ج1.
أردت أن أضع في هذا الموضوع أقوالا نفيسة لابن خلدون تخص الشعر والشعراء وحاولت بعد كل قول استخراج الفوائد عن طريق تلخيصها في نقاط ثم أعقبتها بتعقيبات بسيطة وملخصة أيضا. وقمت بوضع عناوين تخص كل قول مقتبس حسب تدرجها من العام إلى الخاص.
1-إستمرار البلاغة في اللغة:
"و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد. و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم. و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك. و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب. و هو بعض من أحكام اللسان"
-يستفاد من هذا القول أن اللغة العربية -الصحيحة بعيدا عن اللهجات- بفنونها لم تكن تزل سليمة وصحيحة برغم ما شابها من جراء الاختلاط بالعجم, بدليل الكتابات الموجودة آنذاك من شعر ونثر والتي هي على شاكلة ما كُتب من قبل وقد تتفوق عليها في البلاغة (هذا ما سيأتي بيانه لاحقا). وهذا يمهد لنا طريقا لبسط الاقوال اللاحقة كوننا ننطلق من منطلق سلامة اللغة وبالتالي سلامة الدراسات والنقد المهتمة بمختلف فنونها.
-الاشكالية المطروحة تكمن في استمرار سلامة اللغة في عصرنا هذا. الاجابة تكون من نفس المنطلق حيث تعكس النصوص المعاصرة سلامة وبلاغة اللغة المكتوب بها والامثلة كثيرة (انظر مثلا قصائد احمد شوقي وغيره). ونجد اهتماما ملحوظا بحركات الاعراب في عصرنا الحالي ربما بسبب ما ذكره ابن خلدون.
2-تعلم فن اللغة عن طريق التكرار
"إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعانى و جودتها و تصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. و ليس ذلك بالنظر إلى المفردات و إنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة و مراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع و هذا هو معنى البلاغة. و الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا و تعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا. و معنى الحال أنها صفة غير راسخه ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله و أساليبهم في مخاطباتهم و كيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة و من كل متكلم و استعماله يتكرر إلى أن يضير ذلك ملكة و صفة راسخة و يكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن و اللغات من جيل إلى جيل و تعلمها العجم و الأطفال. و هذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم و لم يأخذوها عن غيرهم"
-بين ابن خلدون أن تعلم اللغة يكون بالاحتكاك بأصحابها ولا يكون هذا إلا بالتكرارالمستمر. فيكون في بداية الأمر تعلم المفردات مستقلة عن غيرها ثم يكون تعلم تركيبها فيما بينها لتشكيل معنى للكلام وهذا عن طريق المخالطة التي تتيح لصاحبها استشعار التراكيب السليمة والبليغة ومحاكاتها حتى تتشكل له ملكة.
والاستمرار لازم كون المكتسبات اللغوية في بداية الطريق لا تزال غير راسخة وقد تزول. وهذا حال كل مبتدئ في أي فن من فنون اللغة العربية. هذا يمهد لنا بيان كيفية تعلم الشعر فيما سنقدمه لاحقا.
-المخالطة لا تستلزم المجالسة وإن كانت من أفضل طرق التعليم, وهي تستعمل حاليا في تعليم اللغات عن طريق ارسال المتعلم إلى البلاد الأصلية للغة لمدة كافية, ولكن كثرة القراءة والحفظ يتحيان للفرد امتلاك الاسلوب (سياتي بيانه في الملكة الشعرية).
3-كيفية تعلم اللغة:
"و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال".
-يبين صاحب المقدمة هنا الطريق التي تؤدي إلى الاحتكاك السليم ألا وهو حفظ القرآن والاحاديث وكذا سائر كلام فحول اللغة العربية ثم محاولة الكتابة بأسلوبه الخاص مراعيا في ذلك الواقع الذي يعيشه.
-هل يمكن في عصرنا هذا الوصول إلى مرتبة من عايش العرب وتعلم لغتهم -على قول ابن خلدون, فعصرنا يتميز بضياع اللغة السليمة من ألسن الناس واستبداد اللهجات واللغات الاجنبية. أي هل يكفي الاحتكاك بالنصوص لاكتساب ملكة من عاش في عصر انتشار اللغة العربية البليغة. يبدو الامر صعبا إن لم يكن غير ممكن وهذا بسبب التباين الواسع في مدة وطريقة الاحتكاك فليس كمن عاش في وسط عربي ثقافة ولغة كمن عاش في وسط هجين, والعبرة هنا بقارنة أفراد من نفس المرتبة اللغوية فنقابل فحول اللغة في عصرنا مع فحولها في عصر اللغة العربية و انتشارها.
يمكن تقليل الفجوة باللجوء إلى علوم النحو والصرف بتعليم قوانينها بالاضافة إلى الاحتكاك مع النصوص وأصحاب اللغة.
4- عدم كفاية تعلم قوانين اللغة وأنها قد لا تكون ضرورية
"...صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها. و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً....و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي , و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه.. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة"
-يتبين من هنا أن تعلم قوانين اللغة كالنحو والصرف لا تعد غاية في ذاتها بل هي وسيلة لاكتساب مهارات كتابة اللغة واجتناب الاخطاء كوضع العلامات الصحيحة آخر الكلمات والصرف الصحيح وغيرها. فقد يكون النحوي غير قادر على الكتابة الصحيحة وقد يكون الجاهل بقواعد النحو قادرا على تقديم نصوص مميزة, والسبب يعود في ذلك إلى الاحتكاك بالنصوص وأصحاب اللغة البليغة ومدى اكتساب الفرد لملكة الانشاء.
-مع ضعف الاعتماد على القراءة و الاحتكاك بالنصوص في وقتنا هذا يكون تبني الطريقتين وسيلة فعالة, و الاشكالية موجودة الآن في قلة القراءة.
5-البلاغة العربية لا يمتلكها الأعاجم
"و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك. و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم. و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة. و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء. إنما حصل أحكامها كما عرفت. و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط".
-يبين الكاتب أن من فاته تعلم اللغة والبلاغة عن طريق اكتساب الملكة في صغره لا يحصل عليها في كبره بسبب أنه اكتسب بلاغة لغة أعجمية وهي تحول دون امتلاك بلاغة اللغة العربية. فامتلاك البلاغة يكون بشرط أساي وهو عدم امتاك بلاغة أخرى.
-هناك من يتكلم عدة لغات فهل هذا يخالف ما جاء به ابن خلدون أم يطابق. المطابقة تتجلى في معرفة أن هؤلاء تكلموا تلك اللغات في صغرهم فحصلوا على الملكات بصورة متوازية, أو أنهم لا يملكون بلاغة تلك اللغات وإنما كلام دون البلاغة وأنهم يملكون أدواتها فقط دون البلاغة...