المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بشار عبد الهادي العاني
بكى بشدة , وبحرقة , هو لا يريد الإنتقال مع أهله إلى المدينة.
لم تفلح تبريرات الأب والأم , ولا كميات الحلوى المستوردة الكثيرة , ولا إغراء الورقة النقدية الجديدة من فئة الخمس ليرات
هو يريد البقاء مع جيرانه , مع من يحبهم , مع ريفه الجميل.
نظر إلى الحنونة والحنون , كانا يبكيان لبكائه , وكأن كل دمعة يذرفها , تنهال في صدرهما رماحاً ومدى .
رغم جمال المدينة وطيبة أهلها وكثرة أشجارها , ونظافة الحي و شارعه , وبعده عن المركز المزدحم , إلا أنه أحس بغربة تخنقه ,بمرارة تعصره.
قضى ليلته الأولى وكأنها قرن مظلم , لم تأت العمة كعادتها بعد الفجر, لتأخذه عندها كي تشرب (المته) , فقد كان هو سكرها , كما كانت تقول له.
لم يصطبح بضحكات العم وعناقه الحار كل صباح.
وقف على النافذة حزيناً مترقباً , يراقب الناس وحركتهم , غير آبه بملابسهم ذات الألوان المختلفة , والتي لم يعتد على مشاهدتها هناك.
عاد الوالد من عمله وقد جلب المزيد من الفاكهة والألعاب والحلوى , لكها لم تلفت انتباهه ,
- قم لقد أحضرت غداءاً جاهزاً من السوق , إنها صحاف اللحم الذي تحب
- لا أريد الطعام .
فجأة , وبدون سابق إنذار يقفز الطفل فرحاً ونشوة , لقد سمع صوتاً يحبه كثيراً , إنه صوت الدراجة البخارية الكبيرة , التي لطالما أقلته في نزهات العاصي , وحقول التفاح.
لم تخب آماله , صوت العم الحنون , يطرق الباب , يرتمي في أحضانه كالقط المتجمد برداُ
- لا تؤاخذوني يا جماعة , لكن الزوجة لم تنم ولم تأكل شيئاً من الأمس , وهي في بكاء مستمر , إنها تريد أن تراه , اسمحوا لي أن آخذه معي وسأعيده إليكم بعد الغد.
- اجلس الآن للغداء , ثم خذه معك , هو أيضاً لم يأكل شيئاً منذ البارحة.
- لا, لا , الزوجة تنتظر.
يضعه في حضنه على سدة الدراجة , ويغطي رأسه بشال دافئ, مقبلاً رأسه ,متوجهاً إلى مدينته الوادعة.
شعور لا يوصف , هو الآن يشعر بالجوع , يشعر بحبه للحلوى , يريد أن يأخذ الورقة النقدية...
ذات مساء في ليلة نقاش مع والده بعد سنين طوال , أخبره الوالد أمراً أبكاه وهيج فيه الحنين:
- في ذلك اليوم يا بني جاء هذا الرجل ليأخذك , ولكنه عرض أيضاً , أن يتنازل عن كل أملاكه وأراضيه وبيوته لك , مقابل أن تعيش معه, وتكون ولده.
- لماذا رفضت يا أبي , وكنت لا تملك المال.
- أنت أغلى عندي من ذلك.
في صيف عام 2000 الأب يتصل بولده على العمل , ليخبره أن ذلك العجوز الطيب قضى , وأنه أوصى بأن لا يدفن حتى يكون حبيبه حاضراً دفنه , رغم اختلاف الدين , وبعد المسافات والرؤى...