" منهجية الحكمة السياسية "


ابن القيم رحمه الله يحدد بدقة القواعد المنهجية للحكمة السياسية يقول : " والحكمة حكمتان : علمية وعملية ؛ فالعلمية هى الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها ، خلقاً وأمراً ، قدراً وشرعاً ، والعملية هى وضع الشئ فى موضعه " هنا لابد من العلم والمعرفة والخبرة المستفيضة ، فلا انتاج حكيم وانجاز منهجى فى مجال يدخله المرء وهو جاهل به أو لم تكتمل معارفه وخبراته فيه ، ولا اقتحام لمجال أو ميدان ما دون اكتمال المعارف به تاريخاً وواقعاً ورموزاً وظاهراً وباطناً ، وبناءاً على العلم والخبرات والمواهب الذاتية يبدأ العمل ؛ فهو يتعامل بحرص وكفاءة ومهارة فائقة ، فالقرار محسوب بدقة وكل شئ فى مكانه وفى وقته دون تعجل أو تأجيل . يقول ابن القيم أيضاً : " وأساس الحكمة أن تعطى كل شئ حقه ولا تعديه حده ، ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه ، فانه لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعاً وقدراً ، ولها حدود ونهايات تصل اليها ولا تتعداها ، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر ، كانت " الحكمة " مراعاة هذه الجهات الثلاثة بأن تعطى كل مرتبة حقها الذى أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها " . الكلام هنا لابد وأن يذاكره السياسيون والاعلاميون من جميع الانتماءات جيداً ، فالعمل بمنهجية سياسية حكيمة وراشدة يقتضى مراعاة الظروف والأحوال ، ولكل شئ قدر ومنتهى فلا يصح التضخيم والتهويل والتمادى ، بل يضبط الأداء بالاحترافية فى معرفة طبيعة الأحداث وخلفياتها وأسبابها ونتائجها وحجمها ، فتتخذ القرارات فى الوقت النموذجى دون تعجل أو تأخر ، ولكل حدث حقه وقدره ووقته ، والحكمة السياسية هى التعامل مع تلك الجهات الثلاث بما تستحق من دراسة وتفاعل موضوعى حذر ومسئول . ويعود ابن القيم الى الحكمة بمفهومها المنهجى المتكامل ليهديها بشكل واضح ومبسط فى صورة قاعدة منهجية عامة فيقول : " الحكمة اذن فعل ما ينبغى على الوجه الذى ينبغى فى الوقت الذى ينبغى ، فكل نظام فى الوجود مرتبط بهذه الصفة ، وكل خلل فى الوجود وفى العبد فسببه الاخلال بها ، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثاً " . تغيب الحكمة بمفهومها الشامل المنهجى عن قرارات وممارسات الكثيرين على الساحة السياسية والاعلامية ، فهم بين متعجل يقدم على أمر خطير وقضية ضخمة فى غير أوانها ، أو متباطئ لا يضع الشئ فى موضعه ادراكاً لخطورة التهاون والتخاذل وعدم الحسم وقت الأزمات .. وتلك هى القاعدة المنهجية " الحكمة فعل ما ينبغى على الوجه الذى ينبغى فى الوقت الذى ينبغى " ، وتطبيقها يختلف بحسب العصر وظروف المرحلة ومن واقع لواقع ، فاذا لم يقدم السياسى على فعل ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى ، فلا يلومن الا تقصيره وتخاذله وقلة معارفه وخبراته . أما حديثه عن مخططات ومؤامرات وخطايا الآخرين وتجاوزات الخصوم ، فهو حديث لا تعترف به السياسة ويتجاوزه الواقع ولا يعيره أحد أدنى اهتمام ، وهذه هى السنن وتلك هى طبيعة الأشياء ؛ لأن الخلل يلحق حتماً بالسياسى العشوائى غير المنهجى ، ومن ينتظر انجازاً بلا منهجية ولا ممارسات وقرارات وأفعال حكيمة منضبطة وقتاً وقدراً ، انما ينتظر سراباً ووهماً ، لأن " كل خلل فى الوجود وفى العبد فسببه الاخلال بها – الحكمة المنهجية - ، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثاً " الحكمة هى ضابط المنهج ، ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتحرك الا باستصحاب هذا الضابط " ويعلمهم الكتاب والحكمة " ، وهى سر القوة وأداة الانجاز الفعلى .. فمن يؤتى الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً .. وهذا هو الانجاز الفعلى وثمرة منهجية الحكمة السياسية " خيراً كثيراً " .. والفشل مصير وثمرة التخبط والترهل والعشوائية والجمود والتباطؤ أو التعجل ، ومن تنزع منه الحكمة فلا ينتظرن الا الشرور والمساوئ والفشل والتيه والخيبات " شراً كثيراً " .