" يسعدنى الآن ويملؤنى الفخر أن أعلن نجاحى فى تحضير هذا العقار, هذا الحلم الذى راود البشرية كثيراً وأظنه كان من المستحيلات حتى أتيت به".
كنت أحادث نفسى -وكأنى أمام رهط من العلماء- التى أرهقتها شهوراً طويلة بلا نوم ولا راحة, عمل وكد متواصل حتى أصابنى الكلل, ورغم تأكدى من نتيجة عملى إلا اننى كان يلزمنى تجربته فعلياً حتى يكتمل الإبداع, وأسجل براءة اختراعى المذهل.
تركت الحجرة الصغيرة التى جعلتها معملى ومركز إبداعى وبيدى قارورة تحوى خلاصة جهدى, توجهت إلى حجرتى ووضعتها برفق على المنضدة, وارتميت على الأريكة وأنا أرقبها بشغف كما تفعل الأم مع وليدها الصغير.
" الناس صناديق مغلقة"
قالها لى والدى -رحمه الله- وهو يجلس معى يوماً ليحادثنى كعادته, ويحاول أن يبثنى خلاصة تجربته فى الحياة, كان يحاول جاهداً أن يجعلنى مسيطراً على انفعالاتى غير مستبقاً للأحداث, وأن أمعن الفكر قبل أن أنطق- أو أهذى- تحت تأثير الحدث, كان يرانى شغوفاً بمعرفة بواطن الأمور, ولعاً بتوقع أفكار الآخرين, كان الرجل حكيماً ولا شك, ولكنى رفضت فى قرارة نفسى هذه العبارة, كيف يكون الناس صناديقاً مغلقة؟ هل يمكنهم حقاً كبت مشاعرهم وإظهار غير ما يبطنون؟ ولماذا لا أملك من المفاتيح ما يتيح لى فتح هذه الصناديق؟
كنت أترك لخيالى العنان وأنا أسير فى الطرقات, ومن حولى صناديق تتحرك وتتدلى منها الأقفال, وتحت كل صندوق قدمان تسيران بسرعة أو ببطء أو تتوقفان لعمل ما, كانت تحاصرنى الصناديق وكلمات والدى وأفكارى المتوهجة.
- أهلاً يا عزيزى, كيف حالك؟
-......................................
- نعم, اعترف أنى مقصر فى حقك, لكنى كنت منشغلاً ببعض الأعمال فى الفترة الماضية.
-......................................
- اتصل لأهذا السبب, افتقد لقاءاتنا بشدة, ما الموعد المناسب لك؟
-......................................
- إذن اتفقنا, إلى اللقاء.
تطلعت إلى النافذة, وأنا احلم باللقاء, لن أجد أفضل منك يا صديقى العزيز لتكون شريكى فى تجربتى وشاهداً على لحظة نجاحى, كم هزأت بى فيما سبق لكنى الآن سأتيح لك الفرصة لتعى قيمة صديقك الحقيقية, سيملؤك الفخر عندما تدرك, لا أشك فى هذا لحظة واحدة.
ضمتنا القاعة الرحبة فى نادينا المشترك وجلست بيننا رقعة الشطرنج كعادتنا منذ الصغر, نظرت إلى كأسىّ العصير وقد تغير لوناهما قليلاً ومالا إلى الأحمر الداكن, وفقاعات كرؤوس الدبابيس تتصاعد فى بطء لتختفى عند السطح, بدأنا اللعب وبدأنا فى تجرع كأسينا, لم أحاول أن أفسد الأمر فوضعت لنفسى ذات القطرة التى وضعتها له.
لفنا الصمت الطويل, وبدأ الحوار دون كلام, يا إلهى, يبدو أنى نجحت بالفعل !!!
- نجحت فى ماذا أيها الأخرق, أما زلت على احلامك المستحيلة, أنظر لرقعة اللعب قبل أن أقضى عليك.
- لا شك أنك مازلت لا تدرك ما يحدث لك -لنا- سأحاول ألا أفكر فى الأمر حتى يصبح وقع المفاجأة أجمل فى نهاية الأمر .
- كأنى أسمعك تتحدث, ماذا تخفى أيها الأبله؟ وهل يمكنك إخفاء شيئاً وأنت أمامى كالكتاب المفتوح, مسكين.
- تنعتنى بصفات غريبة وتتحدث عنى بطريقة لم أعهدها فيك, ماذا دهاك؟؟
- لأنك غبى, تصدق كالبلهاء تمتمات الشفاه, انظر, أخطأت ومات وزيرك !!!
- تتمادى فى السب وكأنك تتلذذ بهذا, كأنك معتاد على احتقارى, رغم أنى لم أرَ منك يوماً أى تحقير, قد يكون هزلاً كعادة الشباب, أو بعض الغيرة, لكنى ...
- اصمت أيها الأحمق, أنت لا تدرك أى شىء, تحيا كالميت بين قواريرك, تغلق عليك بابك ويأتيك -ياللعجب- كل ما تشتهى دون أن تسعى, إنك أحمق محظوظ لا أكثر.
- يا إلهى, أهذا ظنك بى ؟
- نعم, بل أكثر من هذا, أظنك لو عرفت كل شىء لتركت هذا البله جانباً وانتبهت لكونك أكبر أحمق فى الكون.
- ....................................
- أحسنت, فالصمت من أمثالك حكمة, خير لك أن تنهى هذه الجولة سريعاً فلدى موعد مع جميلة جديدة ولا أحب أن تنتظرنى طويلاً.
- جميلة جديدة ؟؟!!
- لا تخف, ليست زوجتك, فقد سئمت زوجتك فهى بنفس حمقك, كما أن شفتيها دوماً باردتان كالثلج, ........
***************************
" لاأعلم يا سيدى أكثر مما ذكرته, لقد جلسا كعادتهما قليلاً يلعبان الشطرنج, ولم يسمعهما أو يرهما أحد يتشاجران أو يتحادثان, كانا فقط ينظران لبعضهما, وانتبه كل من فى القاعة على شوكة الطعام وهى تستقر فى رقبة أحدهما, فتفجرت الدماء فى كل مكان, لقد كان مشهداً رهيباً....."
نظر الرجل إلى رقعة الشطرنج المغطاة بالدماء, ورفع حاجباه دهشة, فقد كانت الجولة لم تنته بعد ,,,,,,,,,