحسب، وإنما المطلوب أن تنقل ما يحمل من انفعال وتعبير كذلك(22). ولا ريب أن دون ذلك خرط القتاد.
على سبيل الختم
لا ضير أن ينسحب ما قيل عن لغة الفكر على لغة العلم لأن مشكاتهما واحدة. فالعلم يراعي الفكرة لا شكلها، وما كان كانط (Kant) ليشترط صحة الصورة المنطقية مضافة إلى صحة المضمون إلا لاعتقاده أن الحقيقة لا تُدرَك إلا بهما. لكن صحة الصورة لا يعني أن تنقلب الحقيقة إلى قضية لغوية. ثم إنه ليس كل أدب لا فكرَ فيه، وإن كان يحسُن بالفكر أن ينأى عن الأدب. وإذا كان السؤال: لماذا؟ فالجواب: للسبب الذي جعل أفلاطون يطرد الشعراء من جمهوريته. وللسبب الذي جعل سقراط خصم السوفسطائيين اللّدود. ثم للسبب الذي جعل أرسطو مكتشف علم المنطق.
هما لغتان إذاً، ولكل لغة منطقها، ونضيف أيضا أن لكل لغة قيمتها. ففي حين تراعي لغة الأدب قيمة "الجمال"، تراعي لغة الفكر قيمة "الصدق".
أنخلص إلى أن بين لغة المفكر ولغة الأديب فصلا لا وصل معه؟ ليس في وُسعنا أن نتكلم عن قطيعة هنا، لكن اللغة أصناف وضروب، وليس لنا إلا تبيّن المقاصد لاختيار اللغة الأنسب. قد يُغنينا في هذا المقام قول أبي حيان التوحيدي: "الحاجة إلى الكلام في الجملة أكثر من الحاجة إلى البلاغة"(23). فتأمل الفرق بين غرض معرفي وغرض جمالي لتُدرك الفرق بين لغة الفكر ولغة الأدب! وإذا لم يكن بالوسع تصور انفصال العقلي عن الوجداني انفصالا بائنا، فليس بالإمكان أيضا تصور ألا فرق بين قصد العِلم بالشيء وقصد تذوّقه. ولو أن النحو يكفي للتعبير عن المعقولات لاستغنينا عن المنطق، ولكن الأمر كما قال الفارابي: "نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ"(24). ولا يصح أن نقوّم اللسان بالمنطق، كما لا يصح أن ندرك المعقولات بالنحو.
أزعم بعد ما تَقدّم أنه لا داعي لكثير من المجلدات والمصنفات في زمن الناس هذا، ولو تيسّر لمن ألّف في المنطق من علماء العرب ما تيسّر لأهل هذا الزمان لاكتفوْا بكتاب أو اثنين. ولكنك تجد الشيخ يؤلف لتلامذته وليس بين أيديهم كتاب واحد في المنطق، ولو جمعتَ كتب الشيوخ لوجدت أنها كتاب واحد إلا بعض اختلاف. فليس الذنبُ ذنبَ من ألّف لسبب معلوم، وإنما هو ذنب من جمع المصنّفات وظن أن ذلكم هو المنطق، وأنّ عِلمَه لا يجتمع إلا لمن تتبّع ما قالت العرب فيه والعجم. فإياك أن تغرّك الكثرة عن الفائدة! فرُبّ كثير لا غَناء فيه! ثم إياك أن تقيس على موسوعة أو دائرة معارف، فإن كمّها على قدر كيفها!
ولأن هذا المقال مقال فكر لا أدب، سأتوقف هنا زاعما أن الإفهام قد حصل، وأن الإقناع قد كان، فلا داعي لمزيد بيان. لكن إذا وضح المقصود فأَعمِلْ فكرك ثم أجِلْ بصرك فيما حولك ترَ الهذر أينما وليت وجهك!

* نشرتُ هذا البحث في مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 164-165، 2014. وارتأيتُ أن أضعه هنا بين أيدي قراء الواحة لعلهم يجدون فيه ما يفيد، ولاسيما من يشغله أمر الترجمة منهم.

.................................................. .....................
1 - "il me fallait entreprendre sérieusement une fois en ma vie de me défaire de toutes les opinions que j’avais reçues jusques alors en ma créance, et de commencer tout de nouveau dès les fondements, si je voulais établir quelque chose de ferme et de constant dans les sciences". Descartes, Méditations métaphysiques, Cérès, Tunis, 1994, p : 24
2 - "je confesse que, s'il est faux (le mouvement de la Terre), tous les fondements de ma Philosophie le sont aussi, car il se démontre par eux évidemment. Et il est tellement lié avec toutes les parties de mon Traité, que je ne l'en saurais détacher, sans rendre le reste tout défectueux". Descartes, Lettres, extraits de lettres écrites entre 1633 et 1638. Un document produit en version numérique par Jean-Marie Tremblay, p : 4. Voir: http://classiques.uqac.ca/classiques...es/lettres.pdf
3 - طه، عبد الرحمن، فقه الفلسفة، ج 1، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1995، ص: 413.
4 - المرجع نفسه، من الصفحة 407 إلى الصفحة 506.
5 - بل إن كتاب "التأملات" نفسه، الذي عرض فيه ديكارت الكوجيطو، لم يكن في أصله مرتبا كما هو بين أيدي القراء اليوم. ذلك ما توضحه رسالة ديكارت إلى ميرسين. وهي رسالة كشفها إريك جان بوس في غضون سنة 2010 بعد ضياع طويل (انظر: http://www.bibliotheque-institutdefr.../Descartes.pdf).
6 - التوحيدي، أبو حيان، المقابسات، تحقيق: حسن السندوبي، دار سعاد الصباح، ط 2، 1992، ص: 319
7 - المكان نفسه.
8 - طه، عبد الرحمن، مرجع سابق، ص: 468.
9 - المرجع نفسه، ص: 470.
10 - الجوهري، مادة: فكر. وفيه أن التفكّر التأمل. وانظر كذلك: القاموس المحيط ومقاييس اللغة ولسان العرب.
11 - طه، عبد الرحمن، مرجع سابق، ص: 470.
12 - المرجع نفسه، ص: 413.
13 - Descartes, Méditations métaphysiques, op. cit, p : 32.
14 - Descartes, Discours de la méthode, Maxi-Livres Profrance, 1998, p : 50.
15 - أرسل سعد زغلول خطابا إلى الشيخ محمد عبده يقول في آخره: "معذرة على الإطالة، لم يكن لدي وقت للاختصار".
16 - Ein Zitat sagt mehr als tausend Wörter.
17 - “There are more things in heaven and earth, Horatio, than are dreamt of in your philosophy”. Hamlet, Act 1, Scene 5.
18 - طه، عبد الرحمن، مرجع سابق، ص: 467.
19 - Descartes, op. cit, p : 102.
20 - "Traduire, ce n'est pas fabriquer un clone. La traduction doit ressembler à l'original comme un fils -ressemble à son père, voilà tout", David Bellos, http://www.lefigaro.fr/livres/2012/03/21.
21 - يدعونا دفيد بلو في هذا المقام إلى المقارنة بين ترجمتين لرواية مارسيل بروست A la recherche du temps perdu إلى الإنجليزية. ففي حين ترجمها معاصر لبروست إلى: Remembrance of Things Past، رأى من جاء بعد ذلك أن يترجمها إلى:In Search of Lost Time. فكانت الترجمة الثانية أقرب إلى الأصل. يقول بلو عن هذه الترجمة: إنها أقل شاعرية، لكنها أكثر صحة (المرجع نفسه).
22 - خورشيد، فاروق، مع المازني، دار الهلال، 1984، ص: 132.
23 - المقابسات، مرجع سابق، ص: 171.
24 - إحصاء العلوم، دار ومكتبة الهلال، ط 1، 1996، ص: 28.