هي إضاءاتٌ حول ما كتبه الدكتور طارق الحبيب من تجارب وحِكَمٍ سمّاها "علّمتني الحياة".

فخطرَ ببالي أن أقفَ على بعضها وقفة عابرةً مرتجلة .. فكانت إضاءات، ولا يُزعَمُ فيها أنّها استوفتْ ما أرادَهُ صاحبها ولكنّها قراءتي الخاصّة .. وبالله سبحانه التوفيق. واليوم نقفُ على الحكمة الثانية التي قال فيها :


2- علّمتني أنّ في الحياة من يُعاديك لا لشيء ، إلاّ لأنّك غيره .
.

نعم هذا صحيح، هناك من تركبّتْ نفسيّتُهُ مع الأيام بجملة ظروف ونشآتٍ تراكمتْ عليه وتوالت منذ صغره وصباه حتى صارَ لا يرى في الدّنيا سواه، حتّى صارَ أنانياً، يريدُ أن يكونَ كلّ شيءٍ كما يريد هو، ولا ضير في تمنّي الامور كما نريد، ولكنّ الضيرَ أن نتمنّى الناس ليكونوا كما نريدُهم وإرادتنا لهم ليست تدورُ إلاّ حولَ حيّزنا نحنُ فقط ورؤيتنا للأمور، فإن خالفونا أو تميّزوا عنّا عاديناهم وحاربناهم وكرهناهم.

عوامل كثيرة برأيي تصنعُ هذه الشخصية النرجسية منها الحسد ومنها الأنانية وعبادة الأنا وترك النّفس تتربّعُ على عرشنا، فنغدو لها عبيداً. تأمرُ فنطيعُ، وتنهى فننتهي، بهواها وبمشيئتها العوجاء. والنّفسُ لا تعني بالضرورة المعصية الظاهرة، كلاّ. فالنّفس تتلوّنُ بإناء صاحبها، وتخدعُ من لم يتفطّن لها ومن لا يعرفُ خباياها .. فتدخلُ في كلّ عملٍ، حتى ما كان منه طاعة في الظاهر، فتحاولُ أن تجعل لها فيه نصيب، وتدّعي على صاحبها أنّها هي التي كانت سبباً في الطاعة وفي السّبق وكذا وكذا.

هناك النّفس وهناك الشيطان، الشيطانُ حيّز خارجيّ مخلوق مختلف هو الجنّ يرانا من حيث لا نراه، ويتجسّسُ على خواطرنا النفسية ، ومن ثمّ يحاولُ أن يخدعنا ويوسوس لنا ولا ييأس منّا، هذا هو الشيطانُ عدوّ الإنسان اللّدود، مهمّته إخراج الإنسان عن إنسانيته وعن فضائله وعن معنى الخلافة الذي توّجَهُ به الله سبحانه، هذا المعنى الذي يدورُ حول العبودية الصادقة لله سبحانه. فهذا هو الشيطان ووظيفته.

وهناك النّفس بين الأجناب، وهي أخطرُ من الشيطان، لأنّ الشيطان لا يدخلُ على الإنسان إلاّ من خلالِ ثغرات هذه النّفس وعيوبها وأهوائها.
لذلك قال إبليسُ صريحاً لمّا قال الله تعالى {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الحجر (39-42). فاستثنى الشيطانُ العباد المخلَصين، وكذلك استثنى الله تعالى عباده فقال ليس لك عليهم سلطان. أي ما كان إبليس وجنوده من الشياطين ليغووا ويوسوسوا إلاّ من كانت نفسُه بها ثغراتٍ وضعفٍ وقابلية للوسوسة والإغواء. وإبليس من أعلم العلماء بالنّفس وأخبر الخبراء لذلك استثنى العباد المخلَصين، بفتح اللام. أي الذين اجتباهم الله تعالى فخلُصُوا وصاروا من العباد الربّانيين فالشيطانُ أيِسَ منهم مطلقاً، وهؤلاء هم السابقون المقرّبون المذكورون في القرآن {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ(14)} الواقعة. هؤلاء عددهم قليلٌ، اجتباهم الله سبحانه، وهم السادة الربّانيون ذو الأخلاق المحمدية. موجودون في كلّ زمانٍ إلى يوم القيامة. والآية نعتتهم ثلّة من الأوّلين وقليل من الآخرين، لأنّ متأخّر الأزمان يكثرُ فيها الخبث وتفسدُ فيها الدّنيا والمُهَج فيقلّ بذلك هؤلاء السابقون المقرّبون. وليسوا هم العلماء الفقهاء بالضّرورة، كما يظنّ الأكثرون، بل هم رجالٌ ربّانيون صدّيقون على أقدام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قد يكون منهم علماء فقهاء ومنهم بل وأغلبهم أخفياءٌ يحسبهم البعض من عامّة النّاس وهم العباد المخلصون المقرّبون الربّانيون الأتقياء حقّ التقوى.

فحديثنا جاء عن ذكر النّفسِ ونعتِها التي تتسبّبُ في النرجسية والأنانية لنفسِها، تحيا فتغلِبُها شرنقتُها فتكرَهَ أن ترى الغيرَ، إذا صارَ هذا الغيرُ لا يُغرِّدُ داخل قفصِها وإطارِها و رؤيتِها، بل قد يكونُ الغيرُ له نفس الرؤية معها ولكنّها لا تقبلُ ذلك منه إلاّ إذا دخل تحت مباركتِها، وخرجَ من قمقمها، أنا جبّارة ونفس عتيّة تكرهُ الغير لا لشيءٍ إلاّ لأنّهم غيرُها.

موجودةٌ هذه الأصناف بحياتنا، وفي زماننا وجودُهم احتمالُه أقوى لأنّنا في زمان مريدِ عنيدٍ، النفوس فيه عتيّة والأهواء غالبة والشياطينُ ماردة قائدة، ومن هذه النّماذج طواغيت الشعوب وحكّامهم، أغلب حكّام شعوب العالم الثالث والدول العربية من هذا النّوع السّقيم النّرجسيّ، لذلك لا يقبلونَ إلاّ ما يمدحهم ويوافقهم وقد أثبتتِ الأيّامُ أنّهم قد يذهبونَ إلى أبعدِ حدٍّ من أجل بقائهم على عروشهم ومن أجل نرجسيتهم. هذا نموذجٌ فقط.

ولكنّ النّرجسية التي تكرهُ غيرها وتحاربُ وتُعادي من يجاوِرُها، موجودةٌ ليس فقط في أنموذج الحكّام والطواغيت، بل فيما ذكرناهُ من نفوسٍ نشأت على ظروفٍ خاصّة، ولم تأخذ سبيلَ الخلاص الجادّ، وسبيل التزكية النّفسية، وسبيل التواضع الإنسانيّ المحمود، فتحوّلتْ إلى كائنٍ يقضي على كثيرٍ من أسبابِ سعادتِه وهو لا يشعُرُ من أجلِ إرضاءِ نفسه العليلة.
والحديثُ عن النّفسِ يطولُ وأراني أطلتُ في الاستطراد ولم أقِفْ وقفةً قويّةً ثابتةً صحيحة في توضيح هذه الشخصية، والناصحُ الحكيمُ هنا جعلها ثانيَ نصيحة وحكمة وكأنّي به عانى من هذا الأنموذج، ولاقى الكثير في طريقه.

ولا بدّ أن يلقى النّاجحُ والإنسانُ البنّاءُ والذاهبُ في طريقِ العظماء أو طريق النّاجحين والمميّزين لابدّ أن يلتقي بهذه النّماذج، لأنّهم أعداء التميّز والنّجاح لا يحبّونه إلا في ذواتِهم ونفوسهم. لذلك جاءت الحكمة في الترتيب الثاني. قناعة توصّل لها الحكيمُ هنا أنّ هناك من يعاديك ويكرهك لا لسببٍ منطقيّ أو إساءةٍ بدرتْ منك، بل فقط لأنّك غيرُه ومختلفٌ عنه.

أودُّ الحديث عن النّفس وتلوّناتها، وخطورتها بين الأجناب، وكيف تخدعُ أشدّ النّاس ذكاءً، ومن يحسِبُ أنّه من جملة الطائعين، وهو في الحقيقة والمقياس الصحيح لا يدورُ إلاّ حول نفسه وهواه، يغذّيه ويقوّيه يوماً بعد يوم. في أكبر عملية تلبيس تتلبّسُ بها نفسُه وتتلوّنُ. فالنّفسُ تتلوّنُ بكلّ إناءٍ حتّى إناء الطاعات.

قلتُ أودّ الحديث عن النّفس ولكن أجدُني استطردتُ كثيرا. فلعلّ فرصةً أخرى يكونُ لنا فيها تفصيل وذكرٌ عن النّفس قدرَ ما نعرفُ عنها، وقدْرَ ما يتوضّحُ لنا عنها. والله الموفّق وهو يهدي سواء السّبيل.