" من فضلك .. ضع السماعة.."
دخلت كابينة التليفون وأغلقت بابها الزجاجى خلفى, الكابينة تقف شامخة على رصيف ما فى شارع ما, رأيتها قبلاً فى الأفلام الأجنبى وتمنيت لو صادفت مثلها هنا, فالتليفونات عندنا تلتصق على أى حائط أو ترتفع فوق عمود ( !! ) تحيطها قطعة معدنية لا تقى من أى شىء, لا تقى من الشمس ولا تحجب عنك أصوات العربات والبشر ولا تمنع تناثر مياه الطريق عليك عندما تصطدم بها العربات الطائشة, ولا تمنحك أى خصوصية فى أن تزعق أو تسب أو تحب او حتى تهرش, كل هذا يجعل استعمالك للتليفون بمثابة جنون مطبق فأنت لن تستمع أبداً للطرف الآخر وسيتعالى صياحك ليسمعك, وفى النهاية سيخرج لك التليفون لسانه -عفواً .. الكارت- لتلقى به فى أقرب سلة للقمامة , إن وجدتها .
لعل من الأفضل أن أكف عن التفكير فآخر مرة مارست فيها هذه الرفاهية تعبت كثيراً,نعم , فكلما حاولت الخروج من محيطى اصطدم بشىء ما, لهذا أعجبتنى فكرة كابينة التليفون, فجعلت نفسى دوماً فى واحدة, أتحرك بها, أنام فيها واقفاً كالخيل والخفافيش, حتى لا أسمع ولا أرى ولا أفكر ولا اتأذى.
أعود لنفسى بعد هذه الذكريات المؤلمة, وأحمد الله على كونها ذكريات, فها هو حلمى يتحقق وأقف داخل كابينة حقيقية, أبدأ فأضع أمامى كل الكروت, أحتار طويلاً قبل أن استقر على الكارت المناسب لهذا التليفون اللامع البراق.
مهلاً!!! أى رقم سأطلب؟
أبى ؟ اذكر جيداً هذا الرجل, لقد سافر إلى العراق منذ سنين مؤمناً بفكرة الكفاح والسعى فى الأرض وقبلهما فكرة القومية العربية(!!!) قامت حروب كثيرة هناك وهو بالتأكيد مات فى إحداها لأنه لم يعد أبداً, وبالتالى فهو بلا رقم.
أمى؟ لقد بكت أبى كثيراً, كثيراً جداً, والآن تعيش مع زوجها فى مكان ما لا أعرفه, لكنى أراها كلما أكلت سندوتشات الفول , فصورها فى اجتماعات النوادى الخيرية والمؤسسات العلاجية والمجالس العلوية تملأ صفحات الاجتماعيات فى الصحف التى يستعملها عم عبده الطيب فى لف السندوتشات, ويعطينى إياها مبتسماً كلما مررت عليه, أعرف أنها بالتأكيد لديها رقم , بل أرقام, بل قد يكون معها محمول ,أو محاميل, لكنى لا أعرف لها رقم واحد.
أصدقائى؟ هؤلاء البؤساء لم التق بهم منذ زمن, وكلما قابلت أحدهم يشيح عنى بوجهه كأنه لا يعرفنى , رغم أنه يعرفنى, وعندما استوقفه بالقوة يجرى هارباً, ربما أكون تغيرت قليلاً لكنهم ما زالوا كما هم, بيوتهم بلا تليفونات, وعاطلون متسكعون على المقاهى التى لاأعرف أرقامها, أو موظفون مهمومون بمشاكل المرتب والبيت والاولاد و محاولات العيش ( مجرد محاولات العيش) ,أصدقائى جميعاً - إن كان لى أصدقاء- بلا أرقام.
إذن بمن أتصل؟
استمعت قليلاً إلى سيدة لطيفة تطلب منى فى إلحاح ان أضع السماعة وتكررها بالإنجليزية , حسناً, لملمت كروتى ونظرت من خلال الزجاج المحيط بى فوجدت جمعاً من الناس يحيطون بالكابينة ويتصايحون, ألم أقل أن هذه الكبائن المغلقة نعمة؟!!
لكن لم يتصايحون الآن ؟ هل يريدون الكلام جميعاً فى نفس الوقت ؟ ألا يعرف هؤلاء القوم النظام؟ أم أنهم يبحثون معى عن مكان أضع فيه كروتى؟
أغبياء !!! ألا يرون أنى لا أرتدى سوى جورب قصير !!!!