الدرس الأول والمهم من تجربة فرنسا فى محاربتها ومواجهتها للإرهاب أن استراتيجيتها لا ينبغى ألا تبنى من منطلق مكافحة الإسلام ذاته أو السعى لمحو الهوية الإسلامية، وإذا كانت الجزائر العربية المسلمة صمدت عشرات السنين فى وجه حملات التذويب ومحو الهوية التى مارستها فرنسا بالقتل والدم، فعلى فرنسا أن تستوعب دروس التاريخ، وهى لن تستطيع حل إشكالية تزايد عدد المسلمين فى أرضها وتزايد معتنقى الإسلام بالاستلاب أو باعتباره غزواً لأراضيها يتطلب استحضار الروح القديمة فى مواجهة الإسلام.

هذه الاستراتيجية مستحيلة التحقق على الأرض، والممكن تحققه هو ترشيد الفكر والممارسات واحتواء الشباب من التشدد والغلو إلى الوسطية والاعتدال، أما احتواء الإسلام ذاته والعبث بثوابته بزعم أن هذا هو طريق محاربة الإرهاب والتطرف فهذا هو الفشل ذاته، وليس التاريخ فقط شاهد بل الواقع، وجزائريون ومغاربة - الذين أرادت فرنسا قديما إخضاعهم ومسخهم وإعادة صياغتهم عقديا وثقافيا وحضاريا – موجودون الآن فى قلب فرنسا بهويتهم الإسلامية التى استمات جنرالات ومفكرو فرنسا فى محوها بشتى الطرق وفى كل الميادين، وحاضرون بذاكرتهم الإسلامية التى اجتهد دهاة باريس فى تدميرها، وبزيهم الإسلامى الذى تفنن مصممو الموضة الفرنسية فى محاولات إقصائه وتمزيقه.

هنا مفارقة نلفت إليها الأنظار؛ فقد صمدت الجزائر أمام زلازل فرنسية مدمرة وحروب بشعة، وها هى تطرق باب باريس اليوم بسلام ورفق ودبلوماسية ورقة، فما بال قلب فرنسا يضيق بالإسلام والمسلمين، الذين لم يقتحموها غزاة بالسلاح والدم – كما فعلت فرنسا – إنما بشكل حضارى وبسلمية – نسبة قليلة جدا من المهاجرين المسلمين لا تتعدى 2% هى المتعاطفون مع القاعدة والغالبية مواطنون ناجحون ومتعايشون بسلام، إذًا ما بال فرنسا لا تصبر ولا تصمد أمام ثقافة وافدة تعبر عن نفسها بطريقة سلمية متحضرة.

فرنسا – بلاد الغال - منارة الحضارة الغربية وحصن الثقافة الأوروبية، لا تصبر ولا تقدر على الثبات والصمود، وتخشى على بنيانها الثقافى وعمقها الاجتماعى من بعض المظاهر الإسلامية السلمية، ومن بعض القيم والمفاهيم والسلوكيات الإسلامية؟

أعلنها نقولا ساركوزى عندما كان وزيرا للداخلية عام 2003م قائلا: "الإسلام الذى تريده فرنسا هو إسلام فرنسى وليس إسلاما فى فرنسا"،
وهنا نضع أيدينا على الإشكالية، فالبعض يتصور أن القفز إلى التلاعب والعبث بثوابت العقيدة وأركان المنهج ورموزه من شأنه أن يدحر التطرف والإرهاب، وهذا وهم كبير، فضلا عن كونه خطأ منهجيا فادحا؛ لأن الخلل كامن فى الممارسات والتطبيقات المعاصرة، وضعف حضور العقل النقدى والفكر الاجتهادى الذى يبدع منهجا فقهيا جديدا ومتطورا يحافظ على الثوابت ويراعى المبادئ العامة للشريعة وينسجم ويلائم مستجدات ومتغيرات العصر، وليس الخلل فى الثوابت والأركان والمبادئ – حاشا لله -.

وقد كانت هناك مداخلات لبعض المفكرين فى مؤتمر مكتبة الإسكندرية الأخير "نحو استراتيجية عربية شاملة لمكافحة التطرف"، أشار بعضهم إلى تجربة بورقيبة فى منع تعدد الزوجات ومظاهر ومفاهيم إسلامية أخرى، وتحدث البعض عن أشياء فى صلب العقيدة كعذاب القبر.. إلخ، وكان ردنا أن هذا القفز من نقد ممارسات وتطبيقات الفكر – وهذا مطلوب – إلى نقض الثوابت مرفوض، وأذكر أننى طلبت من بعض المفكرين والمثقفين فى التيار اليسارى فى مؤتمر سابق أن ينشغلوا بمراجعة وتصحيح أخطاء تياراتهم، ولينشغل الدكتور جابر عصفور بمراجعة أخطاء تياره الفكرى ومظاهر القصور فى وزارته، وليتركوا لنا مهمة تصحيح ومراجعة أخطاء التيار الإسلامى، وكان الهدف هو ضمانة ألا يقفز أحدهم من نقد الحركة الإسلامية إلى تطرف فى جهة مقابلة بالعبث فى الثوابت والقيم.

خبر أوردته وكالات الأنباء والصحف ومواقع الإنترنت؛ ففى مدينة نانت غرب فرنسا أوقفت السلطات الفرنسية الجزائرى المسلم إلياس حباج، وهو جزار من أصل جزائرى يحمل الجنسية الفرنسية، والتهمة "تعدد الزوجات"!

وحتى لا تجرده السلطات من جواز سفره وحتى لا يفقد جنسيته الفرنسية وحتى لا يحرم أبناؤه الاثنى عشر من الإعانة المادية التى يحصلون عليها من الدولة بعد إدانته بتهمة ممارسة "تعدد الزوجات"، صرح حباج للصحفيين بأن واحدة منهن فحسب زوجته والأخريات "خليلات" قائلاً: "إذا كان من الممكن تجريد المرء من جنسيته الفرنسية لأن له خليلات فسيفقد كثير من الفرنسيين جنسيتهم"!

نحن لا نستورد مثل هذه الحلول الفرنسية القاصرة لمواجهة الفكر المتطرف، بل علينا تصدير تجربة راقية منهجية متوازنة فى مواجهة هذا الفكر لكل بلاد العالم، نصرة للمنهج وإنصافا له من كلا التطرفين؛ ذاك الذى يشوه المنهج بتطبيقاته الشائهة، وذاك الذى يشوهه بالطعن والعبث فى ثوابته وقيمه.

ما أشبه هذه القصة بما حكاه المفكر الجزائرى مالك بن نبى عندما قال: "لقد استمعت سنة 1932م إلى محاضرة فى أحد المعابد البروتستانتية بباريس يذكر فيها المحاضر فى نطاق حديثه عن العالم الإسلامى القصة الغريبة التى حدثت لمقهى عربى بإحدى ضواحى العاصمة؛ فصاحب المقهى كان لا شك مسلما يعمل بأوامر دينه، حين لا يتعاطى المشروبات المسكرة، ولا يسمح بالقمار فى محله، وسرعان ما وجد نفسه (هذا الشخص الخطير) فى مضايقات أحاطه بها البوليس فى كل يوم، ولقد أدرك هذا الرجل خطورة انتهاج سبيل الفضيلة، فتركه ليمشى فى طريق الرذيلة، حينئذ تركه البوليس يتنفس"!

هذا أسميه "تطرفا فى الاتجاه المقابل".. وليس مواجهة ولا حلا لظاهرة التطرف.